بينما يشهد العالم تحولًا رقميًا غير مسبوق، وضغوطًا مناخية متزايدة، وحالة من عدم اليقين الجيوسياسي، أصبحت قضية الطاقة أكثر تعقيدًا وحيوية من أي وقت مضى. لم نعد نبحث عن الطاقة فقط لإضاءة المدن أو تشغيل المصانع؛ بل نحتاجها اليوم للحفاظ على استمرارية الحوسبة السحابية، وتشغيل وسائل النقل الكهربائية، ودفع عجلة الاكتشاف العلمي، بل ولتغذية النمو المتسارع للذكاء الاصطناعي.
وسط هذا المشهد الديناميكي، أعادت الطاقة النووية التأكيد على مكانتها بهدوء وبقوة. فبعيدًا عن كونها تكنولوجيا تقليدية، اثبتت الطاقة النووية أنها عنصر لا غنى عنه لمستقبل البشرية. فهي المصدر الوحيد للطاقة القادرعلى الجمع بين الاستقرار، والقدرة على التوسع، والانبعاثات الصفرية للكربون؛ وهي ثلاثة عناصر أساسية لمواجهة تحديات المرحلة المقبلة.
وعلى الرغم من أن السرديات السائدة حول التحول في مجال الطاقة تركز غالبًا على الألواح الشمسية ومزارع الرياح، فإن شكل الطلب العالمي الحقيقي يُعاد تشكيله في مكان آخر. على سبيل المثال، يشير الذكاء الاصطناعي إلى أرقام مذهلة. فوفقًا للوكالة الدولية للطاقة، قد يصل استهلاك الكهرباء العالمي للذكاء الاصطناعي إلى 800 تيراواط/ساعة بحلول عام 2030، أي ما يفوق الاستهلاك السنوي للطاقة في العديد من الدول متوسطة الحجم.
قد يبدو الذكاء الاصطناعي افتراضيًا وسلسًا، لكن البنية التحتية التي تدعمه—مراكز البيانات، وأنظمة التبريد، والحواسيب العملاقة—هي بنية مادية بحتة. فكل تفاعل مع روبوت محادثة، أو مولّد صور، أو نظام ترجمة فورية، يُطلق سلسلة عمليات كثيفة استهلاك الطاقة عبر مزارع الخوادم المنتشرة عالميًا. اليوم، تمثل مراكز البيانات حوالي 1.5% من إجمالي استهلاك الكهرباء العالمي، ومع تضخم نماذج الذكاء الاصطناعي وانتشارها، من المتوقع أن ترتفع هذه النسبة بشكل حاد.
هذا يخلق مفارقة لافتة: نحن نوظف الذكاء الاصطناعي لجعل مجتمعاتنا أكثر كفاءة واستدامة، لكن تكلفة الطاقة العالية لهذا الذكاء قد تقيد التقدم الذي نسعى لتحقيقه. وعندما يُستخدم الذكاء الاصطناعي في قطاعات حيوية مثل تشخيص الأمراض، أو الاستجابة للكوارث، أو إدارة البنية التحتية الحضرية، يصبح توفر طاقة نظيفة ومستقرة وغير منقطعة ضرورة لا تقبل التهاون. ففي مثل هذه السياقات، انقطاع التيار ليس مجرد إزعاج، بل قد يكون كارثة .الذكاء الاصطناعي هنا مجرد مثال قوي—وليس الوحيد—لكيفية اعتماد تقدم القرن الحادي والعشرين على أنظمة طاقة قادرة على توفير المزيد، والأفضل، في آن واحد.
في مواجهة هذا التحدي، يأتي دور الطاقة النووية ليس فقط كخيار قابل للتطبيق، بل كعامل تمكين استراتيجي لمستقبل يتسم بالتعقيد والتسارع. على عكس المصادر المتجددة المتقطعة، توفر الطاقة النووية كهرباء مستمرة، عالية الكثافة، وخالية من الانبعاثات الكربونية، مما يجعلها الدعامة المثالية للأنظمة التي تتطلب موثوقية وقدرة على التوسع في نفس الوقت.
