طالب خبراء وعلماء التصوف بنبذ العزلة، مؤكدين ضرورة مخالطة الناس ومعايشتهم قضايا حياتهم ومشكلاتهم اليومية، لأن الدين ليس انعزالا عن الخلق وإنما مشاركة لهم وتعاونا على السراء والضراء، وضربوا المثل والقدوة بسيد الخلق، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذى كان فى عون المحتاج، وفى خدمة أهله، محذرين من حالة الفراغ الروحي الذي تعانيه البشرية حالياً، وما يؤدي إليه من احتراب وتصارع، مقدمين المنهج المؤهل لسد هذه الفجوة، ممثلا في المنهج الصوفى، بما يحمله من صفات الإحسان وحب الآخر تقربا إلى الله.
جاء ذلك خلال فعاليات ليالي الوصال الرقمية التي دأبت مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى على تنظيمها تحت شعار "ذكر وفكر في زمن كورونا"، بالشراكة مع مؤسسة الملتقى، مع الاحتفال باليوم العالمي للمرأة، وذلك من خلال تنظيم النسخة الثالثة والأربعين والتي بثت عبر المنصات الرقمية الرسمية لمؤسسة الملتقى، وعرفت هذه الليلة الروحية فقرات متنوعة ساهم في تأثيثها ثُلَّة من العلماء والمثقفين والمنشدين المتميزين، مع عرض اشرطة علمية وتوعوية متنوعة.
استهل السمر الروحي بتلاوة عطرة للقارئة المقتدرة كوثر النقاد- الفائزة بجائزة الأولى في الملتقى الوطني للقرآن الكريم، الذي نظمته الطريقة القادرية البودشيشية خلال الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف- لتتلوها المداخلة العلمية الأولى التي قدّم من خلالها د. عبدالرزاق تورابي- أستاذ التعليم العالي بالرباط- كلمة حول المرأة الصوفية والمرأة في الاسلام بصفة عامة، بمناسبة ذكرى احتفائها باليوم العالمي للمرأة، مستحضرا بذلك منهج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأهم مواقفه مع المرأة وكيف كان خُلُقُه مع نسائه، ونساء المؤمنين، والأرامل، والإماء...، وكيف كانت صفاته تجاههن، مع استحضاره بعض نماذج النساء البارزات في مجالات الولاية والاصلاح في المشرق والمغرب، ودورهن الفعال في بناء المجتمع.
وكانت المداخلة العلمية الثانية، من تقديم د. رشيدة عزام- من مدينة الرباط، استاذة جامعية متخصصة في الاقتصاد والمالية واطار في البنك الافريقي للتنمية- فتحدثت عن أعظم أبواب الدخول لحضرة الله تعالى وحلية من أجمل الحُلَل التي ينبغي ان يتزين بها المرء مع الحق والخلق، موضحة أن كل الآداب تتلقى من رسول الله؛ فإنه مجمع الآداب ظاهرًا وباطنًا، مستدلة بقولَ رَسُولُ اَللَّهِ: «اَللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِي، فَحَسِّنْ خُلُقِي».
الفراغ الروحى
وتناول د. منير القادري- رئيس مؤسسة الملتقى ومدير المركز الاورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم- في مداخلته موضوع "أزمة الفراغ الروحي والحاجة إلى التربية الإحسانية"، فاستهل مداخلته بالحديث عن الروح، مبيّنا أن الانسان روح وجسد، وأنه كما للجسد احتياجاته ومستلزماته، فإن للروح تطلعاتها وتأثيرها الكامل على سير الجانب المادي في حياة الإنسان، حتى لو توفّرت للإنسان كل الاحتياجات المادية سيظل يعيش الخواء والجوع الروحي، إذ لا استقرار للحياة إلا بالتوان بينهما.
وأكد ضرورة اتصال الروح بما فوق المادة أي بالقوة المطلقة التي لا حدّ لها وإليها مرجع الأمور، مستشهدا بقوله تعالى في الآية 23 من سورة لقمان: (وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ ۚ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).
