أشارت دار الإفتاء المصرية إلى أن الابتلاء قد ينقل الحكم التكليفي من دائرة العزيمة إلى دائرة الرخصة، فيصير ما كان محظورًا مسموحًا في فعله، وما كان واجبًا مسموحًا في تركه، وما ذلك إلا لكون الابتلاء يورث حرجًا أو مشقة تستوجب ذلك التيسير والترخيص، بل إن الابتلاء من أكثر أسباب التيسير مساسًا للتفريع الفقهي.
ولفتت إلى أن الناظر فيما كتبه الفقهاء يمكن أن يقسِّم الابتلاء إلى عام وخاص لكلٍ منهما ضوابطه، وإن كان الأثر الفقهي المترتب على كل منهما واحد.
- فالأول منهما وهو الابتلاء العام معناه: اشتداد حاجة أكثر المكلفين أو فئة معينة منهم للتيسير في أمر شائع متكرر يتعسر عليهم تركه أو الاحتراز عنه، بحيث لو كُلِّفوا اجتنابه لوجدوا في ذلك مشقة غير معتادة؛ يقول الإمام الصنعاني في "إجابة السائل شرح بغية الآمل" (ص: 109، ط. مؤسسة الرسالة): [ومعنى عموم البلوى شمول التكليف لجميع المكلفين أو أكثرهم عملًا] اهـ..
- والنوع الثاني من أنواع الابتلاء: الابتلاء الخاص، وهو اشتداد حاجة المكلف للتيسير في أمر متكرر يتعسر عليه -بصورة خاصة- تركه أو الاحتراز عنه، بحيث لو كُلِّف اجتنابه لوجد في ذلك مشقة غير معتادة، وذلك نحو أن يبتلى شخص بمرض كسلس البول مثلًا، فإنه يشق عليه تجديد الوضوء لأداء الصلاة كلما نزلت منه قطرة بول، لصعوبة الاحتراز والعجز عن التحكم مع كثرة خروج الحدث، فتشتد حينئذ حاجة المكلف لأداء الصلاة مع التيسير في أحكام الطهارة، فهذه بلوى خاصة لا يجدها الشخص الصحيح، وإنما يبتلى بها بعض المكلفين بصورة خاصة، قد تتفاوت مشقتها من فرد إلى آخر، مما يحتم على المفتي دراسة العناصر المختلفة المحيطة بالحادثة ثم إصدار فتوى خاصة لكل فرد بحسب بلواه، بخلاف ما يصدره المفتي من أحكام عامة في عموم البلوى.
ومن تعريف الابتلاء بنوعيه وأمثلة كل منهما يصح استخلاص ما يضبط بها عموم البلوى وخصوصها، فالشيء الذي تعم به البلوى لا بد أن يتوافر فيه ضابطان:
- أولهما: شمول الأغلبية: فقضية عموم البلوى تتميز بهذا الضابط عن قضية خصوص البلوى؛ وذلك لأن في العموم ينظر إلى الحالة الغالبة لجميع أفراد المكلفين أو أكثرهم أو فئة معينة منهم، ويثبت الترخيص في هذه الحالة دون حاجة إلى استفتاء خاص.
بينما في خصوص البلوى يُنظَر إلى حالة كل فرد على حدة وإلى ملابسات الواقعة التي يُستفْتى فيها، فتتعدد بذلك الفتاوى وتختلف تبعًا لاختلاف أحوال المكلفين ووقائعهم.
كما أوضحت الإفتاء أن قضية عموم البلوى وخصوصها تندرج تحت قاعدة كبرى هي قاعدة: "المشقة تجلب التيسير"، وهو ما أردناه من قولنا: إن الأثر الفقهي المترتب على عموم البلوى وخصوصها واحد، فإذا صحت ضوابط الابتلاء جاز الترخيص، والذي قد يكون بإباحة المحرَّم: كما في الضبة الصغيرة من فضةٍ للحاجة، وكلبس الحرير لمن به حِكَّة في جلده. وقد يكون بتقديم ما حقه التأخير، أو تأخير ما حقه التقديم، وكما في الجمع بين الصلاتين في السفر.
وقد يكون بتقليد من أجاز، بأن يُقدمَ المرء على فعل شيء له وجه يجيزه شرعًا، وإن لم يكن راجحًا في نظره، وذلك خير له من أن تُغَلَّق أمامه كل الأبواب فلا يجد أمامه من سبيلٍ إلا اقتحام المحرَّم، وقد كان له سعة بأن يقلَّد من أجاز.
اترك تعليق