هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

حماية العلامات التجارية في الإسلام ضمان الحقوق وصيانة الأمانة

يُعد حفظ الحقوق من أعظم مقاصد الشريعة الإسلامية السمحة التي تميزت بمبادئ والتزامات حياتية أوجدها الله سبحانه وتعالى لتيسير أمور البشر وتنظيم أحوالهم، ومعروف لدى الجميع مدى صرامة الإسلام بكل ما يتعلق بحفظ واحترام حقوق المسلم، وقد جاءت النصوص القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة بتحريم جريمة السرقة وتجريم مرتكبها، وتضمنت عقوبات رادعة في حق السارق.


 


 

وبهذا الصدد لا يخفى أن سرقة الملكية الفردية، والعلامات التجارية الأصلية المسجلة، أو الاحتيال عليها لا تقل خطورة عن السرقة بالأساليب والأنماط التي اعتدنا رؤيتها؛ فهي تضر بمصالح أصحابها، وتفوت عليهم فرصة النمو والتطور، فضلًا عن الأضرار التي تلحق بسمعتهم مِن جراء قيام سارقها بخداع المستهلك مع سابق نية.
 

ونشرت دار الإفتاء سؤال جاء فيه: ما هو الحكم الشرعي في سرقة الملكية الفكرية والعلامات التجارية الأصلية المسجلة من أصحابها؟ وما حكم فتح محلات تجارية والمتاجرة بها، وخداع المواطنين والمستهلكين بأنها العلامة الأصلية؟ وما حكم العمل في تلك المحلات بالنسبة للموظفين؟ وما هو الحكم الشرعي للذين يتعاملون مع سارقي العلامات التجارية؟ وما هي العقوبات التي ترون وجوب اتخاذها بحق سارقها؟

وأجابت دار الإفتاء: جاء الإسلام بحفظ المال، وجعل ذلك من المقاصد الكلية الخمسة التي قام الشرع الشريف عليها؛ وهي حفظ النفس والعِرض والعقل والمال والدِّين. وحقوق الملكية الفكرية والأدبية والفنية وبراءات الاختراع والأسماء والعلامات والتراخيص التجارية -التي اصطُلِح على تسميتها بالحقوق الذهنية- هي من الحقوق الثابتة لأصحابها شرعًا وعرفًا، سواء أقلنا إنَّها من قبيل الأموال كما هو مقتضى قول الجمهور في كون المنفعة مالًا متقومًا، أم قلنا إنَّها من قبيل المنافع التي تُعَدُّ أموالًا بورود العقد عليها مراعاةً للمصلحة العامة كما هو رأي المتقدمين من الحنفية.

لَمَّا كان الإنتاج الفكري والعلامة التجارية مما يُقطَع بمنفعته بحيث يحصل به الاختصاص الحاجز، ويجري فيه التقويم والتداول عرفًا، ويُتَّخَذُ محلًّا للتعامل والمعاوضة بين الناس بسبب ظهور آلات الطباعة ووسائل النشر وتطور العصر، ويثبت فيه حق المطالبة القضائية في العُرف القانوني ولا معارض لذلك في الشرع فإن هذا يجعل لمثل هذه الحقوق حكم المالية في تملك أصحابها لها واختصاصهم بها اختصاصًا يحجز غيرهم عن الانتفاع بها بدون إذنهم.

جاء الشرع بتحرِّي الأمانة في إسناد الأقوال والجهود ونسبتها إلى أصحابها؛ فحرَّم انتحال الشخص قولًا أو جهدًا أو إنتاجًا لغيره على أنه هو الذي قاله، أو إسناده إلى غير مَن صدر منه تضييعًا لحق قائله، وجعل هذا مِن الكذب الذي يستحق عليه صاحبه العقاب، ومِن جهة أخرى فقد احترم الإسلام حق الأسبقية وجعل للسابق ما ليس للمسبوق؛ فعن أَسمَرَ بنِ مُضَرِّسٍ رضي الله عنه قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْتُهُ، فَقَالَ: «مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ» رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن كما قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة".

كما أن الجهود المضنية والأموال التي يبذلها أصحاب هذه العلامات التجارية في سبيل الحصول عليها تجعل مِن انتحال غيرهم لها ظلمًا لأصحابها بأكل أموالهم وتضييع جهدهم بالباطل وإلحاق الضرر بهم، والله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29]، ويقول سبحانه: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188]، قال الإمام القرطبي في "تفسيره" (2/ 338) عند هذه الآية: [الخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق، فيدخل في هذا: القمارُ والخداعُ والغُصُوبُ وجحدُ الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، أو حَرَّمَته الشريعةُ وإن طابت به نفسُ مالكه، كمَهر البَغِيِّ وحُلوان الكاهن وأثمان الخمور والخنازير، وغير ذلك] اهـ.

وفي انتحال هذه العلامات بغير حق إيهامٌ بحصول المنتحِل على العلامة التجارية الأصلية وتشبُّعٌ بما لم يُعطَ زورًا وكذبًا، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» متفق عليه من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، إضافةً إلى ما في ذلك مِن التدليس على الناس وغشهم وخداعهم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» رواه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

بناءً على ذلك: فإن انتحال الحقوق الفكرية والعلامات التجارية المسجلة من أصحابها بطريقة يُفهِم بها المُنتَحِلُ الناسَ أنها هي العلامة الأصلية هو أمر محرم شرعًا، يدخل في باب الكذب والغش والتدليس، وفيه تضييع لحقوق الناس وأكل لأموالهم بالباطل. ولا يجوز شرعًا أن يقوم أحد بفتح محلات تجارية ليخدع المشترين ويتاجر بهذه العلامات التي انتحلها زورًا وكذبًا على أنها العلامة الأصلية.

كما أن كل عامل أو موظف يساهم بعمله في هذا التزوير والتدليس والغش للناس فعمله حرام؛ لقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].

ولا يجوز أن يتعامل الناس مع هؤلاء المنتحلين للعلامات التجارية بشراء هذه السلع منهم؛ لأن المسلم مأمور بإنكار المنكر وتغييره حسب استطاعته وسلطته، وشراؤه لهذه السلع مِن هؤلاء يتنافى مع ذلك؛ لأن فيه إعانةً لهم على باطلهم وظلمهم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا»، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: «تَحْجُزُهُ -أَوْ تَمْنَعُهُ- مِنَ الظُّلْمِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ» رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

أما العقوبات التي تُتَّخَذُ بشأن هؤلاء فالأصل أنها مِن باب ضمان المُتلَفات وتقدير الضرر الواقع على أصحاب العلامات الأصلية، وهذا الضرر يحكم به القاضي تبعًا لتقدير الخبراء في كل واقعة بحسبها، إضافة إلى ما يمكن أن يراه ولي الأمر في ذلك مِن عقوبة تعزيرية رادعة للسُّرَّاق عن الوقوع في مثل هذه الممارسات الجالبة للضرر الخاص والعام.

والله سبحانه وتعالى أعلم.





تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي

تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي جوجل نيوز جوجل نيوز

يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل

اترك تعليق