شهدت ليالي الوصال الرقمية الموسومة بعنوان "ذكر وفكر في زمن كورونا"، ومؤسسة الملتقى بشراكة مع مؤسسة الجمال، فى نسختها الرابعة والأربعين، مطالبات بتجديد الخطاب الصوفى، والعمل الصوفى المشترك فيما بين الطرق الصوفية، لتقوية ونشر الوعي والمنهج الصوفى، الذى أصبح العالم أجمع فى أمس الحاجة إليه لإنقاذ البشرية مما تعانيه من أزمات وتحديات اليوم.
شارك فى الليلة ثُلَّةٌ من العلماء والمثقفين والمنشدين، كما تم خلاله عرض شهادات حية لمريدي الطريقة من داخل المغرب وخارجه، أبرزوا من خلالها تجربتهم الدينية والروحية في أحضان الطريقة القادرية البودشيشية ودورها في تحليهم بالأخلاق الحميدة وتحقيق السعادة الباطنية لاسيما الشباب منهم، ومن ضمن الشهادات التي تم إدراجها في هذه الليلة شهادة كل من د. منير بولاتروس- أخصائي جراحة الأسنان من ستراسبورغ (فرنسا)- البروفيسور تامر محمود- من لندن- إضافة الى شهادة السيد عبدالله ميشال، من مارسيليا (فرنسا).
في البداية كان لمتتبعي ليالي الوصال موعد مع النقل المباشر لحصة من "ذكر الفرج"، مباشرة من الزاوية الأم بمداغ، لتفتتح فعاليات الليلة بتلاوة آيات بيّنات من الذكر الحكيم، تلاها المقرئ عمر بديح- من مدينة كلميم، جنوب المغرب- لتعقبها المداخلة العلمية الأولى للدكتور محمد كوحيلة- أستاذ التعليم العالي بجامعة القاضي عياض بمراكش- وتمحورت حول ''الأبعاد الروحية والسلوكية لمعجزة الإسراء والمعراج''، بيَّن من خلالها أنها من المعجزات والآيات العظيمة التي تفضّل بها المولى سبحانه على نبيّه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تبيانا لفضله ومكانته، وأبرز فضل ومكانة الصلاة في الاسلام ارتباطا بالمعجزة، ليختتم كلمته بالتطرّق الى الأبعاد الروحية لهذه المعجزة.
لتتلوها الكلمة العلمية الثانية للدكتور إبراهيم حدكي- باحث مختص في المالية التشاركية، وخطيب وواعظ- وكانت عبارة عن "مدخل في فقه المالية التشاركية"، أبرز عالمية وشمولية الشريعة الإسلامية، وخصائصها التي تجعلها قادرة على استيعاب مستجدّات وتغيّرات حياة الانسان، مبرزا مميزات فقه المعاملات المالية الاسلامية ومقاصدها وبعض اساسيات الاجتهاد المالي الاسلامي.
فيما واصل د. حكيم فضيل الإدريسي- أستاذ التعليم العالي بجامعة الحسن الثاني، ورئيس المجلس العلمي المحلي بأنفا الدار البيضاء- من خلال المداخلة الثالثة تقديم "إضاءات حول قواعد الشيخ زَرّوق في التصوف"، مبيّنا الدور التربوي للسماع والمديح في تهذيب النفوس وإثارة كوامنها، وتهييج مكنونات القلب، وإنهاض الهمّة وتحريك للباطن، مشيرا الى أن السماع عند الصوفية، ليس بالشعر او الدندنة بين الأذن والنفس، وإنما هو دروس علمية توجيهية، باطنية وجدانية، كما أبرز علاقة الوجد أو الحال بالسماع كتعبير عن صفاء القلوب وتذوّقها لحلاوة التوحيد.
