ينتمي المخرج المسرحي المصري سمير العصفوري. إلي جيل الستينيات . الذي اعتبروه الجيل الذهبي للمسرح والشعر والرواية. والثقافة عمومًا في مصر. صحيح أن مياهًا كثيرة جرت في الأنهار. وتغيرت البلاد ومن وما. عليها.لكن نظرة التقدير لهذا الجيل تحديدًا مازالت قائمة حتي الأن. باعتباره جيلاً مؤسسًا ورائدًا.
أنجز العصفوري عشرات المسرحيات للقطاعين العام والخاص. تنوعت مابين التراجيديا والكوميديا. وإن تميزت أعماله لمسرح الدولة بصبغتها الطليعية. وبدأ انطلاقته الأولي ممثلًا ومخرجا بمسرحية" الدرس" لـ يونسكو.
آخر أعمال هذا المخرج الرائد عرض" في انتظار بابا" الذي تم تقديمه علي خشبة المسرح القومي. العرض الذي واجه مشكلات عدة. سواء في مرحلة الإعداد أو في مرحلة التنفيذ. لذلك . وكما قال في حواره لـ "تياترو" فهو ليس سعيدًا به.ليس بسبب سوء مستواه. كما قد يتبادر إلي الذهن. وإنما لسوء المناخ الذي أحاط بالعرض.
المناخ الحالي يختلف تمامًا. كما يقول العصفوري. عن المناخ الذي نشأ في ظله فترة الستينيات من القرن الماضي. كان عرض " الدرس " لـ يونسكو هو مشروع تخرجه في المعهد العالي للفنون المسرحية . الذي التحق به بعد حصوله علي ليسانس الآداب في اللغة العربية من جامعة عين شمس.والمشرف كان المخرج والممثل الكبير حمدي غيث. وحصل العصفوري علي تقدير جيد جدًا في مرحلة البكالوريوس وكان أول دفعته. وأصر حمدي غيث. الذي كان مشرفًا علي المسرح الحديث أيضًا إلي جانب تدريسه في المعهد. أن يبدأ الموسم المسرحي بعرض "الدرس" من إخراج هذا الطالب المتفوق.ورفض غيث أن يُكتب اسمه كمشرف علي العرض. وعندما طلب منه العصفوري أن يستعين بممثل كبيرلأداء دور الأستاذ. مثل حسن البارودي . أو عبدالرحيم الزرقاني. رفض غيث وقال "أنت المخرج والأستاذ". وهو ماحدث.
ولأن الستينيات. بحسب العصفوري. كانت فترة ذهبية بالفعل وذات مناخ صحي.فقد فوجئ عندما قدم مسرحية " مأساة الحلاج" لصلاح عبدالصبور عام 1967 علي مسرح دارالأوبرا الخديوية. بثروت عكاشة .وزير الثقافة وقتها. بين مقاعد المتفرجين مع محمود أمين العالم رئيس هيئة المسرح. وبعد انتهاء العرض استدعاه عكاشة وناقشه في العرض وفي بعض الكلمات التي أضافها إلي النص. حيث كان يحفظ نص عبدالصبور. ثم سأله عن دراسته. وعندما علم أنه تخرج في المعهد العالي للفنون المسرحية. قال "هذا لايكفي. عليك بالحضور غدًا إلي مكتبي" وفوجئ العصفوري. للمرة الثانية . بثروت عكاشة. يطلب من معاونيه إنهاء إجراءات سفر هذا الشاب إلي باريس في بعثة لعمل دراسات عليا في المسرح. لم يكن وحده بالطبع وقتها حيث أوفد عكاشة عشرات الفنانين والمبدعين في بعثات إلي أوروبا للدراسة والاستزادة.
قصة العصفوري مع مأساة الحلاج. كما يحكيها. بدأت قبل ذلك بقليل.وهي تشير أيضًا إلي المناخ السائد في فترة الستينيات.كانت هناك فرقة مسرحية تابعة لجامعة الأزهر. جاء أفرادها إليه وطلبوا منه أن يخرج لهم هذا النص. سألهم كيف تقدمون هذا النص تحديدًا وأنتم طلاب في الأزهر. فأرجعوا السبب إلي عدم وجود شخصيات نسائية به. قال لهم إن موضوع النص صعب وربما سبب لكم متاعب. لكنهم أصروا. وتم تقديم العرض علي مسرح الهوسابير. وجاء صلاح عبدالصبور وعدد كبير من الشعراء والأدباء وملأوا الصالة. ولم يتصور سمير العصفوري أن عرضًا جامعيًا ينال كل هذا الاحتفاء. وبقي الأمر في ذاكرة صلاح عبدالصبور.الذي طلب من محمود أمين العالم إسناد إخراج مأساة الحلاج إلي هذا الشاب. وهو ماحدث. وتم تقديمها لمسرح الدولة علي دار الأوبرا الخديوية.
أحدثت مأساة الحلاج جدلًا كبيرًا بين النقاد.منهم من اعتبرها عرضًا طليعيًا مهمًا ومختلفًا. ومنهم من أطلق عليها" مهزلة الحلاج". لكن عبدالصبور نفسه قال "أنا كتبت وجهة نظري ومن حق المخرج أن يقدمها بوجهة نظره هو". هكذا كانت الروح . كما يشير العصفوري.
