أكد علماء وخبراء التصوف أن البُعد الروحي للإسلام الذي يمثّله التصوف باعتباره مقام الإحسان القائم على جهاد النفس وتزكيتها باتّباع القدوة الحسنة، هو الكفيل بأن يصلح دواخل قلوبنا وينمّي في مجتمعاتنا فضيلتي الإخلاص والصدق في مقاصدنا، وبالتالى تنمية ونهضة مجتمعاتنا الإنسانية.
جاء ذلك خلال مشاركته في النسخة الأربعين من فعاليات "ليالي الوصال"، التي تنظمها مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى، بشراكة مع مؤسسة الجمال، والتي بثت أطوارها عبر المنصات الرقمية لمؤسسة الملتقى.
عرفت الليلة الروحية مشاركة ثلة من العلماء والمثقفين والمسمعين، كما تم خلالها عرض شهادات حية لمريدي الطريقة من داخل المغرب وخارجه، أبرزوا من خلالها الأثر الإيجابي للتربية الصوفية التي يتلقونها في الطريقة على حياتهم، ومن ضمن الشهادات التي تم إدراجها في هذه الليلة شهادة كل من غابريل آسيا باستور من مدينة لييون، ولوغ ودي إكو من فرنسا.
افتتحت الليلة بآيات بينات من الذكر الحكيم تلاها المقرئ بلال حموي من تركيا، لتتلوها المداخلة العلمية الأولى للدكتور حكيم فضيل الإدريسي أستاذ التعليم العالى جامعة الحسن الثاني كلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن مسيك بالدار البيضاء ورئيس المجلس العلمي المحلي أنفا، حول موضوع "الذكر وأحكامه"، استرسالا لتقديمه "قواعد التصوف" للشيخ زروق، حيث بين أهمية الذكر الذي لم يخص بوقت، مبينا ملازمة الذاكر للمذكور وملازمة المذكور للذاكر، مستندا في ذلك إلى قواعد الأصوليين، مستدلا على جواز الجهر بالذكر والذكر بالسبحة.
أما المداخلة العلمية الثانية، فكانت للدكتور محمد أمين الغويلي، أستاذ باحث في العلوم الشرعية والتصوف من مدينة مراكش، تحت عنوان "تعريف التصوف وحكمه: وقفات وإشارات"، بين من خلاله ماهية التصوف الذي يحوم حول مقام الإحسان، وأنه بلغت تعاريفه الألفين كما أشار الشيخ زروق، وأوضح أن هذه التعاريف تأتي في سياقات تعليمية وتربوية وحسب المقامات والأحوال، وأشار الى أن حكمه هو الوجوب من منطلق مجاهدة النفس وتهذيب الروح وحملها على الاستقامة على الشرع، ومندوب من منطلق تحصيل فضائل الأعمال.
الصدق والإخلاص
تلتها المداخلة الرابعة للدكتور منير القادرى- رئيس مؤسسة الملتقى ومدير المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم- حول موضوع "التربية على فضيلتي الصدق والإخلاص وأثرهما على الفرد والمجتمع"، استهلها بالتأكيد على أهميتهما، وأبرز أن الصدق هو طريق الله الأقوم، وأن الإخلاص هو روح الأعمال ومحك الأحوال، وباب الراغبين في الوصول إلى حضرة ذي الجلال والإكرام، مستشهدا بنصوص من الكتاب والسنَّة وأقوال العلماء، كقوله تعالى: "وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا" (الإسراء-80)، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الشيخان، "عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، ومَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ ويَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وإِيَّاكُمْ والْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، ومَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ ويَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا".
أوضح أن تحقيق هاتين الفضيلتين، مرتبط بسلامة القلب وصلاحه، مصداقا لقول النبي «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».
واستطرد د. القادرى، مبينا أن القلب هو ملك الجوارح وله تتبع، وأنه كثير التقلّب والتحوّل، ولا يمكن إدراك مراتب الصدق والاخلاص إلا بجهاد القلب، موردا في هذا الصدد حديثا نبويا شاملا لكل هذه المعاني، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "خير النَّاس ذو القلب المخْمُوم واللِّسان الصَّادق، قيل: ما القلب المخْمُوم؟ قال: هو التَّقِيُّ النَّقِيُّ الذي لَا إثم فيه، ولَا بَغْي ولَا حسد، قيل: فمن على أَثَــرِه؟ قال: الذي يَشْنَأُ الدُّنيا ويحبُّ الآخرة. قيل: فمن على أَثَرِهِ؟ قال: مؤمن في خُلُق حسن"، إضافة الى مقولة لابن القيم: "فحامل الصدق كحامل الجبال الرواسي لا يطيقه إلا أصحاب العزائم.
