أجمع علماء الدين وروَّاد التصوف أن إقامة الفرائض واجتناب الكبائر أساسان ضروريان جامعان للتقوى، ولابد لكل مسلم الالتزام بهما حتى ينال التقوى وحُسن الخُلُق.
جاء ذلك خلال الليلة الرقمية السادسة والأربعين من ليالي الوصال، التي تُنظّمها مؤسسة الملتقى ومشيخة الطريقة القادرية البودشيشية وكانت بعنوان: "ثمرات التقوى وأثرها في حياة المسلم".
تم افتتاح هذا السمر الروحى كالعادة بآيات بيّنات من الذكر الحكيم تلاها المقرئ الشيخ سعيد مسلم من الدار البيضاء، لتتلوها المداخلة العلمية الأولى للدكتور سعيد بيهي، أستاذ التعليم العالي جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء ورئيس المجلس العلمي المحلي مرس السلطان الفدا -الدار البيضاء، الذي افتتح سلسلة علمية جديدة حول "العقيدة الأشعرية وأصولها"، متناولا في الدرس الأول "مدخل إلى العقيدة الإسلامية"، تطرق من خلاله الى تطور العلوم الاسلامية وأصناف الفهوم، وبيّن الخلل في الفهم والانتحال والغلو، من خلال التركيز على المظاهر في التدين دون أن يفهموا عن الله مراده، مؤكدا أن الشريعة علم بالله وشرعه، كما تتبع السياقات التاريخية والفكرية التي ستؤدي إلى ظهور العقيدة الأشعرية التي هي ثابت من ثوابت الأمة المغربية.
أما المداخلة العلمية الثانية، فكانت للدكتور رشيد اكديرة، باحث في الدراسات الصوفية، الذي دارت مداخلته حول "كلام أهل الله بين العبارة والإشارة وإشكال الفهم والتأويل"، حيث أكد على أن المعرفة الصوفية تنهل من معين المعرفة القرآنية، مؤكدا أن الصوفية حين استعملوا الرمز والإشارة إنما كان ذلك للتعبير عن أحوالهم ومواجيدهم القلبية والروحية، حيث تحولت إلى لغة حاملة لمعنى صوفي خالص.
فيما كانت المداخلة العلمية الثالثة باللغة الفرنسية من محمد السعيدي، باحث في الدراسات الشرعية والمالية من فرنسا، والتي تناولت مناسبة النصف من شعبان، مبيّنا حُرمتها وفضلها وعظمتها، داعيا إلى اغتنامها والتعرض لنفحاتها.
أساس التقوى
سرد د. منير القادري بودشيش- رئيس مؤسسة الملتقى ومدير المركز الاورومتوسطي لدراسة الاسلام اليوم- مجموعة من الأحاديث النبوية الشريفة عن التقوى، مُعرِّفا بها لغة واصطلاحا، مشيرا الى أن المرء إذا تَحَلَّى بالتقوى اتَّصَف بالإِخلاص لله في كلِّ عمل، وصِدْقٍ في اتِّباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك يصير جميل الخلق، طيِّب القول، حَسَنَ المعاشرة، سبَّاقًا إلى الخيرات، حريصا على كلِّ فضيلةٍ.
أوضح أن إقامة الفرائض واجتناب الكبائر أساسان ضروريان جامعان للتقوى، وأنه لا يَبلُغُ العَبدُ أَن يَكُونَ مِـنَ المُتَّقِينَ حَتَّى يَـدَعَ مَـا لا بَأسَ بِـهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ البَأسُ، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا إِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ أَلا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضغَةً إِذَا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَدُ كُلٌّهُ وَإِذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلٌّهُ أَلا وَهِيَ القَلبُ).
وأضاف أن الاجتناب يتطلب قبل كل شئ معرفة شرعية بالحلال والحرام ومعرفة ربانية قوية وتربية روحية ووجدانية قوامها شئ وقر في القلب وصدقه عمل الجوارح، مستشهدا بالحديث النبوي الشريف: "إذا أحبَّ الله عبدًا جعل له واعظًا من نفسِه، وزاجرًا من قلبِه، يأمره وينهاه"، وزاد أنه بهذا تتحقق خشية الله المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخشَى اللهَ مِن عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} [سورة فاطر: 28]، وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُم لِلتَّقوَى} [سورة الحجرات: 3]".
وأشار الى أن التقوى هي قطب العبادة والطاعة، وأنها براق القلوب إلى حضرة علام الغيوب، وأن من ادّعى التقوى وكان فعله يناقض قوله فقد كذب ونافق.
ولفت الى أن مقدارها فيما فرض الله على عباده "بحسب الإستطاعة"، لقوله تعالى: ”فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (سورة التغابن: 16)، وأن السبيل إلى التقوى مراقبة النفس ومنعها عن إتباع أهوائها، وهى الضابط لجميع السلوك الإنساني في مضمار هذه الحياة، مذكِّرا بقوله تعالى في محكم تنزيله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201].
وأكد د. القادري أن التقوى هي أجمل لباس يتزيّن به العبد، مصداقا لقوله تعالى في سورة الأعراف: {يَا بَنِي آدَمَ قَد أَنزَلنَا عَلَيكُم لِبَاسًا يُوَارِي سَوآتِكُم وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقوَى ذَلِكَ خَيرٌ} [الآية62].
