نقرأ في هذه الأيام كلامًا عن أخطاء بعض الأطباء عند إجرائهم لبعض العمليات الجراحية أو عند معالجتهم لبعض المرضى؛ فما هو الحكم الشرعي في هذه الأخطاء؟ وما مدى المسؤولية على الأطباء؟
آشار فضيلة الدكتور محمد سيد طنطاوي أن مهنة الطب من المهن التي وجدت منذ آلاف السنين؛ لأن الإنسان في كل زمان ومكان يبحث عما يشفيه من مرضه، وقد يضحي في سبيل ذلك بكل ما يملك من أموال؛ إذ الصحة نعمة لا تعادلها نعمة ولا يعرف قيمتها معرفة تامة إلا الذين ذاقوا آلام المرض وجربوا متاعبه وهمومه، وفي الحديث الشريف: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ، وَالْفَرَاغُ» رواه البخاري، ولقد اقتضت رحمة الله تعالى بعباده أن يوجد في كل زمان ومكان أناس يوفقهم إلى معرفة الدواء الذي يؤدي إلى الشفاء من العلل والأسقام، وإذا كانت معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تتناسب مع ما برع فيه أقوامهم فإننا نجد أن معجزة عيسى عليه السلام كان هناك جانب كبير منها يتعلق بالطب؛ لأن الطب في زمنه عليه السلام كان على رأس المهن التي نبغ فيها قومه، قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْني﴾ [المائدة: 110]، ولقد كان كتاب "القانون" في الطب للشيخ الرئيس ابن سينا المتوفى سنة 428هـ من المراجع الطبية الأصيلة في أوربا، ووصل الحال بهم أنهم كانوا لا يمنحون شهادة الطب للشخص إلا إذا كان مجيدًا لجميع النظريات التي اشتمل عليها هذا الكتاب النفيس الذي ترجم إلى اللغات المختلفة، ورحم الله القائل: "إن علم الطب قد دخل على أوربا بعمامة وعاد إلينا بعد حينٍ بقبعة"، والذي يراجع "مقدمة ابن خلدون" يجد كلامًا جيدًا عن علم الطب وعن مجالاته وعن طرق العلاج وعن أشهر المؤلفات التي ألفت في هذا العلم. راجع: "مقدمة ابن خلدون" (3/ 1441) بتعليق الأستاذ الدكتور علي عبد الواحد وافي.
ويوضح لنا فضيلة الدكتور محمد سيد طنطاوي من النصوص الفقهية يتبين لنا بوضوح أن الفقهاء قد تعرضوا لبيان العقوبات الشرعية التي تترتب على مخالفة الطبيب وغيره لما تقتضيه طبيعة مهنته من أمانة وخبرة وأداء سليم لها، وملخص ما قالوه في ذلك: إن نتائج مخالفته لآداب مهنته إن كانت جنائية عوقب بما يناسب جنايته، وإن كانت غير ذلك فهي داخلة في نطاق الأشياء التي يمكنها المحتسب ويملك العقوبة بها من الناحية التأديبية، ولقد كان المحتسب في الأزمان الماضية يملك ما تملكه أية هيئة إدارية اليوم أو ما تملكه نقابة الأطباء بلوائحها ورسومها، وبذلك يكون الفقه الإسلامي قد نظم مهنة الطب وقصرها على الأشخاص الذين يحكم أهل الخبرة وعلى رأسهم كبير الأطباء بأنهم يصلحون للقيام بهذا العمل الإنساني الدقيق، ويكفي دلالة على ذلك ما رواه أبو نعيم من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ» رواه بن ماجه.
ثامنًا: وكما فصل الفقهاء القول في الحالات التي تجعل أصحاب المهن وعلى رأسهم الأطباء مسؤولين عن نتائج أخطائهم فقد فصلوا القول أيضًا في الحالات التي ترتفع عنهم فيها المسؤولية، وملخص ما قالوه في ذلك: إن عدم المسؤولية منوط بالإذن إذا كان العمل معتادًا ولم يجاوز الرسم المتبع في أمثال هذه العمليات، بأن يكون ما فعله الطبيب موافقًا للقواعد الطبية التي تتبع في كل مرض ببينة، وفي كل حادثة على حدتها، فقد جاء في "الدر المختار وشرحه" (6/ 68): [ولا ضمان على حجام وبيطار وفصاد لم يجاوز الموضع المعتاد] اهـ بتصرف. أي لم يفعل فعلًا يخالف ما جرى عليه الأطباء في معالجة ذلك الجرح أو تلك العلة، وبعد فهذه قطوف من مسؤولية الأطباء كما يراها الفقهاء، ومنها نرى أنهم لم يقصروا في بيان هذه المسؤولية وفي تحرير محل النزاع فيها وفي بيان ما للأطباء من حقوق وما عليهم من واجبات. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
اترك تعليق