كليات القمة لا تزال حلمًا يراود كثيرًا من طلاب الثانوية العامة، بل لعلها أسمى غايات كثيرين منهم، فمن يظفر بها فكأنما حقق المراد غاية المراد، ومن أخفق في الوصول إليها تبددت أحلامه وضاقت الدنيا في عينيه، الأمر الذي يفرض عليها ضرورة التوعية بمخاطر هذه النظرة الضيقة للتعليم في مصر لتجاوز هذه الأوهام سعيًّا لبناء مستقبل أكثر إشراقًا ونضجًا واستدامة ومسايرة للعصر.
"المساء" استطلعت آراء الخبراء لتفسير أسباب وكيفية تغيير تلك النظرة الضيقة للكليات؛ وهي النظرة التي فرضت نفسها ولا تزال على الطلاب وأولياء أمورهم خلال سنوات وسنوات.
فرغم ما يبذله الآباء في مصر من جهد ومال لدفع أبنائهم نحو كليات القمة عبر دروس خصوصية ترهق كاهل الأسر، وأحيانًا يتم التحايل بالغش للوصول إلى أعلى الدرجات، ومن لم يتحصل على هذا المجموع من الأثرياء يلجأ للالتحاق بتلك الكليات في الجامعات الخاصة باهظة التكاليف حتى يحصلوا على الوجاهة الاجتماعية التى يحلمون بها، لكن هل تغيّرت ملامح الوجاهة الاجتماعية في السنوات الأخيرة بعد صعود نجوم من نوع آخر، لا علاقة لهم بالشهادات ولا بكليات الطب ولا الهندسة، بل بصناعة المحتوى وكرة القدم والمهرجانات ووسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ أصبح المؤثرون (الإنفلونسرز) وأصحاب الشهرة السريعة نموذجًا جديدًا للنجاح والثراء، بينما تراجعت قيمة الشهادة الجامعية كممر وحيد للمكانة الاجتماعية، فهل ما زالت كليات القمة حلم الأسر المصرية؟ أم أن الخريطة تبدلت وصارت الشهرة والانتشار الرقمي هي الطريق الجديد للمكانة والثراء؟
لقد تربينا على أن الشهادة الجامعية وسيلة للترقى وكسب المال واحترام الناس رغم أن الواقع الذي جسدته الأفلام والمسلسلات ولمسناه فى الحياة كان يشير إلى تقلص هذه الأفكار، فرأينا أغلب الفنانين ولاعبى الكرة وبعض الشخصيات العامة المشهورة لم يكونوا من خريجى كليات القمة (الطب والهندسة والسياسة والاقتصاد) بل إننا عاصرنا وما زلنا نعاصر أشخاصًا درسوا فى هذه الكليات ثم لم يعملوا بشهادتهم وانخرطوا في أعمال أخرى لا علاقة لها بتخصصاتهم، كل هذا يدل على أن الشهرة قد تكسب المرء الوجاهة الاجتماعية والمال وليس فقط دراسة الطب والهندسة.
تخصصات المستقبل
يقول د.خليل موسى (استشارى تعليمي تربوى) إن اتجاهات الجميع الآن ذاهبة بعيدة تماما عما يسمى (كليات القمة)، إذ أصبح مسمى كليات القمة وهما كبيرًا بسبب زيادة نسب البطالة بين خريجى هذه الكليات، وضعف مرتباتهم؛ ومن ثم انصراف الناس عنها واعتبارها وظائف عادية ولكن هناك كليات علمية أخرى ذات رواج كبير في سوق العمل، مثل الكليات التكنولوجية والذكاء الاصطناعى والطاقة المتجددة والطاقة الكهربائية والسيارات الكهربية والهندسة البيئية والهندسة الكيميائية وهندسة الإنشاء سواء المدني أو المعماري.
أضاف د.موسى إن الهندسة الكهربائية يندرج تحتها الإلكترونيات والاتصالات التي لا يزال خريجوها مطلوبين عالميًا حتى الآن، وبعض التخصصات مثل اللغات الإنجليزية والصينية والألمانية، والاقتصاد وإدارة الأعمال موضحا أن الكليات الأقل انتشارا هي التي أصبحت أكثر ارتباطًا وطلبًا في سوق العمل.