أضاف: أن الروح تحتاج إلى الطمأنينة والثقة والرضا وراحة الضمير والوجدان، بعكس الماديات التي لا توفر للإنسان السعادة والاطمئنان والاستقرار، وزاد أن نور الإيمان هو السبيل الأوحد للعلاج ومسايرة ما نحتاجه في هذا الزمن القاسي المشبع بالمادة والاستهلاك؛ مستشهدا في سبيل ذلك بمجموعة من الآيات من الذكر الحكيم، وأقوال المفكرين والباحثين، منها ما قالته الشاعرة العراقية "نازك الملائكة" المتخصصة في مقارنة الأديان، بجامعة ويسكونسن- ماديسون بأمريكا: "كنت متشائمة، لأنني كنت ملحدة، وكنت أنظر إلى هذه الحياة التي نحياها نظرة تراجيدية، يعيش الإنسان فيها حياة تراجيدية، لكني عندما عدت إلى الإيمان والإسلام، وقرأت القرآن العظيم، والحديث النبويّ، عادت إليّ الحياة طلقة بهيجة، وعدت إليها متفائلة، وعرفت يقيناً أن هذه الحياة التي نحياها ليست إلا مَمَراً لدار أبدية، دار الخلود في الجنة للمحسنين، والنار للمسيئين".
وأكد د. القادرى أن الملذَّات الحسّيّة لا تخترق غشاء القلب، مذكّرا بانتحار عدد كبير من المفكّرين والأعلام ومنظّري هذا العالم، رغم بلوغهم أغلى درجات الدخل والسُمعة والشُهرة، بسبب عدم معرفتهم بربّهم وسرّ وجودهم.
ونبّه الى أن الفراغ الروحي يشكّل مرضا خطيرا أشد من الأمراض العضوية لتأثيره على الحياة الدنيوية والأخروية معا، حيث تتحول معه الروح الى صحراء قاحلة، خارجة عن حقيقتها ومقصديتها وهدفها المنشود.
وأشار إلى أن "عدم الاكتراث بأهمية السياسة التربوية والأخلاقية الإسلامية المنفتحة داخل بيوتنا، أسهم في تهيئة التربة الملائمة لنمو بذور الفراغ النفسي والعقائدي في مجتمعاتنا؛ من خلال اكتفاء الآباء بالتركيز على تعليم الأبناء الجانب العبادي الطقوسي المظهري فحسب، الأمر الذي ساعد مع مرور الوقت في خلق تصوّر فكري خاطئ عن الدين، يقوم على اعتباره مجرّد عبادة مظهرية شكلية طقوسية خالية من أي جوهر أو مضمون روحي وأخلاقي" .
ولفت الى أن هيمنة الحياة المادية على كل ما هو معنوي وروحي أدى إلى خلل حضاري، وخلل في التوازن بين مطالب الروح والجسد، مما زجّ بالإنسانية كلها في حياة ملؤها ثقافة الاستهلاك والاغتراب واللاهوية ،ففقدت بذلك متطلبات الأمن الحضاري.
وأوضح ان المقصود من استعراض مكامن الضعف والخلل في الحضارة المادية ليس هو رسم صورة سوداء عنها أو التشهير بأوضاع تلك المجتمعات، فهي حضارة تفرض هيمنتها على واقع الحياة بإنجازاتها العلمية والتكنولوجية، وأن من واجب مجتمعاتنا الالتحاق بها، مشيرا الى أن المطلوب هو التمييز والفرز بين نقاط القوة والضعف في هذه الحضارة المادية لندرك أهمية الجانب الروحي الذي يؤدي تجاهله الى القلق والاضطراب الاجتماعي وبالتالي ضنك العيش وشقاوة الحياة، مستشهدا بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾[سورة طه الآية124]، بينما التوازن والتكامل في تلبية احتياجات الإنسان في توجّهاتها المادية والعقلية والروحية، يضمن للإنسان حياة طيبة سعيدة، مستدلا بقوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [سورة النحل الآية97].
الحصانة الإنسانية
وأكد د. القادرى أن الجمع بين المعرفة العقلية والعرفان القلبي يضمن للإنسان الحصانة والوقاية من كل زيغ وانحراف، وتشكيل بنية تحتية أخلاقية تصلح كأساس للبناء الاجتماعي المتماسك، فتكتمل بذلك أهم شروط الأمن الروحي الذي لا مناص منه لتحقيق الأمن الحضاري، وأن هذا ما يقوم عليه المنظور الصوفي الاحساني الذي يجمع بينهما في ترابط وتكامل.
وبيَّن معنى "أن تكون صوفيا هو أن تصير إنساناً يَسْعَى فِي حياتِه بين الذّكر والفِكر، امتلأَ قلبُهُ حُبًا، وفاضَ رحمةً وجمالًا، إنسانًا يرى الجمال فِي أدقّ تفاصيلِ حياتِه، وأنْ تكونَ صُوفيّاً مسلما محسنا معناهُ أنْ تعمُرَ الأرضَ بِفكرك، وتناجِي مولاك بذكرك".
