أُطلقت في المملكة العربية السعودية مبادرة المرصد العربي للترجمة، تحت مظلة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو - ALECSO)، في خطوة تعكس روح التعاون الثقافي العربي، وتُعيد للترجمة مكانتها الريادية في المشهد الثقافي العربي.
ويُعد المرصد العربي للترجمة إحدى المبادرات الثقافية الرائدة التي أطلقتها هيئة الأدب والنشر والترجمة بالمملكة العربية السعودية، ضمن جهودٍ عربيةٍ مشتركةٍ تهدف إلى تطوير بنيةٍ معرفيةٍ حديثة في مجال الترجمة، وتعزيز حضورها في الساحة البحثية والثقافية.
وقد كانت للمملكة العربية السعودية الريادة في إطلاق هذه المبادرة النوعية، إذ وجّه سمو وزير الثقافة بدراسة إمكانية إنشاء المرصد العربي للترجمة، وتابع مراحل تأسيسه خطوةً بخطوة، حتى خرج إلى النور ليكون رافدًا عربيًا وبيت خبرةٍ ثقافيًا ومعرفيًا يعزز التكامل بين المؤسسات الثقافية العربية في مجال الترجمة.
وجاء تدشين المرصد خلال المؤتمر العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) ليجسّد رؤية عربية موحدة نحو بناء منصةٍ متخصّصة تُعنى برصد حركة الترجمة العربية وتوثيقها وتحليل اتجاهاتها، بوصفها أداةً أساسية في صناعة المعرفة والتنمية الثقافية، ورافدًا محوريًا من روافد الاقتصاد المعرفي العربي.
أكد القائمون على المبادرة أن الترجمة لم تكن يومًا نشاطًا لغويًا محضًا، بل جسرًا حضاريًا تمرّ عبره العلوم والأفكار والتجارب الإنسانية، وهي الوسيلة التي تُمكّن الأمم من الانفتاح على الآخر وإعادة صياغة حضورها في العالم من خلال المعرفة. فالمترجم شريك في صياغة الوعي الجمعي وصناعة المستقبل، لا مجرد ناقلٍ للنصوص.
وقد كان للعالم العربي، وفي طليعته مصر، دورٌ محوري في ترسيخ ثقافة الترجمة منذ بدايات النهضة الحديثة، حين انطلقت مدارس الترجمة الكبرى ومراكز النشر والتأليف في القاهرة لتكون منارةً للعلم والمعرفة، ومنها انتقلت شرارة التنوير إلى سائر العواصم العربية، فأسهمت حركة الترجمة في صياغة الوعي العربي الحديث وبناء جسور التواصل الحضاري مع العالم.
واليوم، يأتي المرصد العربي للترجمة ليعيد إحياء هذا الدور التاريخي بروحٍ جديدة من التعاون والتكامل العربي نحو مستقبلٍ معرفيٍ موحّد.
تأسّس المرصد العربي للترجمة ليكون منصةً علمية عربية شاملة تُسهم في بناء قاعدة معرفية دقيقة حول حركة الترجمة في الوطن العربي، من خلال إنشاء ببليوغرافيا عربية موحدة تُوثّق الإنتاج المترجم من العربية وإليها، وتتيح للباحثين ودور النشر وصُنّاع القرار بيانات دقيقة تُبرز الاتجاهات والفجوات وتدعم التخطيط الثقافي المستقبلي.
فالببليوغرافيا ليست مجرد أرشفةٍ للأعمال، بل علمٌ يُنتج المعرفة حول المعرفة، وهي الركيزة التي تُبنى عليها النهضة في ميدان الترجمة والبحث الثقافي. ومن هنا، يسعى المرصد إلى الانتقال من مرحلة الرصد إلى التحليل، ومن التوثيق إلى التأثير، عبر تطوير أدوات رقمية متقدمة تُسهم في قراءة حركة الترجمة العربية وتحديد ملامحها المستقبلية، وتعزيز التعاون بين المؤسسات الثقافية والجامعات ودور النشر في العالم العربي.
يرى المرصد العربي للترجمة أن المعرفة الموثقة هي حجر الأساس لأي نهضة علمية وثقافية، وأن البيانات الدقيقة تمثل البوابة نحو التنمية في الاقتصاد المعرفي العربي. ولذلك، لا يكتفي المرصد بجمع البيانات، بل يعمل ليكون بيت خبرة عربيًا رائدًا يسهم في تطوير السياسات الثقافية الخاصة بالترجمة، ودعم الباحثين والمترجمين، وتوحيد الجهود العربية نحو مستقبلٍ معرفيٍ متكامل.
وقد مثّل تدشين المرصد العربي للترجمة لحظةً فارقة في مسار العمل الثقافي العربي المشترك، وخطوةً طموحة نحو بناء مستقبلٍ يستثمر في اللغة والترجمة بوصفهما أداتين للتنمية الثقافية والاقتصادية معًا.
فهو ليس مشروعًا وطنيًا فحسب، بل مشروعٌ عربيٌ جامع يعكس قناعةً راسخةً بأن الترجمة هي قلب الثقافة العربية النابض وعمودها الفقري في مسيرة التطور الحضاري.
ومن خلال هذا العمل المؤسسي المشترك، يمكن للعالم العربي أن يستعيد دوره التاريخي في إنتاج المعرفة وتداولها، وأن يجعل من الترجمة بوابةً دائمةً نحو التواصل والتجدد والبناء.
وفي الختام، وجّه المشرف على المرصد الدكتور عبدالحكيم بن فهد السنّان، تحيةَ تقديرٍ لكلّ العواصم الثقافية العربية التي حملت عبر التاريخ مشعل الترجمة وأضاءت به دروب المعرفة، داعيًا الجامعات، ومراكز البحث، ودور النشر، والمؤسسات الثقافية إلى توحيد الجهود لدعم هذا المشروع العربي الكبير، ليكون المرصد العربي للترجمة منصةً جامعة تعبّر عن طموح الأمة في بناء مستقبلٍ معرفيٍّ مشترك يليق بتاريخها ودورها الحضاري.
وأكد السنّان أن الترجمة ستظلّ لغةً تُوحّد العرب قبل أن تُقرّبهم من العالم، وجسرًا تبنيه العقول وتشيّده القلوب المؤمنة بأن المعرفة هي سبيل النهضة، وأن التعاون الثقافي هو أساس الريادة.
اترك تعليق