وذكر مجموعة من الأسباب التي تؤدي الى حصولها، منها تعظيم شعائر الله، مستشهدا بقوله عزَّ وجلَّ: {وَمَن يُعَظِّم شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ} [الحج،32]، موضحا أن هذا السبب مرتبط بمعرفة الله -سبحانه- والإيمان به والتوسع في طلب العلم الشرعي، وامتثال أحكام الدين والمحافظة على الفرائض والإكثار من النوافل ومجاهدة النفس واجتناب الشبهات، وأشار الى سبب آخر يؤدي الى تحصيلها، يتمثل في التواضع ومعرفة حقيقة النفس واليقظة تجاه الحظوظ النفسانية، وتجديد الحياة الروحية والقلبية بالمعية الصادقة وبدوام الذكر وباستمرار التفكر في الآيات الكونية وتدبّرها، وزاد أن من أسبابها كذلك نبذ العنف والتطرف وعدم العدوان وإيذاء الخلق، لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البرِّ وَالتَّقوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ} [المائدة: 2]
ونبَّه الى أن التقوى هي مجمع الفضائل والبرهان على قيمة الإنسان وكرامته، في الدنيا والآخرة، مستدلا بقوله تعالى: {إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقَاكُم} [سورة الحجرات، 13].
ولفت الى أن الله أمر عباده بالتقوى مائتين وثماني وخمسين مرة في آيات القرآن الكريم، منها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)، وقوله: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة).
وأشار الى أن للتقوى فوائد لا تعد ولا تحصى، مبرزا مجموعة من هذه الفوائد، منها جلب مرضاة الله سبحانه، وأن الله يرحم صاحبها في الدنيا والآخر، وينصره ويؤيده في الخير، إضافة إلى نيل الأجر العظيم، والتوسيع في الرزق والتفريج عن الكرب والأمن من الأهوال والصلاح في أحواله، ونيل الفوز في الدنيا والآخرة مصداقا لقوله: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).
أضاف: التقوى هي ميزان الكرم عند الله تعالى فالمتقي هو أكرم الناس عند الله، مصداقا لقوله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
وجرد آثارا للتقوى منها، أن المسلم يكظم الغيظ ويعفو عن الناس ويحسن إليهم، و يصبر دائما ويقوم بما أمره الله ويجتنب عما نهاه الله، ومع ذلك يتوب إليه ويستغفره، وأضاف أن من آثار التقوى أن الأنسان يجتنب أفعال السوء و الباطل ولا يتبع خطوات الشيطان، وأنه يصاحب الصالحين ويبتعد عن جلساء السوء، ويشغل نفسَه في الأعمال الصالحات.
وأكد أن "السادة الصوفية السالكين طريق التربية الإحسانية العرفانية، من تَّوجِهُوا إِلى رَبِّهِم وَخَالِقِهِم وَمَن بِيَدِهِ الأَمرُ كُلُّهُ، فَسَبِّحُوا بِحَمدِهِ وَذكُرُوهُ عَلَى كُلِّ أَوقَاتِهِم وَفي جَمِيعِ أَحوَالِهِم، وَلم يَغفَلُوا عَنهُ وَلم يَنسَوهُ، وَلم تَشغَلَهُم عَنهُ أَعرَاضُ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَزِينَتُهَا وَمَتَاعُهَا، حتى نالوا مرتبة و مقام التَّقوَى و نالوا رضاه و معرفته، (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة282 )".
واختتم مداخلته بالتأكيد على أن التراث الصوفي المغربي باعتباره مقوما من مقومات الهوية الدينية للمملكة المغربية، له دور فاعل في ما حققته وما ستحققه الأمة المغربية من نجاح وتَمَيُّزْ في بعدها الديني والحضاري ونهضتها الشاملة التي تشهدها جميع القطاعات بفضل السياسة الرشيدة والقيادة الحكيمة لأمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، عمادها واعتمادها في ذلك سواعد ابنائها من رجال ونساء برهنوا للعالم أجمع وفي جميع المياديين عن قيمهم الأخلاقية والإنسانية العالية وأصالة معدنهم وعلو كعبهم.
أدب المريد
فيما كانت المداخلة الأخيرة في هذا السمر الوصالي للدكتورة رشيدة عزام، خبيرة في المالية ومتخصصة في التصوف، مسترسلة في سلسلة "ما يلزم من الآداب لدخول حضرة رب الأرباب"، حيث خصصت درس هذه الليلة لأدب المريد مع الشيخ المربي، مبينة أن صحبة الشيخ تزرع الأدب في المريد، فهي منة من الله موردة مقولة لابن عطاء الله السكندري "سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يصل إليه"، مشيرة إلى أن صحبة العارفين تقتضىي آداب من يجالس أهل الله، وذلك قصد الانتفاع من صحبتهم. بعد ذلك، تم عرض شريط تربوي حول خلق كظم الغيظ، وتخللت هذه الليلة الروحية كالعادة وصلات من السماع والمديح الصوفي لمنشدين من المغرب( سلا، القنيطرة، مداغ) ومن الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب مشاركة المجموعة الوطنية للمديح والسماع وبرعمات الطريقة بمذاغ. واختتمت أطوار هذا السمر الروحي بفقرة خصصها إبراهيم بن المقدم لفضل شهر شعبان وخاصة ليلة النصف منه.
اترك تعليق