بينما تغوص أقدام الزائر في رمال سيوة الذهبية، وتداعب أنفاسه نسمات الصحراء المعطرة برائحة النخيل والزيتون، يتراءى أمامه مشهدٌ بسيط في هيئته، عميق في دلالاته: بيت من الطين والجريد، صامت في جدرانه، لكنه يهمس بكل تفاصيل التاريخ، إنه متحف البيت السيوي، أحد أهم معالم الواحة وأكثرها تعبيرًا عن روحها الأصيلة.
يقف هذا البيت كحارسٍ لذاكرة سيوة، وراوٍ أمين لسيرة أهلها، وعاداتهم، وصناعاتهم، وطقوس أفراحهم، وملابس أعراسهم، وحتى موسيقاهم، هنا، لا تقتصر الزيارة على مشاهدة قطع أثرية، بل هي تجربة غوص كاملة في حياة مجتمع أمازيغي مصري متجذر منذ آلاف السنين.
متحف بطابع منزلي..
ومواد البناء تحكي القصة
يقع متحف البيت السيوي في قلب واحة سيوة، وتحديدًا داخل حديقة مجلس المدينة، وقد بُني على طراز البيوت السيوية القديمة، باستخدام نفس مواد البناء التقليدية التي استُخدمت لقرون، مثل الكرشيف، وهو خليط فريد من الطين والملح الصخري المجفف بالشمس، وتكمن عبقرية هذه المادة في قدرتها على حفظ درجة حرارة معتدلة داخل المنازل طوال العام، رغم مناخ الصحراء القاسي. أما الأسقف، فهي من جريد النخل، ما يمنح البناء مظهرًا متناسقًا مع طبيعة سيوة الزراعية.
ويقول محمد جيري، أحد أبناء سيوة: "البيت السيوي ليس مجرد مبنى، بل هو وعاء للروح السيوية. أردناه أن يكون حيًّا ينطق بما عايشه الأجداد من بساطة وخصوصية ثقافية".
فكرة من الشمال البعيد..
دبلوماسي كندي ينقذ التراث
تعود فكرة إنشاء المتحف إلى دبلوماسي كندي عاش في سيوة أواخر الثمانينيات، وأدرك التهديد الذي يُحدق بتراث الواحة وسط موجات التحديث العمراني. فخشي أن تضيع ملامح البيوت الطينية وعادات السكان في زحام الزمن، وسعى لإنشاء متحف يُحافظ على هذا التراث من الاندثار. وبدعم من الحكومة الكندية، خرج المشروع إلى النور وافتُتح رسميًا أمام الزوار في ديسمبر 1990، ليصبح أول متحف في سيوة يوثق الثقافة المحلية بهذا الشكل العميق.
مشغولات وأزياء وموسيقى..
ذاكرة سيوة في التفاصيل
في أرجاء المتحف، تصطف قطع فنية ومشغولات يدوية تُمثل مزيجًا من الثقافة الأمازيغية والمصرية.
فهناك السجاد السيوي الشهير، والمجوهرات التقليدية المصنوعة من الفضة، والأواني الفخارية، وأدوات الطهي، والأزياء المطرزة بدقة، كما يعرض المتحف الآلات الموسيقية التي كانت تُستخدم في الأعراس والاحتفالات القبلية، وعلى رأسها "الزمارة" و"الدف"، وفستان العروس السيوية التقليدي، الذي يتميز بتصميمه الفريد وزخارفه الأمازيغية الأصيلة، إلى جانب زي العريس السيوي.
ويقول الشيخ عمر راجح، شيخ قبيلة أولاد موسى: "البيت السيوي ليس فقط مكانًا للعرض، بل هو تعبير صادق عن العادات التي نحافظ عليها حتى اليوم، وننقلها لأبنائنا كوصية مقدسة".
الزوار، سواء من الداخل أو الخارج، لا يأتون إلى المتحف فقط لالتقاط الصور، بل ليعيشوا تجربة غنية بالحكايات والتفاصيل. الأطفال يندهشون من شكل الأدوات القديمة، والشباب يتعرفون على عادات أجدادهم، والسائحون الأجانب ينبهرون بجمال العمارة الطينية والبساطة الآسرة للحياة في الواحة.
تقول سارة، سائحة فرنسية زارت المتحف مؤخرًا: "شعرت كأنني دخلت آلة زمن. التفاصيل الصغيرة هنا تتحدث عن شعب عميق، وثقافة لم تتأثر بالعولمة".
ورغم نجاح المتحف في جذب آلاف الزوار سنويًا، يطالب كثير من أبناء سيوة بتوسيع التجربة، وإنشاء نسخ مماثلة في قرى الواحة المختلفة، وتوفير دعم أكبر لتوثيق التراث غير المادي، مثل الأغاني الشعبية، والحكايات المتوارثة، والحرف التي تندثر بمرور الزمن.
ويقول أحد العاملين بالمتحف: "نحتاج إلى تدريب مرشدين متخصصين في التراث السيوي، وإنتاج أفلام وثائقية تُعرض داخل المتحف، وربطه بالمهرجانات الثقافية".
البيت السيوي ليس مجرد متحف، بل هو وثيقة حية لهوية مجتمع مصري أمازيغي عريق. إنه مرآة لروح سيوة، وشاهد على عبقرية البساطة والتكيف مع البيئة، وإذا كانت مصر تفخر بأهراماتها ومعابدها، فإن سيوة تفخر بهذا البيت الطيني الذي يؤرخ حياة بأكملها ويجعل من التراث الشعبي تجربة معاشة وليست مجرد ذكرى.
اترك تعليق