أشار علماء ورجال الصوفية إلى الدور الوطنى والدينى الكبير الذى لعبه التصوف فى الدفاع عن الأوطان ضد المستعمرين، ونشر المفاهيم الدينية الصحيحة، باتباع منهج الوطية والاعتدال البعيد عن التطرف أو التشدد.
وكان متابعو ليالي الوصال البودشيشية الرقمية، التي تنظمها مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية، ومؤسسة الملتقى بشراكة مع مؤسسة الجمال، على موعد مع النسخة الثلاثين، وبثت عبر المنصات الرقمية لمؤسسة الملتقى، التى ناقشت هذه القضية من خلال مشاركة ثُلَّة من العلماء والمثقفين والمسمِّعين، كما تم عرض شهادات لمريدي الطريقة من داخل المغرب وخارجه، أعربوا من خلالها عن الأثر الايجابي للتربية الصوفية التي يتلقونها في الطريقة على حياتهم، وقد كانت الشهادة في هذه الليلة من طرف كل من طوني إدريس من جزر المغتنيك، وبلال أنطوان بايو من مدينة ليون بفرنسا.
وتم افتتاح هذا السمر كالعادة بآيات بيّنات من الذكر الحكيم تلاها المقرئ الشاب عبدالمغيث الأزعر، الحائز على الرتبة الأولى للملتقى الوطني للقرآن الكريم الذي نظَّم على هامش الملتقى العالمي للتصوّف في دورة هذه السنة.
لتتلوها المداخلة العلمية الأولى للدكتور عبدالرزاق تورابي- أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس بالرباط- الذي عرض مختارات من كلام شيخ الطريقة القادرية البودشيشية فضيلة مولاي د. جمال الدين القادري، حول موضوع: "الإذن الكوني للطريقة"، حيث أصَّل لمسألة الإذن من خلال الآيات والأحاديث الواردة في الوحي والإلهام، وسرد تسلسل مشيخة التربية في الطريقة البودشيشية، والوصايا المتناقلة المشهود عليها في تناقل الإذن في التربية، وما يتطلبه ذلك من الوفاء وتجديد العهد في الأخذ الصوفي. أما المداخلة العلمية الثانية، فكانت للدكتور منير القادري بودشيش، مدير مؤسسة الملتقى ورئيس المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم، حول موضوع "الطرق الصوفية في الصحراء المغربية، تاريخ من الأمجاد والنضال"، أبرز فيها أثر الطرق الصوفية في تثبت عقيدة الاسلام وأخلاقه، وقيم الوطنية والبيعة الصادقة، موضحا مشاركة الصوفية في الحياة، وتفاعلهم الإيجابي مع مختلف الأحداث القائمة، وذكر أمثلة للزوايا الصوفية العريقة القائمة بأرض الصحراء المغربية، وأكد أن شيوخها ومريديها، كانوا رجالا صادقين في وطنيتهم ثابتين على عهد بيعتهم، ذَوُوا علم وكرم وشجاعة، كما أشاد بجهادهم الكبير في الدفاع عن أرض الوطن والمحافظة على وحدته.
ذكر د. القادري بأن المملكة المغربية تعتبر مصدرا للولاية والصلاح وأرضا تنبت الأولياء والصالحين، كما تنبت الأرض الكلأ، كما نبَّه على دور رجال الأخلاق في تثبيت عقيدة الإسلام في النفوس وتجذير مكارم الأخلاق في الأذهان والوجدان، والإسهام في إشعاع روحي عرفاني رباني تفرد به رجال التربية والصلاح والدلالة على الله من أهل المغرب.
