بقلم:فولاذ عبدالله الأنور
الجزء الأول :
في زمن ما من الأزمنة التي تعاقبت على لياليه الشهباء، وفي يوم من أيام الخريف، لا يتذكر اسمه الآن، وإن كان يتذكر وقائعه المدهشة، حيث كانت أوراق سبتمبر تسقط بغزارة من على الأشجار المطلة على نوافذ مدرستها الجميلة، حين انعطف الخريف على الربيع في معزوفة كونية يندر أن تتكرر بسهولة.
رآها لأول مرة، ثم رأى نفسه في اليوم التالي وهو يتحرر من أخلاط الناس إلى آفاق العزلة، وينسلخ من منتديات المدينة إلى غرفة مكتبته، منطوياً عن أفراد أسرته الصغيرة، متفكراً فيها هي، متأملاً حاله التي آلَ إليها بعد أن رآها وقرأ في عينيها القصة التي سوف تكون، وإن لم يكن قد أجاد قراءة نهايتها في عينيها الملتمعتين بالأسرار وخفايا الأغوار، ربما لأنها لم تكن تعلم مثله عن النهاية شيئاً.
وتناغما معاً، وانطلق الخريف مع الربيع في آفاق المدينة وجنباتها، وعزفتِ الأكوان منظومتها الخالدة في واحدة من أبلغ الظواهر الكونية التي تفأجيء الناس، دون تعليلٍ لها أو اعتراضٍ على غرابتها!
لا دخل لهما إذن في مغازلة أشجار الخريف لنوافذ الربيع، ولا دخل لهما في رسائل الغرام التي تلقيها هذه الأشجارُ بغزارة علي شرفات الربيع وشبابيكه، لتتصل بزهرة الحياة.
ولا دخل لهما أيضاً في انعكاس هذا المشهد عليهما في استجابةٍ لاإرادية منهما لظاهرةٍ من ظواهر الكون، تستعصي على اللائمين عند المناظرة معهم أو الاشتباك.
هكذا كانت (أروىٰ) معه، وهكذا كان (هو) معها، وهكذا كانت الطبيعة تعمل فيهما عملَ الظواهر الكونية التي تتأبّي على المقاومة والإنكار.
فعلامَ إذن اختفت عشرَ سنوات ثم عادت، ثم اختفت مِن بعد ذلك خمسَ عشرةَ سنةً كاملة، ثم عادت.
ها هي قد عادت اليوم بعد خمسةٍ وعشرين عاماً، لتنفخ في الرماد من جديد، وترشّ على وجهه ماء الحياة، فيستفيق بلا تصديق، ذلك الرجلُ الذي أنحله الهوى، وأصبح من بعدها مجرد كائنٍ يأكل ويشرب، ويلهو ويلعب، ثم هاهو أخيراً يُفيق على أقوى ما في عروق الحياة من الدماء الضخاخة بالحب والجمال.
هل كان يعلم، بعد مُضي خمسة عشر عاماً على آخر مرة التقيا فيها، أن السنوات الضائعة ستعود إليه من انفلاتها المؤلم الطويل بسطوعها المبهر وعينيها اللامعتين بمكامن الأغوار والأسرار أمام عينيه الغارقتين في الدّهَش والتساؤل والدموع؟
(أروىٰ) الحياة المقتضبة في أربعة حروف.
الوجه الذي يستعصي على النسيان.
والعينان اللامعتان الملآوان بقصة الخلق، والخروج المذهل من الفردوس الأعلى إلى مناكب اليابسة وفجاجها المتشعبة في الأقطار والبلدان.
(أروىٰ) الخدّان المجلوّان، كمرآتين ملساوَين، يعكسان له القمر الساهم في الفضاء، فيضيئان له الطرق الجانبية والممىراتِ في الحديقة التي تواعدا فيها للمرّة الأولى، ويُصَفّيان له أشعة الشمس وهو خارج معها ـ في المرة الثانية ـ من المنتدى الهاديء في رائعة النهار.
(أروىٰ) صوتها المخمليّ العميق بنبرات حنجرتها الحريرية يرنّ في رئتيه، كما يرنّ في الكهوف المهجورة صدىٰ الأمواج المتلاطمة في البحر البعيد.
(أروىٰ) الأنوثة التي تفيض بخصوبة الأرض وحرارة الطمي الذي لا تعيقه الخزانات أو السدود المعترضة نهرَ الحب، لتُنجب لك على الفور روائعَ الشعر والموسيقا، وفرائد الآداب والفنون.