سواء كان الأمر يتعلق بدعم تجمعات الذكاء الاصطناعي كثيفة الاستهلاك للطاقة، أو تشغيل شبكات النقل الكهربائي، أو تزويد أنظمة تحلية المياه بالطاقة في المناطق التي تعاني شحًا مائيًا، فإن الطاقة النووية تقدم الاستقرار والقدرات التي يتطلبها المستقبل العاجل.
تجربة مراكز البيانات المجاورة لمحطة كالينين النووية في منطقة "تفير" الروسية تُعد نموذجًا حيًا على ذلك. هذه المحطة، التي تضم أربعة مفاعلات VVER-1000، تضمن إمدادًا كهربائيًا مستقرًا على مدار الساعة، وهو أمر بالغ الأهمية لضمان أمان وكفاءة عمليات مراكز البيانات التي تدعم قطاعات حيوية مثل الطاقة والرعاية الصحية والتمويل والنقل في هذه المدينة.
هذا التكامل بين البنية التحتية المتقدمة والإمداد الموثوق للطاقة يعكس التطور الأوسع في قطاع الطاقة النووية، الذي تجسده شركة "روساتوم". وفي عامها الثمانين، تحولت روساتوم من كونها رائدة في المجال النووي إلى قائد عالمي للطاقة، تدفع عجلة الابتكار في بناء المفاعلات، والشراكات التكنولوجية الدولية، وتطوير المفاعلات المعيارية الصغيرة (SMRs) التي صُممت خصيصًا لتلبية المتطلبات المعقدة واللامركزية لعالم اليوم.
خذ على سبيل المثال مشروع "أكاديميك لومونوسوف"، أول محطة طاقة نووية عائمة في العالم، الذي بدأ تشغيله قبل خمس سنوات، وقد وفر بالفعل أكثر من مليار كيلوواط/ساعة من الكهرباء النظيفة للمناطق النائية في روسيا. وفي الوقت نفسه، يجري إنتاج مفاعلات سلسلة RITM-200 المدمجة والفعالة والقابلة للتوسع، والتي تتنوع تطبيقاتها من الاستخدام الصناعي إلى المجتمعات البعيدة. وفي عام 2023، وقّعت روساتوم أول عقد تصدير في العالم لمشروع مفاعل معياري صغير مع أوزبكستان، مما يعكس تنامي الثقة العالمية في الجيل التالي من التكنولوجيا النووية.
لكن أهمية الطاقة النووية تتجاوز مجرد توفير الكهرباء. ففي مجال الطب، المستحضرات الصيدلانية الإشعاعية التي تطورها روساتوم تحدث ثورة في تشخيص وعلاج السرطان. وفي الزراعة، تدعم التقنيات النووية مكافحة الآفات والحفاظ على المحاصيل. أما في الصناعة، فتُستخدم النظائر في اختبار المواد، أما في مجال المياه، فإن محطات التحلية التي تعمل بالطاقة النووية تطرح حلًا مبتكرًا لأزمة ندرة المياه التي تواجه العديد من الدول.
وربما الأهم من ذلك أن الطاقة النووية لم تعد حكرًا على الدول ذات الدخل المرتفع. فمن خلال برامج التدريب، وتطوير البنية التحتية، وشراكات التمويل، تساعد روساتوم دولًا مثل مصر وبنغلاديش وتركيا على القفز بخطوات واسعة نحو المستقبل. محطة الضبعة للطاقة النووية، المشروع الرائد لمصر بالشراكة مع روساتوم، ستوفر ليس فقط كهرباء منخفضة الكربون، بل ستدعم أيضًا الصناعات المحلية، وتوفر آلاف فرص العمل عالية المهارة، وتسهم في تعزيز المنظومة التكنولوجية لمصر.
بينما نستعد لعصر ستشكل فيه "المعلومات"—سواء كانت اصطناعية أم بشرية—مستقبل كل قطاع من قطاعات الحياة، علينا أن نتذكر حقيقة بسيطة: لا يمكن لأي منهما أن يزدهر دون بنية تحتية قوية وإمدادات طاقة مستقرة. خلف كل خوارزمية هناك معادلة طاقة، وخلف كل مستقبل مستدام هناك مصدر قوة يجمع بين القدرة على التوسع، والثبات، والانبعاثات الصفرية. هذا المصدر، بلا شك، هو الطاقة النووية.
اترك تعليق