الحج ركن الإسلام الخامس وفريضة تجب مرة في العمر على من استطاع إليه سبيلاً، أي توفرت له القدرة البدنية والمالية مع أمن الطريق. وفي مصر يلجأ كثير من الناس إلى الوسيلة الشعبية المعروفة بـ"الجمعية" لتوفير ما يحتاجونه من سيارة أو زواج أو حج، فيتفقون على دفع قسط شهري ثابت، ويأخذ كل واحد دوره بالتتابع.
فما حكم عمل جمعية خاصة بتدبير نفقة الحج؟ وهل يجوز لمن لم يكن مستطيعًا أصلاً أن يُدخل نفسه في التزام مالي لأجل الفريضة؟
ذكرت دار الإفتاء أن الحج فريضة محكمة تجب مرَّةً في العمر، ووجوبها مقيَّدٌ بالاستطاعة؛ لقول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97]. والاستطاعة الواردة في الآية شرطٌ من شروط وجوب الحج على الناس، فالمراد "مَن استطاع إليه سبيلًا فعليه الحج"، كما قال الإمام القُرْطُبِي في تفسيره (4/ 147).
وأوضحت أنه من المقرَّر شرعًا أن العبد غير مطالبٍ بتحصيل شروط الوجوب، ومن ثم فلا يجب على المكلَّف الذي لا يستطيع نفقة الحج الاجتهادُ في تحصيل تلك النفقة.
وقد حُكي الإجماع على ذلك، ونصَّ عليه الإمام ابن النجار الفُتُوحِي، فقال في "شرح الكوكب المنير" (1/ 357، ط. مكتبة العبيكان): [(وما لا يتمُّ الوجوبُ إلا بهِ) سواءٌ قَدَر عليه المكلف كاكتساب المال للحجِّ والكفارات ونحوهما، أو لم يقدِر عليه المكلف كحضور الإمام الجمعة وحضور العدد المُشترط فيها؛ لأنه مِن صُنْع غيره، فإنه (ليس بواجبٍ مطلقًا) وحُكي إجماعًا] اهـ.
إلّا أنَّ العبد لو تَكلَّف تحصيل نفقات الحج بإحدى الوسائل لتحقيق الاستطاعة وإقامة تلك الفريضة مع كونها غير واجبة عليه، فلا حرج في ذلك شرعًا، ويقع منه الحج حينئذٍ مجزئًا عن حجة الإسلام؛ لأن خطاب التكليف بالحجِّ يشمله ما دام بالغًا عاقلًا، وقد أقام العبادة مستوفيةً أركانها وشروطها، وإنما لم يجب عليه تحصيل شروط الوجوب؛ للتخفيف والتيسير، وهو ما اتفق عليه جماهير الفقهاء وتواردت به نصوصهم.
الجمعية المالية التي يتخذها السائل وسيلةً لتحصيل نفقة الحج تُعد من باب التعاون والتآزر المحمود والتبرع بالقرض الحسن، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].
و"التعاون على البر والتقوى يكون بوجوهٍ: فواجبٌ على العالم أن يُعين الناس بعلمه فيعلمهم، ويُعينهم الغنيُّ بماله، والشجاع بشجاعتِه في سبيل الله"، كما ذكره الإمام القُرْطُبِي في "تفسيره" عن ابنِ خُوَيْزِمَنْدَاد (6/ 46).
والجمعية من المباحات، وقد نصَّ بعض متأخري الفقهاء على جوازها، إذ وُسِمَت في عرفهم بـ"الجمُعة"، باعتبار أنَّهم كانوا يجمَعون المال كلَّ جُمعة.
وبالنسبة لحكم عمل جمعية مالية بين الناس لتدبير نفقة الحج فالأَولى ترك الاستدانة لإقامة الحج، فالشرع لم يلزم غير القادر على الحج ماليًّا بالدخول في تبعات الاقتراض وأعباء السَّداد؛ لأن الاستطاعة لا يخاطب العبد بتحصيلها شرعًا كما سبق بيانه، قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286].
كما نهى الشرع عن تعرض المرء لما لا يطيقه من البلاء والالتزامات، فعن حذيفة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ»، قَالُوا: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ: «يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ» أخرجه الأئمة: أحمد، وابن ماجه، والترمذي، والبيهقي في "شعب الإيمان".
والدَّين سببٌ من أسباب البلاء، وقد استعاذ منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ»، قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ» متفق عليه.
والمدين كالأسير بما عليه من ديونٍ وحقوق ثبتت في ذمته شرعًا يحبس بها عن الجنة، كما في حديث سَمُرَة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ صَاحِبَكُمْ مَأْسُورٌ بِدَيْنِهِ» أخرجه الإمامان: عبد الرزاق، وأبو داود. كما أخرجه الإمام أحمد وغيره بلفظ: «إِنَّ صَاحِبَكُمْ مَحْبُوسٌ عَنِ الْجَنَّةِ بِدَيْنِهِ».
وعليه ألا يُقصِّر في حقوق مَن لزِمه رعايتهم وإعالتهم مِن الزوجة والأبناء بأن يترك لهم مالًا يكفي لمعاشهم طوال سفره لأداء المناسك؛ لأنَّ نفقتهم واجبة عليه، والواجب مقدَّم على غيره، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ» أخرجه الأئمة: أحمد، وأبو داود، والنسائي، والحاكم، كما أخرجه الإمام مسلم بلفظ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ».
بناءً على ذلك فإن الرجل لا يكلَّف بالاجتهاد في تدبير نفقة الحج شرعًا، ومع ذلك إن اجتهد بالاتفاق بينه وبين زملائه على عمل ما يُعرف بـ"الجمعية" من أجل تدبير تلك النفقات بأن يقبض أول دور فيها، وكان يعلم قدرته على سداد أقساط الجمعية وكفاية أهله من النفقة والزاد، من غير مشقة ولا تحمُّل لما لا طاقة له به، فهذا جائزٌ شرعًا، ولا إثم عليه في ذلك ولا حرج.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
اترك تعليق