(أروىٰ) الجمال الفخيم، الذي يسترعي انتباهك إلى اهتزاز الحقول بثمارها الناضجة وترعرعها بعَبق الغابات والبساتين، ويستدعي وقوفك مشدوهاً أمام زخّات المطر ومساقط الشلالات الضخمة في مغازلتها الأبدية لفتنة الأرض وجمالها الأزليّ.
(أروىٰ) حبيبته القديمة الجديدة، التي لا دخل له في حبها غير دوّامة عينيها الجاذبتين إلى أسرار الخلود وغرائب المحبة والجمال، ولا دخل لها في حبه إلا طبيعة الأنثى المجبولة في غور أعماقها على تسميد الأرض وتوليد الحضارة والفنون.
ـ هل حقاً كانت تحمل في تموّجات ظهورها إعجازاً يُضاف إلى عجائب الحياة؟
ـ نعم، كانت كذلك.
كانت باختصار شديد رسالةً إليه من السماء. ورسائل السماوات محفوفةٌ دوماً بالمعجزات، ألم تكن هي في حدّ ذاتها معجزة؟
ـ بَلى
ـ على الأيام إذن أن تترصع بالربيع، وعلى الليالي أن تتطرز بالدانتيل وأحمر الشفاه، وعليه هو أن يتجهز مرةً أخرى لوقائع الحب وتباريحه الخالدة، وليكن ما يكون.
وبصوتٍ مُتهدّجٍ قال لها:
ـ ياااااااه، بعد خمس عشرة سنة؟ هل ممكنٌ هذا؟
ـ ولكنني لستُ هي !
ـ ولكنها دالّةٌ عليكِ.
ـ وما الفرق، أنتَ تبحث عنها، لا عنّي.
ـ بل أبحث عنكِ، كانت هي الصورة التي تدلّ على الأصل.
ـ وهل وجدتَ الأصل؟
ـ أنا الآن في حضرة الأصل، لا في استحضار صورته الذاهبة، خمسة عشر عاماً وأنا أبحث عنكِ، ومن قبلها عشرة أعوام، تغيّرتُ فيها كثيراً وأنا أبحث عنك.
ـ أنت تبحث عن أروىٰ
ـ ليكن، هي تشبهكِ، ولكنكِ لا تشبهينها.
ـ ! ؟
واختلطت بحباله الصوتية قطراتُ دموعٍ حبسها بمهارة، وقال لها بارتباك المحبين:
ـ تشبهكِ في ملمحٍ واحد، ولا تباريكِ في عشرات الملامح أو تجاريكِ في مئات الدلائل والسمات.
واستدرك ـ وقد خطفه بريق عينيها إلى ارتياح جوارحها ـ قائلاً:
ـ لماذا تأخرتِ كل هذه السنوات؟
ـ أو لستُ أنا معكَ الآن؟
ـ بَلى، ولا يوجد من يضاهيني الآن وأنتِ بجانبي، كلماتكِ تتقاطر من شفتيكِ حرفاً حرفاً، كما تتقاطر أوراق الوردة ورقةً ورقةً علي الجالسين في مَمشى البساتين، فكيف يضاهيني أحد؟
والتمعت عيناها ببريق المكنونات مرةً أخرى، وتحول كلُ شيءٍ فجأةً إلى ضدّهِ الجميل: عادت الصورة المعهودة إلى الأصل المنشود، وانتقل الزمن من حِراكه المعتاد إلى التوقّف والثبوت، وتحولت القيلولة القائظة إلي أمسية ربيعية زاخرةٍ بالنسيم النديّ الذي هبّ على وجهه فانعكست عليه أمَارات الرضا المصحوب بالشجن والحنين وقال:
ـ أروى.؟
ـ نعم
ـ كل هذا الحنان ؟
وأشرقت الدنيا من حوله بنور ابتسامتها العميقة، وهي تقول:
ـ يبدو أنني تأخرت كثيرا
ـ !
ـ سأضطر إلى الخروج.
وخرجا يقطعان الطريق معاً بصمت المحبين، وكان ظل الأشجار يتماوج على أسوار المنتدى الذي كانا فيه ـ فتذكر أشجار الخريف ومغازلتها لنوافذ الربيع في الماضي البعيد ـ فيما كان يبدو على السيارات المارقة في الجهة المقابلة أنها تتلصص على المشهد غير المألوف في هذا الحي الزاخر بالمارة والسابلة الذين لا يعرفون شيئاً عن الظواهر الكونية حين يُراد لها أن تكون.
اترك تعليق