وأضاف: "أنْ تَكونَ صُوفيّاً معناهُ أنْ تَكونَ إنسانًا يُحاكِي أصلَ الفِطرة، يدأبُ فِي نفعِ البشريّة وإغاثة كُلّ مَلهوف، يجدُ فِي كُلّ إنْسانٍ جُزءَهُ الضّائِع، وشيئًا مِنْ شَتاتِه المَفْقُود، فتكتمِلُ بِكُلّ إنْسانٍ نَفْسُه، يجودُ بماءِ عينِه على كُلّ ظمآن، فهو الذي أخرجَ الدّنيا مِن قلبِه، وبسطها فِي كفّه، فما عادتْ تساوِي عِندَه إلّا كما تُساوِي حفنةُ الرمْل عِندَ أعرابيٍّ فِي صَحراء".
واختتم بالتذكير بأن التراث الصوفي الروحي المغربي غني بالكنوز التي تسر الناظرين وتحيي القلوب التي ماتت والتي ترمي لإحياء الرسالة المحمدية الخاتمة وتسير بالإنسان إلى مدارج ومنازل تلوى الأخرى حتى يبلغ المنتهى في بستان العارفين وجنة رب العالمين، مؤكدا ضرورة إيجاد مدخل جديد للتنمية الأخلاقية يقوم على منح ثوابتنا القيمية والأخلاقية معنى واهتمامات جديدة بغية التخفيف من حدة وطأة التخلف الذي يجتاح حياة المسلم، مشددا على ضرورة تفعيل هذه القيم الأخلاقية لديننا الحنيف في إطار التقوى ومكارم الأخلاق لدورها في صلاح وإصلاح الفرد والمجتمع وازدهاره.
فيما حملت مداخلته الثانية باللغة الفرنسية عنوان: « Les valeurs de fidélité et de respect des engagements pour l'établissement d'une société équilibrée et harmonieuse».
المعرفة الصوفية
أما المداخلة العلمية الثالثة فكانت مع د. محسن الطاهري- من مدينة بركان، استاذ باحث في الدراسات الاسلامية- تحدث عن المعرفة عند الصوفية، مبرزا في ذلك مجموعة من المعالم التي اختص بها التصوف ومشايخ التربية.
بعد ذلك قدم د. إدريس شارغيي، كلمة باللغة الانجليزية حول كلمة الطريقة حيث تناول فيها جملة من المعالم المعنوية والتربوية التي تزخر بها الطريقة القادرية البودشيشية والطرق الصوفية عموما.
وتخللت هذه الليلة الروحية وصلات من المديح الصوفي لمسمِّعين من داخل وخارج المغرب، ويتعلق الأمر المنشد حكيم خيزران، ومجموعة السماع والمديح للطريقة القادرية البودشيشية بكل من الدار البيضاء وكلميم، ومكناس، الى جانب مشاركة المجموعة الرسمية للمديح والسماع للطريقة البودشيشية بالمغرب، اضافة الى مجموعة برعمات الطريقة بمداغ.
كم تم عرض شهادات حيّة لمريدي الطريقة من جنسيات مختلفة، حول تجربتهم الروحية وثمار التربية التي تلقّوها في أحضان الطريقة القادرية البودشيشية، منها شهادة السيدة سريا عيوش من باريس، التي تحدثت عن فضل الطريقة، وأثرها في فهمها لكتاب الله تعالى، وشهادة السيد استيفان لونكو، وكذلك شهادة السيد المهدي فرنسي تونسي الأصل الذي تحدث بدوره عن تجربته الروحية وفضل الصحبة.
وتم عرض مجموعة من الأشرطة التثقيفية والتوعوية، منها شريط وثائقي تعريفي بجهود والمنهج التربوي للشيخ الراحل الحاج حمزة البودشيشي باللغة الانجليزية تخللته ترجمة مكتوبة باللغة العربية، كما تم عرض شريط وثائقي حول المرأة جوهرة المجتمع، ثم شريط وثائقي يتحدث عن سيد التابعين أويس القرني.
كما قدم الطبيب عبداللطيف الجناني- من مدينة طنجة- في فقرة التوعية الصحية مجموعة من النصائح والتوجيهات حول لقاح فيروس كورونا وضرورة الانخراط الفعال لجميع المواطنين واستكمال جميع مراحل اللقاح الموصي به من طرف الوزارة الوصية مع الاستشارة الدائمة مع الطبيب بالنسبة لفئات المواطنين المصابين بأمراض مزمنة، مع ضرورة التزام الجميع بالتدابير الوقائية والاحترازية المعمول بها.
وفي ختام أطوار هذا السمر الروحي قدم إبراهيم بلمقدم- الباحث بمركز أجيال التابع للرابطة المحمدية للعلماء- فقرة من كلام القوم "شذرات من كلام العارفة بالله رابعة العدوية".
اترك تعليق