في قرى قنا، حيث كانت رائحة الحرق تسبق موسم الحصاد، وتُرمى المخلفات الزراعية على أطراف الحقول كأنها بلا قيمة... بدأت قصة مختلفة تُكتب. قصة لم تبدأ بتكنولوجيا معقدة أو دعم خارجي ضخم، بل بـ"بداية خير" من قلب الأرض، ومن وعي جديد نبت في عقول المزارعين وسيدات الريف.
من بقايا الأشجار التي كانت تُحرق بلا فائدة، وحقول أرهقها السماد الكيماوي، خرج الكمبوست كذهب أخضر يعيد للتربة حياتها، وللفلاحين أملهم، وللنساء دورهن في حماية البيئة وتنمية أسرهن.
في خطوة نوعية نحو التنمية البيئية المستدامة، قادت جمعية كرامة للتنمية الشاملة بالأشراف بمحافظة قنا، تنفيذ مشروع "بداية خير لمكافحة التلوث البيئي وتدهور الأراضي الزراعية"، بتمويل من برنامج المنح الصغيرة التابع لمرفق البيئة العالمية (GEF/SGP)، في محاولة جادة لتحويل المخلفات الزراعية من عبء بيئي إلى مورد اقتصادي وعضوي يعيد الحياة إلى التربة. المشروع استهدف عدة قرى داخل محافظة قنا، وركز على مواجهة أحد أكبر التحديات البيئية في الريف المصري، وهي حرق المخلفات الزراعية، التي طالما شكلت خطرًا على صحة الإنسان والحيوان والهواء.
في قلب هذا الجهد، كانت السيدات، وخاصة زوجات المزارعين، شريكات في التغيير، حيث أشار محمود أحمد محمد، رئيس مجلس إدارة الجمعية إلى أن الجمعية نظمت سلسلة من ندوات التوعية استهدفت 550 سيدة في خمس قرى، تم خلالها بناء وعي بيئي واجتماعي حول خطورة الحرق المكشوف، وشرح طرق الاستفادة من المخلفات الزراعية من خلال إنتاج السماد العضوي (الكمبوست). وتم تقديم نماذج عملية لكيفية إنتاج هذا السماد في الحقول، ما ساعد في ترسيخ المفهوم لدى الأسر الريفية، وربطه بمنافع اقتصادية مباشرة.
وأوضح أبوالحمد الشريف، مدير الجمعية، أن المشروع لم يقتصر على الجانب التوعوي، بل نفذ خطوات عملية على الأرض، شملت تجميع وفرم مخلفات أشجار الموز، وتحويلها إلى كومات كمبوست. ومع توفير جرار زراعي لتشغيل ماكينة الفرم، تم إنتاج 100 طن من الكمبوست عالي الجودة، بالإضافة إلى بيع نحو 50 ألف طن من الكميات المنتجة سابقًا للمزارعين المجاورين، ما ساهم في تقليل الاعتماد على الأسمدة الكيماوية، وتحسين جودة التربة والإنتاج الزراعي.
وقال إن المشروع أولى اهتمامًا خاصًا بزراعة الشمر والنباتات العطرية، لما لها من قيمة اقتصادية عالية، حيث تم تدريب السيدات على طرق التنقية والتجفيف وربط المنتجات بسلاسل القيمة، في محاولة لتعزيز العائد الاقتصادي للأسر الريفية وتحسين جودة المنتج النهائي بما يتناسب مع متطلبات السوق.
وأكد أن المشروع حظي باهتمام رسمي ودولي، حيث استقبل زيارات ميدانية من ممثلي وزارات الزراعة والري والبيئة، بالإضافة إلى بعثة يابانية، أبدت إعجابها بنتائج المشروع، ودعت إلى التوسع في التجربة وتكرارها في مناطق أخرى، مع ضرورة تجاوز بعض العقبات التي واجهت التنفيذ، وعلى رأسها تحديات توفير المياه ووسائل النقل والتخزين.
وأكد أبوالحمد الشريف، في سياق تصريحاته لبوابة "الجمهورية أون لاين" إن مشروع "بداية خير" ليس مجرد مبادرة بيئية، بل تجربة إنسانية غيرت نظرة المجتمع للمخلفات الزراعية. حيث لمسنا تحولًا حقيقيًا في وعي السيدات والمزارعين، ورأينا كيف يمكن أن يتحول التحدي إلى فرصة.
وأكد أن الكمبوست المنتج أثبت كفاءته، وساهم في تقليل التكاليف على المزارعين، بل وفتح الباب أمام نماذج للتنمية المتكاملة يمكن البناء عليها في المستقبل.
بهذا المشروع، تتحول القرى من متلقّ سلبي للمشكلات البيئية إلى صانع للحلول، في تجربة تثبت أن التغيير ممكن حين يصبح الناس شركاء حقيقيين فيه. وفي ظل أزمات مناخية وتحديات زراعية متزايدة، تبدو "بداية خير" مثالًا عمليًا على كيف يمكن للبيئة أن تُحمى، وللتنمية أن تكون شاملة، حين تبدأ من القاعدة... من الأرض والناس معًا
اترك تعليق