هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

"  رقصات العجوز "
- يارفعت ..الشيخ رفعت خلص . انتهى الشيخ محمد رفعت من تلاوة (الرحمن ) فأدار (رفعت ) مؤشر الراديو على صوت الموسيقى التى انسابت فى أوصال الشقة تستقبل الصباح الجديد، اكتملت طقوس الروحانيات الصباحية التى اعتادا عليها وأدار كريسها المتحرك ناحية الشرفة

"  رقصات العجوز "

قصه قصيرة بقلم / علي الفقي

- يارفعت ..الشيخ رفعت خلص .

انتهى الشيخ محمد رفعت من تلاوة (الرحمن ) فأدار (رفعت ) مؤشر الراديو على صوت الموسيقى التى انسابت فى أوصال الشقة تستقبل الصباح الجديد، اكتملت طقوس الروحانيات الصباحية التى اعتادا عليها وأدار كريسها المتحرك ناحية الشرفة ، أشارت بأن يجعل الشيش مواربا ، نظرت من خلال فتحة الشيش وابتسمت للنافورة المعطلة فى وسط الميدان والتى شهدت لقاءاتهما الأولى ، يرشان الماء بخفة على وجهييهما ، ترتفع ضحكاتهما مع ابتسامات الأحبة حول النافورة ونظرات المارين وهو يمسح خديها المخمليين بيديه الرقيقتين .

مال بوهن عموده الفقرى يقبل ر

اسها ويضمه الى صدره – كلما نظرت يا (أحلام ) للنافورة لا أراها معطلة .. بل أرى الماء يتدفق منها لاينقطع وأراك بابتسامتك العريضة الانهائية .

تسلل شعاع من الشمس التى أشرقت فسحبت أحلام الكرسى ليدفئ عظام ساقيها ، تنشط ذكريات دأبها فى العمل ، تستيقظ فجرا ، تسمع ترتيل الشيخ رفعت ثم صوت الموسيقى وهى تعد افطار ابنتهما الوحيدة وتعد الشاى وساندوتش الجبن الرومى الذى يحبه رفعت ، ثم يذهب كل منهما عمله .. هى الى المدرسة فى القرية المجاورة .. ثم كموجهة على مدارس القرى ، وهو كمهندس للرى فى مدينة أخرى .

تعامد شعاع الشمس على وجهها الأسمر وطرحتها الصفراء الفاع لونها والمدلى منها على جيهتها خرزات زرقاء صغيرة ، أغمضت عينيها فبدت مثل آلهة فرعونية شامخة .

جلس على كنبة الأنتريه مغمضا عينيه ، مطبقا أسراره فى صدره ، لعله ينال قسطا ولو بسيطا من الراحة والنوم بعد أن قضى ليله فى ترتيب الغرف وغسيل المواعين وتنظيف المطبخ ، كما اعتاد منذ خروجه للمعاش وزواج ابنتهما ، مراعيا الحذر من احداث أصوات حتى لا تصحو من النوم الذى يأتيها زائرا خفيفا على آلامها الثقيلة .

اليوم موعد زيارة ابنتهما الأسبوعى ، وموعده مع (نجاة ) التى اعتاد لقاءها خميس وجمعة ولم يخبر احدا خوفا على شعور (احلام) .

- يارب تقبل دعائى اليومى .

أفاق من غفوته .. اتجه اليها – مالك؟

- كل صباح ادعو بالموت يزورنى .

قبل جبينها .. ركع امامها يغالب ضعفه ودموعه .

- ياحبيبتى .. ستعودين للمشى مثل زمان وعمرك طويل .. محنة وتزول .

تنهدت وتخلل الشعاع هواء زفيرها فتراقص وبدأ يحيد عن وجهها .

- سنوات طويلة أعانى المرض والشلل وكلما تذكرت حضورى فرح ابنتى على كرسى متحرك و...

قاطعها واضعا كفه على فمها برفق – لا تكملى فرحتك ستكتمل عندما تحملين أحفادك وتمشين بهم ، فسحات كثيرة ..الأمل كان بعد ثورة فرحنا بها ورقصنا لها ، لم تتحقق الأهداف التى هتفنا بها ، العلاج أصبح ثمنه باهظا ونادرا وكنا نظن أن التأمين الصحى ستتحسن خدماته ، وستشفى بعد زوال الفساد وسبب الأمراض ، لكن ظنى كان اثما ، حتى أصدقائى فى الخارج الذين كنت اباشر اراضيهم وأراعى مصالحهم وعدونى باجراء جراحة العمود الفقرى لأصلاح الشلل ، أرسلت لهم الأشعات والتحاليل ، أكدوا انها بسيطة وسهلة فى أوروبا وليست صعبة كما أشار الأطباء هنا .. انقطعت مراسلاتهم ولم يردوا على رسائلى المتكررة . باعوا اراضيهم و قرروا عدم عودتهم .

- أنت ايضا تعبت معى وكان المفروض ان تتزوج .

أخرجته من افكاره وكاد أن يفلت لسانه باعتراف فابتلعه .

( نجاة ) اليوم فى انتظاره .. زارته أول مرة فى مكتبه بمصلحة الرى لتسوية المخالفات والمحاضر المحررة على المرحوم زوجها وأن قطعة الأرض الصغيرة التى ورثتها بعيدة أصلا عن مصادر الرى والصرف .. عيناها تشعان حزنا وألقا ويحملان هذا التوتر الهادئ الذى حمله على مساعدتها والقيام بنفسه لعمل المعاينة اللازمة ، عرف انها وحيدة أمها وانهما يعيشان بمفردهما ولم تنجب، تكررت الزيارات حتى حصلت على المصالحات اللازمة لأنهاء المحاضر .