تقليد الآباء
تقول د. راندا رزق أستاذ الإعلام التربوى بجامعة القاهرة، إن الأسرة هي النموذج الذي يلهم الطالب؛ فإما أن يكون الأب ناجحًا ويتطلع الإبن لمحاكاته أو أن يكون هذا الأب روتينيًّا جدا ويرغب في الخروج من عباءته، فالطالب الآن يتفوق على الجيل القديم بكثير حيث يوجد بينهما أعمار تكنولوجية؛ وبالتالى يجب احترام تفكيره واختياراته.
أضافت إن الأولاد دائمًا ضد الأوامر المباشرة فهم لا يتقبلونها لكن ما يجب على ولي الأمر فعله هو المعرفة الجيدة برغبة ابنه وهوايته ليقوم بتغذيتها، وفي حالة أن كان الطالب موهوبًا رياضيا أن يلتحق بكلية التربية الرياضية وإن كانت لديه ميول فنية أن يقدم في كليات التربية الموسيقية أو الفنية، لافتة إلى أن هناك كليات عظيمة جدًا مثل كليات خدمة المجتمع والتربية الرياضية والكليات الموسيقية والفنية والكليات التكنولوجية والكليات المعنية بـ «Ai» إذ لها مجالات عمل واسعة في الوقت الحاضر؛ ومن ثم فقد نصحت بضرورة تشجيع الأبناء على الإبداع والابتكار وعدم حصرهم في كليات القمة لأنها نفسها تغيرت.
أشارت إلى أنه فى أغلب الاحيان يدخل الطلاب الكليات ولا يعرفون تخصصاتها ولا يعرفون ماذا سيدرسون فيها، وهذه مشكلة نعانى منها حتى الآن وأيضا النظرة الطبقية بين الكليات وبين التخصصات؛ فتخصص الجراحة غير تخصص العظام، غير الباطنة، وأيضًا فى الآداب تخصص الاجتماع غير اللغة العربية، غير الإعلام، غير التاريخ.
تغير المفاهيم
يقول د.سعيد أمين (عضو هيئة تدريس بقسم الاجتماع بكلية الآداب جامعة عين شمس) إن مفهوم "كليات القمة" تغيّر، ولم يعد مقصورًا على كليات مثل الطب والصيدلة كما كان في السابق بل أصبح يتحدد وفقًا لاحتياجات سوق العمل الفعلي.
أوضح أن الكليات والبرامج التي تؤهل الطلاب لسوق العمل وتمكّنهم من اكتساب مهارات تطبيقية وتقنية متقدمة أصبحت هي القمة الحقيقية في العصر الحالي، مشيرا إلى أن إعداد وتطوير أداء أعضاء هيئة التدريس وتنمية مهاراتهم في مقدمة أولويات العمل خلال المرحلة الحالية باعتبارهم الركيزة الأساسية في نقل المعرفة وتخريج كوادر متميزة.
وجه د. سعيد نصائحه لكل أب قائلًا: دعوا أبناءكم يختارون التخصص الذي يريدونه في ظل ما يحيط بهم من تكنولوجيا حديثة وما يشاهدونه في العالم من برامج جديدة يستطيعون اختيار البرامج التي تتوافق مع مهاراتهم، وعليكم تشجيعهم على أن يختاروا بأنفسهم وامنحوهم الدعم الكامل ليحققوا أحلامهم في المستقبل، فكل مجتمع يصنع أوهامه، ووهم أولياء الأمور في مصر هو ما يسمى “كليات القمة”؛ إذ يحلمون لأبنائهم بمستقبل “الدكتور والباشمهندس” بناء على تسمية توارثها المصريون تقريبا “من قديم الزمن، بينما بقية المجالات تحظى بنظرة أقل دون أن يعرف أحد سببا لذلك.
أشار إلى أننا لا نعلم على وجه اليقين مَن الذي أطلق على الطب والهندسة تسمية “كليات قمة”؟ وليس من المعروف أي توصيف يمكن أن نطلقه على كليات أخرى كالآداب والتجارة والحقوق، والعجيب أن كلية مثل "الحقوق" كانت منذ 100 عام سيدة كليات مصر، لكن تراجع بها الحال وصار خريجوها كل عام يتجاوزون 100 ألف لا يجد أغلبهم وظيفة تليق باسم كلية عريقة تعلم القانون وتلعب دورا من أدوار العدالة.