وبيَّن أن التربية الصوفية تعمل أساسا على زرع بذور التدين في قلوب الأفراد، فهي رسالة روحية من الفطرة وإليها، ولعل هذا هو السر في تعدد المشارب التخليقية والمدارس الصوفية التي تجِدّ وتجتهد انطلاقا من خبراتها الروحية والمتجددة، والتي تعمل على تذليل الصعاب، حتى استوى الخطاب الصوفي خطابا معتدلا جامعا بين الشريعة والحقيقة والذوق والسلوك وإصلاح الفرد والمجتمع، كما أشاد بالدور الريادي الذي اضطلع به رجال التربية في التحريض على الجهاد وتحرير الثغور، حيث كانت الزوايا رباطات وقلاع متقدمة في مواجهة الغزاة دفاعا عن حوزة الوطن وسيادته.
وأكد أن المناطق الجنوبية للمغرب وخاصة الأقاليم الصحراوية المغربية، وعلى غرار باقي مناطق المغرب عرفت حضورا بارزا ومتميزا للطرق الصوفية ولشيوخ التربية الذين كرَّسوا حياتهم للدعوة إلى الله وتخليص النفوس من الشوائب كي تصل إلى أعلى مراتب الإيمان، وبناء الإنسان بالطريقة الصحيحة والسليمة، فكانت زواياهم مراكز للذكر والتربية وتهذيب النفوس وتزكيتها، وكانت كذلك مراكز للعلوم الإسلامية ورباطات للجهاد.
وذكَّر أن من بين الزوايا التي انتشرت طريقتها التزكوية في الصحراء المغربية، الزاوية الناصرية لشيخها سيدي أحمد بن الناصر الدرعي، صاحب الدعاء الناصري الذي انتشرت طريقته بمنطقة درعة وتخوم الصحراء الكبرى، بالإضافة إلى الزاوية الوزانية التي أشرف عليها الشريف مولاي علي الوزاني الذي كانت تأتيه الوفود من بلاد الصحراء والسودان، والزاوية التيجانية التي لها العديد من المريدين والأتباع من الصحراء الكبرى وافريقيا.
كما ذكَّر بشيوخ الطريقة القادرية بهذه الربوع، ومنهم السيد إدريس الفاسي الذي أسس الطريقة الأحمدية المنتشرة من الصحراء إلى السودان، والشيخ سيدنا الكبير بالصحراء المغربية وموريتانيا، والشيخ محمد الأغضف دفين طانطان، وزاوية الشيخ ماء العينين التي امتد تأثيرها من الصحراء المغربية إلى الجزائر وموريتانيا ومالي، لمؤسسها الشيخ ماء العينين، والذي كان له الفضل في توحيد القبائل الصحراوية في مواجهة القوى الأجنبية الفرنسية والإسبانية والبرتغالية، والذي لم تعقه العوالم الطبيعية للصحراء ووعورة المسالك الرملية في مد جسور التواصل بين القبائل والعرش العلوي، فقد كانت للشيخ ماء العينين علاقة بيعة وولاء مع ملوك الدولة العلوية، حيث عاصر الشيخ رحمه الله خمسة منهم.
أضاف: النضال استمر في الأقاليم الصحراوية مع أبنائه، الذين حملوا راية الجهاد مع باقي أقطاب المقاومة في جميع ربوع المملكة، والتي كانت تربطهم مع الزاوية القادرية البودشيشية أواصر المحبة عبر مراسلات وزيارات متكررة.
وأورد أن الصحراء المغربية تعتبر كذلك نبع الشعر ومصدر الخير وصلاح أهلها وصدق وطنيتهم، وهو ما سجله التاريخ المغربي من خلال أسماء لامعة في مجال التصوف، كعلم وأسلوب حياة ورؤية للكون والوجود، وذكر في هذا الباب كذلك الزاوية البصيرية لمؤسسها الشيخ سيدي إبراهيم البصير رحمه الله، الذي ينتمي لأسرة عريقة في منطقة الصحراء والساقية الحمراء وموريتانيا والسودان، وقد عرف بجهاده ضد الاستعمار الفرنسي الذي كان يلاحقه طول الوقت، فخرج قاصدا جبال الأطلس واستقر به المقام ببني عياط وبنى فيها زاويته.