وتحدث د. منير القادري- مدير مؤسسة الملتقى ورئيس المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم- عن "التربية الصوفية والاستثمار في الرأسمال البشرى"، فاستهلَّ مداخلته بالتأكيد على أن الشريعة الإسلامية كانت ومازالت صالحة لكل زمان ومكان، بمبادئها الربانية الحكيمة وبعقيدتها الخالصة في توحيدها وتوجهها، وأنها تهدف إلى تربية الناس داخل هذه المنظومة الكونية على المبادئ الأخلاقية السمحة، وإخراجهم من حظيرة الشهوات النفسية واتباع الهوى إلى عبادة الله، والفناء في ذكره والتوجَّه إليه سلوكا ومنهجا.
أضاف: إن التصوف الإحساني مهمّته الدعوة إلى الله، تحقيق السمو الأخلاقي والروحي المنشود، ترسيخ أواصر التعامل الأخلاقي بكل مقوماته، تنوير القلوب وترشيدها من مزالق الزيغ والانحراف، حفظها من نوازع الهوى، وذلك بإصلاح القلوب العليلة وتزكيتها بأنوار المعرفة الربانية وإرجاعها إلى طريق الله المستقيم.
وذكَّر بأقوال عدد من العلماء، منها قول الإمام المحاسبي: "ثم وجدت أن سبيل النجاة في التمسّك بتقوى الله وأداء فرائضه، والورع في حلاله وحرامه وجميع حدوده، والإخلاص لله تعالى بطاعته والتأسّي برسول الله صلى الله عليه وسلم".
وأشار د. القادرى، الى أن هذا المعنى هو الذي جاء به الأوَّلون الذين نهلوا من هذه المعاني وسهروا على غرسها في الناس، لإنشاء جيل صالح متحقِّق برُقي التعامل والإخلاص، وأن هذه المعاني الجوهرية الخاصة لا يفهم معانيها وتوجّهاتها إلا من كان له دراية بهذا المعنى.
وتطرّق الى التعاريف المتعددة لمفهوم التصوف، مشيرا الى أن المستشرق نيكلسون في كتابه التصوّف الإسلامي وتاريخه، ألفى ما يربو عن التسعين تعريفا للتصوف، ليخلص المحاضِر الى أن التصوف يعتني بالقلب الإنساني باعتباره المحلّ الذي تتجلّى فيه معرفة الله، ومن ثمّ تنعكس أنوارها في عقل المتصوّف المسلم المُحسن وفي نفسه وروحه.
واستطرد أن هذا لا يتحقق إلا بمجاهدة النفس، وإلزامها بالمداومة على أذكار وأوراد، مع الاجتهاد الدائم في الطاعات والعبادات، في إطار الصحبة وبذل الجود والعطاء للخلق والتَهَمُمُ بهمومهم.
ولفت د. القادري الى أن التصوّف المعاصر وشيوخه أمام تحدي بَعْثِهِ من جديد، وإحياء وظيفته المركزية في تزكية النفوس وإصلاح المجتمعات، عن طريق تجديد الخطاب الصوفي بما يتلاءم ومقتضيات العصر، انطلاقا من مقولة "الصوفي ابن وقته".
أضاف: إن واقعنا المعاصر المتأزِّم في حاجة إلى تصوّف إحساني وتربية روحية تكون لها بصمة واضحة في مجتمعاتنا المعاصرة، تصوّف قادر على إعداد جيل متصوّف ومتعلّم للعلوم الشرعية والعلوم المتنوّعة الأخرى، يعم بخدمته الجميع بغض النظر عن أديانهم ومعتقداتهم، ويشمل بمعروفه من يستحقه ومن لا يستحقه، إنسان يوازن بين بُعده المادي والروحي، ليخدم حاضره ويصنع مستقبله، وهو ما ينسجم مع المفهوم الجديد للرأسمال اللامادي ببُعده الروحي والأخلاقى.