تعددت اللقاءات خارج العمل ، أعجبت بشخصيته وشهامته وانسانيته ، عرفت ظروفه وظروف مرض (احلام ) الذى يتفاقم يوما بعد يوم واعتبرها طوق النجاة الشهور المتبقية له فى العمل وما يتبقى من عمر بعد خروجه للمعاش .

مازال راكعا على ركبتيه ، يحتضنها ، يغالب صراع مشاعره ، أراد ان يخفف حدة توترها فانفجر بركان اليأس من عينيها منهمرا .

ضم رأسها فى صدره وتمتم بكلمات تضفى روح الدعابة ، سمعت عزف دقات قلبه مع انغام الكونشيرتو المنساب من الراديو ، نظر فى عينيها – نرقص ؟

نصف ابتسامة من شفتين هزيلتين ناظرة الى ساقيها .. أمسك يديها ، ثبتهما على مسندى الكرسى ، دار بها ببطئ وخفة راقصا حول شعاع الشمس ، اتسعت ابتسامتها تصد الحزن الذى يكسوها .

- فاكرة لما رقصت لك رقصات شكوكو بالجلابية والطرطور والعصايه.

ضحكت تميل بصدرها تجاريه فى الرقص وسحبت شهيقا عميقا من ذكرى ، كان يصمم أن يراقصها فى أفراح الأصدقاء وحفلات أعياد الميلاد وعيد زواجهما ، ورقصهما فوق سطح البيت القديم على موسيقى الراديو الترانزستور ، يحلمان بمستقبل أفضل من الغرفتين الضيقتين حتى انتقالهما للشقة الواسعة فى الميدان وأمام النافورة التى شهدت اللقاءات الأولى .. جمع مدخراتهما ومكافأة المعاش ، اشترى الشقة التى كانت تحلم بها بعد تجهيز ابنتهما وزواجها .. ولم تطلب نجاة اى شىء ، بل كانت تعبر عن سعادتها ويكيفيها وجوده معها .

- انت لسه بتحبنى ؟

قال وهو لم يتوقف عن الدوران راقصا حولها – الحب الذى جمع بيننا نشأ على ساقين هما الأحترام والأهتمام وأعتقد ان الزمن الطويل بيننا يثبت أننا ما زلنا نمارسهما .

سحبت يدها وركنها فوق ساقها- لكنى لاحظت قلة اهتمامك وسرحانك وأنت معى وأخاف ان يكون حبك لى الآن اصابه العرج .

توقف عن الرقص – اتحبين ان أكون معك اليوم .

اشارت بحسم – لا .. لا اريد أن تقطع عادة زيارة الأولياء اسبوعيا ولا أريد أن أفقد شعورى بزيادة البركة فى صحتك ونشاطك وابتسامتك باقى الأسبوع .

و(نجاة) هى الولى الذى يمنح مريدها البركة والطاقة والنور وهوالمريد الذى يمنحها عقله وقلبه ، وقليل من المال كنذور لصندوق الولى الذى لا يحتاج سوى للحب والأخلاص ، والقيم الأساسية للاستمرار وتفهم الأحترام والتواضع ، وتفهم الظروف التى يمر بها ، مع دعائه المستمر بدوام الرضا ، والتسبيح بالحب اثناء رقصه مع نجاة اشبه بحلقات الذكر التى ترفعه معها على جناحيها فتمنحه الترياق لألامه والوصول الى الطموحات فى الأمان والاستقرار النفسى والذهنى والجنسى ..

عاد للطواف بأحلام والكرسى حول الشعاع الذى بدأ يتراجع . هدأت (أحلام ) مع بث صوت الموسيقى لقطعة صاخبة ..كاد المنطق ان يطيح بطموحاته مع (نجاة ) ، عنما استولت الحكومة على قطعة الأرض وهدمت المنازل المجاورة بحجة انشاء كوبرى يربط المدينة بالقرية والطريق السريع فى مقابل تعويض زهيد ، يسدد على أقساط ، ذهب الى اصدقائه المسؤلين الجدد يستثنوا نجاة من الخطة .. خاصة بعد علمه بان تم تغيير مسار الكوبرى وأن  مستثمرا سيحصل على الأراضى كاملة لأنشاء مشروع ، وأنه ساهم فى الثورة ووقف معهم للحصول على حقوقهم التى كانت ضائعة و...

- نفترق أحسن من كثرة المسؤلية وارهاقك ماديا ونفسيا و..

- لا يمكن ان يتخلى المريد عن شيخه ووليه ولا أن يترك الولى مريده تائها فى ملكوت اليأس والضعف ولا مصطدما  مع واقع مرير ، سأعمل فترات فراغى وأفر لك الأستقرار.

ارتمت فى حضنه ، امتص شفتيها كأنه يمتص الطاقة والسعادة – لايمكن أن يستنزف قدرتنا على العطاء حتى لوكنت كهلا ، مازال عندى القدرة على الرقص ، هيا نرقص ..ضعى يدك فوق كتفى لتزيلى الهموم وتلقيها تحت قدميك وندور حول شعاع الحب .

وأدار احلام الى غرفة نومها .. لم تنبس .. يداها مرتخيتان على ركبتيها .. مغمضة العينين .. كلمها .. لم ترد .. اراد حملها على السرير .. لم تستجب .. وضع اذنه على قلبها .

لم يجد بدا الا ان ينتظر زيارة ابنته ولم يرد على مكالمات نجاة .





تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي

تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي جوجل نيوز جوجل نيوز

يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل

اترك تعليق