وركَّز على أهمية التربية الصوفية والإحسانية في تحقيق العبودية لله عزَّ وجلَّ، وفي بناء قيم المواطنة التي تجعل من الفرد مواطنا نافعا لنفسه ولغيره، مضطلعا بالواجبات الملقاة على عاتقه، ومشيرا إلى أن الصوفية لم يكونوا أبدا منفصلين عن هموم الحياة، ولا تعلقوا بالكرامات لأنهم دائما يرددون "الاستقامة خير من ألف كرامة".
وأبرز د. منير دور الطريقة القادرية البودشيشية في تربية مريديها على قيم المواطنة الصادقة، تحت رعاية فضيلة الشيخ د. جمال الدين في نشر القيم المحمدية، واعتبار هذه القيم عاملا مسهما في تحقيق التساكن بين المسلمين ونبذ التناحر بينهم، دون إقصاء لأي كان، وفي التزام تام بكل ما من شأنه أن يحفظ لهذا الدين أسسه وقيمه، ومذكِّرا بحرص شيخ الطريقة القادرية البودشيشية الراحل سيدي حمزة ونجله على حث المريدين داخل البلاد وخارجه في جميع مقرات الطريقة بما فيها تلك المتواجدة بالصحراء المغربية على تخصيص سلك القرآن الكريم والصلاة على النبي الحبيب وذكر اللطيف وأذكار خاصة وصدقات لحفظ الصحراء وإظهار الخيرات فيها.
واختتم كلمته بتجديد فروض الطاعة والولاء وتأكيد موقف الطريقة القادرية البودشيشية الراسخ للتجند دفاعا عن الوطن الحبيب خلف القيادة الرشيدة لأمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، خدمة للصالح العام ودفاعا عن الوحدة الترابية للمملكة.
المشارب السلوكية
أما المشاركة العلمية الثالثة فقد كانت للدكتور محمد أمين الغويلي، الباحث في التصوف الإسلامي، تحت عنوان: "اختلاف المشارب السلوكية، نماذج من مدرستي الكتم والبوح"، ميز فيها بين كثير من المصطلحات الدالة على تعدد المشارب وتنوعها، مبرزا أثر هذا التنوع في ما حصل من الانتقادات على التصوف عموما، ليخلص إلى أن دراسة التصوف تقتضي استحضار هذا التنوع، حتى لا يُطْعَنَ في التصوف المبني على الأصول الشرعية الصحيحة، المراد به التربية على الأخلاق المحمدية ظاهرا وباطنا بأسلوب عرفاني ذوقي.
بعد ذلك، تم عرض شريط في إطار تثبيت القيم الإسلامية النبيلة حول موضوع "الجود والكرم"، باعتباره صفة ربانية تَخَلَّق بها الأنبياء والمقتدون بهم، ولكون البذل والسخاء والجود والعطاء أهم مبادئ التصوف وأحد مقاصده.
وتخللت هذه الليلة الروحية كالعادة وصلات من السماع والمديح الصوفي لمنشدين من المغرب وخارجه، ويتعلق الأمر بكل من عادل العمراني من إسبانيا، محمد سعيد أبوطار من ليبيا، المنشد محسن الزكاف، إلى جانب مشاركة المجموعة الوطنية للمديح والسماع، ومجموعتي الطريقة بكل من ليبيا وانجلترا، بالإضافة إلى برعمات الطريقة بمداغ.
واختتمت أطوار هذا السمر الروحي بفقرة "من كلام القوم"، خصَّصها إبراهيم بن المقدم لعرض رسالة للعارف بالله "أحمد التيجاني"، أعقبها برفع الدعاء الصالح سائلا المولى عزَّ وجلَّ الحفظ لمولانا أمير المؤمنين وولي عهده، وبلاد المغرب وصحرائه، وسائر بلاد المسلمين.
اترك تعليق