وأكد د. القادرى أن الإخلاص هو التزام بالمواقف والصدق والثبات عليها، مع ضرورة الابتعاد عن الشرك والرياء، وعدّد بعضا من أمارات المخلصين الصادقين، كحفظ الأمانة والجد في العمل وحسن المعاملة، ومقدما بعض النماذج للإخلاص كإخلاص المعلّم في تدريسه وتربيته للناشئة وإخلاص المواطن لوطنه.
وأضاف: إن إخلاص الناس من أكبر عوامل تقدم ونهوض الأمم، من خلال التضحية بالوقت والصحة والمال، وليس العكس، وزاد أن من علامات المخلصين الصادقين سلامة القلب والجوارح وبذل الخير وكف الأذى.
ونبَّه الى أن إفساد نهضة الأمم يكون بإنتاج الإنسان النصف، الذي يكون شديد الإلحاح في طلب الحقوق، وفي نفس الوقت متثاقلا في القيام بالواجبات كما وصفه مالك بن نبي.
وأشار إلى أن البعد الروحي للإسلام الذي يمثّله التصوف باعتباره مقام الإحسان القائم على جهاد النفس وتزكيتها باتّباع القدوة الحسنة، هو الكفيل بأن يصلح دواخل قلوبنا وينمّي في مجتمعاتنا فضيلتي الإخلاص والصدق في مقاصدنا، حتى يعمل القلب والعقل معا في تكامل.
واختتم د. القادرى مداخلته بالتأكيد على أنه لا يمكن تحقيق تنمية مستدامة ولا تقدم شمولي أو نجاح في أي مشروع فيه ازدهار للمجتمع، إلا من خلال الربط المتين بين قيم الإخلاص والصدق والتضامن والإيثار، وأنه ينبغي تكوين مواطن صالح وفق رؤية واقعية تعتمد التربية الروحية والإنسانية المتشبعة بمكارم الأخلاق والقيم الروحية والإنسانية.
الدرر الجمالية
فيما كانت المداخلة الأخيرة في هذا السمر الوصالي للدكتور عبد الرزاق تورابي، أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس بالرباط كلية الاداب والعلوم الإنسانية، واصل من خلالها تقديم سلسلة "الدرر الجمالية"، انطلاقا من ذخائر شيخ الطريقة القادرية البودشيشية فضيلة الدكتور مولاي جمال الدين القادري، حيث تناول موضوع الإخلاص مبينا فضله وثماره والسبيل المؤدي إلى التحقق به.
كما تم تقديم ترجمة تقريبية باللغة الإنجليزية للمداخلة العلمية السابقة للدكتور منير القادري، حول موضوع "فضل التربية الصوفية على الإنسان المعاصر "، قدمها الدكتور علي زكي.
كما عرف هذا السمر الروحي مشاركة د. حسن التازي الطبيب والجراح المغربي المشهور ، والذي عمد من خلال مداخلته الى تقديم مجموعة من النصائح بخصوص لقاح كورونا.
وبين ثنايا هذه المداخلات، تم عرض شريط حول الحج يوثق للحظات تاريخية لموسم الحج خلال فترة الثلاثينيات من القرن الماضي.
كما تخللت هذه الليلة الروحية وصلات من السماع والمديح الصوفي لمنشدين من المغرب وخارجه، ويتعلق الأمر بمحمود أحمد من حلب بسورية، وبلال حموي من تركيا، ويونس مشال وأمين سمينة من المغرب، وكذا مجموعة الصفاء بهولاندا، إلى جانب مشاركة المجموعة الوطنية للمديح والسماع للطريقة القادرية البودشيشية.
واختتمت أطوار هذا السمر الروحي بفقرة "من كلام القوم"، خصصها إبراهيم بن المقدم لعرض درر وشدرات من كلام العارف "أحمد بن عجيبة الحسني"، أعقبها برفع الدعاء الصالح لحفظ أمير المؤمنين والمغرب وسائر بلاد المسلمين والإنسانية جمعاء.
اترك تعليق