من هنا ننتقل إلى التركيز على مخرجات التعليم؛ فالكلية التي يحظى خريجوها بفرص عمل وفيرة ومطلوبة هي التي يمكن تسميتها بـ”كلية قمة”، لكن هل كل مهندسينا يحظون بهذه المكانة المأمولة أم أن لتسمية دكتور وبشمهندس رنينًا سحريًّا في أذن المصريين؟.
يبدو في الأمر وجاهة ما يحبها المصريون دون أن نخضع الأمر إلى دراسة إحصائية، لكن هذا التهافت الذي تدفع فيه الأسر مئات الآلاف ليحصلوا على خريج طب وهندسة “بالعافية” يكمن وراءه سر لا علاقة له بالعلم أو سوق العمل، وحكاياتنا هنا جديرة بأن تكشف شيئا عن هذا السر الدفين في حياة المصريين الذي يسمونه “كليات قمة”.
يقول د.عصام بدر الأستاذ المساعد بكلية التجارة جامعة الازهر، إن الوجاهة الاجتماعية فى المجتمعات تعتمد على عاملين مهمين هما الشهرة والغنى ثم تأتى بقية العوامل مثل التفوق الرياضى والنجاحات العملية ولهذا يجب ان يتغير مفهوم الوجاهة وفكرة اختيار الكليات لأبنائنا عن الأفكار القديمة التى عشنا فيها منذ زمن لمواجهة التغيرات المجتمعية والاقتصادية والتكنولوجية الحالية، فلابد أن يتم ربط التعليم بسوق العمل واحتياجاته الحالية والمستقبلية في ظل اتجاه العالم حو التطور التكنولوجى بخطى متسارعة، فأصبح لابد من الاهتمام بهذا الجانب من العلوم الذي يشكل تحديا كبيرا للدول والشعوب أما غير ذلك فقد أصبح من الماضى.
أما عن العائد المادى المتحكم فى الاقتصاد العالمى فلو لم يكن هناك تخطيط لاستثمار قدرات الأبناء وإمكانياتهم وترجمتها إلى أموال فلا طائل من الالتحاق بالكليات، ونحن نشاهد مشاهير يحظون بالوجاهة الاجتماعية وبدون شهادات ولكنها شهرة ووجاهة زائفة للاسف يتعلق بها الأبناء حاليًا.
فكيف أقنع ابنى بأن التعليم والمعرفة هما بوابة المستقبل والضمان للترقي والصعود الاجتماعي وهو يرى فلانًا مطرب المهرجانات (ساقط إعدادية) أو البلوجر فلانة خريجة منازلهم تحصل على ملايين وتلبس وتشترى سيارات وتعيش فى رفاهية ورغد الحال..نعم يمكن للآباء أن يوجهوا أبناءهم باستثمار قدراتهم فيما يحبون ويهتموا بإطلاق مواهبهم وصقلها ويكون فلسفة التعليم ليس النجاح ولكن تحصيل العلم وصقل الموهبة والدخول إلى سوق العمل الذى يشتهر به البلد وهذا ما يصب فى مصلحة الأبناء والوطن ككل.
فنحن نخرج كل يوم من جامعاتنا الحكومية والخاصة آلاف الخريجين ومن كليات القمة الكثير فهل لهم مردود على الاقتصاد الوطنى هل يؤثرون بالإيجاب أو السلب.
هذا مبحث طويل جدا ولكن الخلاصة هو أن تركز الدولة على الكليات التى يتخرج فيها الطلاب الاذكياء أصحاب القدرات الخاصة والذين يحتاجهم سوق العمل فى مصر ويكون لدراستهم وتخرجهم مردود اقتصادى.
القدرات هي الفيصل
يؤكد د.عاصم حجازي أستاذ علم النفس التربوي بجامعة القاهرة، أن المفهوم الشائع لدى المواطنين حول «كليات القمة» يرتبط بالمجموع؛ أي الكليات ذات التنسيق الأعلى كالطب ثم طب الأسنان ثم الصيدلة وتكون تلك الكليات هي الرغبة الأولى بالنسبة إلى معظم الطلاب إن لم يكن جميعهم.
أوضح أن المفهوم الحقيقي والصحيح لـ«كليات القمة» والذي يجب العمل نشره ليصبح الثقافة الخاصة بنا في المستقبل يتمثل في اختلاف مفهوم كليات القمة من شخص لآخر إذ يوجد العديد من القمم وكل قمة تتناسب مع قدرات شخص معين قد لا تتناسب مع آخر.
اترك تعليق