قدم العصفوري هذه المسرحية. كما يقول. في شكل ملهاة. قال لنفسه هذه المسرحية العباسية القديمة عن متصوف خرج عن حدود عزلته ليتكلم عن هموم الناس. فهل أقدمه بشكله التاريخي القديم. أم في إطار معاصر. رأي أن الحلاج رجل جاد . حر. يعبد من يعبد. ويري من يري.هو حر في خيالاته وأحلامه وشعره.هو خرج من إطار الاستسلام للروح ليري سيركًا كاملاً من البشر. حكامًا ومحكومين. وهنا تنتج الملهاة لأنه رأي " أراجوزات. فقهاء مزورين. وحكامًا فاسدين. ومحكومين مغلوبين علي أمرهم.وكان الفنان محمد السبع الذي قام بدور الحجاج أحد أفراد مجموعة متصوفة.والصوفيون . وقتها.كما يقول المخرج الرائد. لم يكونوا بلهاء. كانوا علي درجة عالية من الثقافة والوعي. ويحضرون العرض كل ليلة. ويقولون لمحمد السبع" تاني يامولانا".
اتخذ سمير العصفوري منهجًا مختلفًا عن منهج سعد أردش. أحد أساتذته. كان أردش يعشق بريخت.ويري أن المسرح ينبغي أن يكون سياسيًا قحًا.ويعطي درسًا للمشاهدين. أما أنا- يقول العصفوري- فكنت أري أن المسرح ليس مرآة للواقع. ولاينبغي له أن يكون. ولكنه عدسة .توضح وتقرب الصورة أو تبعدها. وتبنيت هذه الرؤية في كل أعمالي حتي لو كانت النصوص التي اتعامل معها شديدة الواقعية.
ربما لهذا السبب حدث مايسميه العصفوري" كارثتي مع عرض في انتظار بابا". كثير من مشاهدي العرض يقولون لم نفهم شيئًا. ماذا تقصد.وبعضهم يفسر العمل عكس ماقصدته تمامًا. نعم أنا أسعد بتعدد القراءات.ولاأقصد فرض قراءة واحدة للعمل. أترك العمل لرؤية وخيال المشاهد.كيف اتكلم عن الحرية وأنا مصر أن يأتي المتفرج ليأخذ حصته من الدرس. مسرحي ليس تعليميًا. هو مسرح مفتوح .وعلي كل مشاهد أن يري مايراه. لكن مايزعجني هو التفسيرات أو القراءات التي تجنح بعيدًا تمامًا عن جوهر العرض.
عودة سمير العصفوري إلي المسرح مؤخرًا بعد غياب عشر سنوات. كانت محل تساؤلات.يجيب عنها بقوله: نعم توقفت عشر سنوات. ليس تعاليًا علي المسرح أوزهدًا فيه. كان لدي مشروعات بالتأكيد. لكن الحقيقة أن أحدًا لم يقل لي تفضل.وعندما استدعوني لبيت. ذلك أن المسرح عمومًا تم اختزاله في شكل محدد لم أشأ الاقتراب منه.مسرح الدولة . ومسرح القطاع الخاص الذي أغلقت آخر ستارة له مع آخر عرض لعادل إمام. لأنه كان أهم فنان في هذا المسرح. وأهم إشارة سياحية. كانت القاهرة مكانًا لهبوط الطائرات لمشاهدة عروض القطاع الخاص الذي كان متنفسًا لكثير من الفنانين. لكنه مات الآن.
البديل الذي حل الآن .كما يوضح سمير العصفوري.هو مسرح السرعة والإنترنت والاسكتش. يقول: سألني شباب في مسرح مصر. "كيف تقدم مسرحية جادة في ثلاث أو أربع ساعات". هذا الجيل ليس لديه الوقت ليكتب قصيدة. يمكنه كتابة رباعية. أو عمل اسكتش سريع.هم يرتجلون النص قبل وأثناء العرض مباشرة.هذه هي صناعتهم الآن. لكن المشكلة ماذا صنعوا ؟المسرح انتقل إليك في البيت في سهرة خفيفة وسريعة. وانطبعت في أذهان الناس فكرة الاسكتش. والمسرح حامل القضايا وحامل الأسئلة لم يعد له وجود. "الرغي" هو سيد الموقف.
لست ضد الضحك بالمناسبة.يوضح العصفوري. لكن أن أضحك من دون أن أفكر . فهذا معناه إلغاء الوعي. الآن تم استبدال مسرح الاسكتش والمسلسلات التي لاتقول شيئًا. بنعمان عاشور وألفريد فرج وصلاح عبدالصبور وعبدالرحمن الشرقاوي وغيرهم من كبار الكتاب.
كان غريبًا أن ينتقل سمير العصفوري في إحدي الفترات . من مسرح يونسكو. وأوسكار وايلد. ودورينمات. وصلاح عبدالصبور. إلي نوع آخر تمامًا. مسرحية" حزمني يابابا" علي سبيل المثال.لمسرح القطاع الخاص .التي لعبت بطولتها الراقصة فيفي عبده مع محمد هنيدي وحسن حسني.عن هذه النوعية يقول العصفوري: استفدت كثيرًا من مسرح القطاع الخاص الذي ذهبت إليه بوجهة نظري. وساعدني هذا المسرح للانفاق علي مسرح القطاع العام. عملت بالمسرح السياسي بالقطاع الخاص حتي استطيع تقديم" البيج شو" الذي أحلم به.لكن بعض المثقفين لم يستوعبوا الأمر.وتصوروا أنني أقدم هذه المسرحية حتي ترقص فيفي عبده. مسرحية " حزمني يابابا" كان اسمها" حزمني يابابا في هذا الزمن الصعب". واكتفي كاتبها أحمد عوض بـ" حزمني يابابا". وهي تناقش قضية مهمة جدًا. وتتناول صراعًا يحدث في الواقع. نعم بعد يونسكو وعبدالصبور وسواهما اتجهت إلي مسرح آخر هو أقرب إلي روح الملهاة لكنه يثير قضية مهمة تقنع المشاهدين بشكل مرح. وفيها متعة . وتحقق إيرادات طيبة. ما العيب في ذلك؟ يسأل سمير العصفوري.
اترك تعليق