وزاد: أن هذا لن يتأتّى إلا إذا انتظم الصوفية ونَظّمُوا عملهم ومجهوداتهم وفق معايير تتطلّبها مقتضيات العصر، تجمع بين الأصيل والحديث، من خلال العمل على إيجاد هيئات تنسيقية وأُطر مؤسَّسية تجمع الطُرق الصوفية المختلفة، وإنشاء مشاريع رائدة في التعليم والإعلام والعمل الخيري، كنموذج للعمل الدعوي والإصلاحي والاجتماعي والتضامني، وإنشاء معاهد للدراسات الإسلامية وعلوم القرآن، تعنى بتدريس وتخريج الطلبة والعلماء الذين يعملون على نشر قيم الوسطية والاعتدال والفهم الصحيح لديننا الحنيف ولمقاصده الشرعية بعيدا عن كل غلو وتطرف، والاهتمام بمشاريع تمكِّن الطرق الصوفية من تقديم النفع المجتمعي والوصول لعامة الناس والتأثير إيجابا على حياتهم اليومية عن طريق القيم الأخلاقية والعمل التضامني، وضرورة إنشاء المدارس التعليمية الشاملة التي تجمع بين العلوم الشرعية وعلوم العصر، لاستعادة الدور الإصلاحي للتصوف من المهد إلى اللحد.
وشدّد على أن "التصوف ليس أذكارا وأورادا وخلوات وسماعا ومديحا فقط، بل قول وفعل، علم وعمل، وأن التصوف يقوم على التحصيل العلمي، والاهتمام بالمجتمعات وإصلاحها وتقديم يد العون ومساعدة المحتاجين والمعوزين".
أوضح أن التصوف هو علم الإخلاص الباطني الذي يهتم بصناعة الإنسان؛ من خلال إعداده إعداداً متكاملاً دينياً ودُنيوياً في ضوء مصادر الشريعة الإسلامية، ووفق منظور التحقّق بمقامات أولياء الله الصادقين في مقامات القرب واليقين.
وأكد أن التصوف المغربي الذي تُجمع عليه الأمة المغربية المبني على حب النبي واقتفاء أثره والاقتداء به والإخلاص لله في العمل كله، تتجاوز قيمته الوظيفة التاريخية أو الاجتماعية أو النفسية، إلى النظر إليه باعتباره مقوّما أساسا من مقوّمات الهُوية المغربية الأصيلة، وخاصة في بُعدها الديني والحضاري، القائمة على ثلاثة مبادئ أساسية، هي: العقيدة الأشعرية والفقه المالكي وتصوف الإمام الجُنيد، وإمارة المؤمنين باعتبارها الضامن الذي يحمي هذه الهُوية ويعمل على تقويتها والحفاظ عليها ورعايتها وضمان استمراريتها .
عبادة الفرج
واستكمل د. محمد الحافظ الروسي- أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الانسانية بتطوان- في المداخلة العلمية الخامسة، موضوعه حول "انتظار الفرج عبادة"، حيث أكد على فضل الصبر والتسليم والرضى بالقدر عند الابتلاء، لما فيه من احتساب الأجر، وتربية النفس والفوز بالرضا والرجوع إلى الله.
كما قدَّم د. علي زكي، فقرة "كلمة الطريقة" باللغة الانجليزية، حول موضوع "قيم الإخلاص والوفاء وأثرها على الفرد والمجتمع''، وتم عرض شريط فيديو توعوي تحت عنوان ''قيمة الإتقان''، أبرز أهمية إتقان العمل كقيمة إسلامية كبرى، إذ به تعظم الأعمال ويثقل وزنها، وأن العبرة في الآخرة بقيمة الأعمال ووزنها لا بكثرتها سواء كانت تعبّدية أو سلوكية أو معاشية.
وتخلّلت الليلة الروحية وصلات من السماع والمديح الصوفي لمسمعين من داخل المغرب وخارجه، ويتعلق الأمر بالمنشد بلال الحموي من تركيا، بالإضافة الى المجموعة الوطنية الرسمية للطريقة القادرية البودشيشية ومجموعات السماع للطريقة بكل من الولايات المتحدة الامريكية وليبيا وكلميم (المغرب)، إلى جانب مشاركة برعومات الطريقة القادرية البودشيشية.
واختتمت أطوار هذا السمر الروحي بفقرة "من كلام القوم"، خصَّصها إبراهيم بن المقدم، لعرض دُرر وشذرات من كلام العارفة بالله "فاطمة النيسابورية.
اترك تعليق