أسماء جلال هي من بين الشاعرات اللائي يغزلن حروف قصائدهن سجادة يدوية أنوالها تلك الصور الشعرية القلقة ، لايمكنك ترك قراءة أعمالها حتى نهايتها ، قصائدها ونثرياتها مغلفة بورق شفاف تسطع حروفـها خلاله، تفتحهما لتجد فيهما صدقاً عجيباً وإثراءاً في كل مكامنه.
وبينا أنا أقلب قصائدها استرعتني آخر ما كتبته " مُنتصَف " ، أبياتها صرخة أنثى بمثابة تذكير لجميع من حمل عواطفه حرماناً وعذاب ، تقول :
المَشاويرُ لا تنتهي
والخُطى لا تمَلُّ طريق الأماني ..
وبالعجز لا تعترِفْ
ما الذي يخدغُ الموتى
أنهُ البَعثُ يجلبُ حَظًّا على خطّ كَفّ ؟
آهِ يا الـ مُنتصَفْ !
ذكرياتٌ أَبَتْ أن تُوَلّي
سوى أنْ تُوَشّمَ فوقَ دمي مِن تمائمها كُلَّ حرفْ
ونَذيرٌ من الحُلم يُومِضُ كالبَرقِ .. ثم يَجِفّ
وأنا بينَ هذين أقرؤني ..
وأُرَسِّبُ عمري ..
وحينَ أُعيدُ صياغةَ وجهي
تَفُور القصائدُ نَزفْ
إنه " المنتصف " الذي يفصل بين ماضينا وحاضرنا ، يتم التعبير عنه في استحضار مفاجئ ورائع لنداء أنثى مكلومة:
يسمعُ العابرون نشيدي
فيُطرِبُ أرواحَهم وجعي المُحترِفْ
آهِ يا الـ مُنتصَــفْ !!
بين سِحر الحروفِ وغُربتنا
لم نزَلْ نختلِفْ
لي كتابٌ
إذا شِئــتُ آخذُهُ بيَميني
يَميني ارتجَفْ
ليس بيني وبينَ براءة وجهي حتى حنين الصُّدَفْ !
هذه القصيدة حملت تلميحاً ومغزى أساسي لما تضمنه خطابها المعلن ، كُتب هذا النص في بداية فبراير / شباط من هذا العام .
والقلق الذي وجدناه في قصيدتها " مُنتصَف " ، وجدناه كذلك في " مجازفة "، أعادت من خلالها التذكير بما أعلنه إليوت أنه يجب على الشاعر " تطوير أو تدبير " وعيه بالماضي ، مؤكداً أنه إذا كنا نحن المعاصرين نعرف بالفعل أكثر من الكُتّاب الأموات ، فإنهم بالتحديد - الكُتّاب الأموات - هم الذين يشكلون ما نعرفه:
أتحمّسُ كثيراً للموت !
كم من التفاصيل سآخذ معي ! ؟
كم من التفاصيل سأترك ؟
أيها الشاعر(ة)
هل يمكن أن تعارض الحياة بجزءٍ من موتك ؟
أيها القابل دوماً للإقناع ..
ماذا تكتب ؟
هذه الأرواح المُعلّبة
مُحتجزةً داخل أجسادٍ .. محظورة
تأكل لحوم الألم وثمار النحيب
لتزداد مناعتها ..
وعندما تدخل إلى غرفة الأمل
ينهض الغبار واقفاً يستقبل - وحده - غباءها
بين شفتين من مطاط تحتبس ضحكتها وهي تحدث نفسها :
مُجازفةٌ كبرى
أن تفتح باب القلب ( المُعقّم بشدة )
لهذا الطارق الغريب .. في زمن الوباء !!!
كُتب هذا النص في 29 يناير / كانون الثاني 2021 .
وما بين النصين السابقين ، تقف قصيدتها " أما قبل " ، كتبت في 26 يناير / كانون الثاني 2021 ، لتعلن هذه المرة قلقاً من نوع آخر ، مُغلفاً برومانسية امرأة عاشقة ليست كباقي النساء ، أصولها فلاحة لا تعرف الرقص أو كما قالت :
رَأيتُ ما بينَ ذِراعيهِ طريقًا لم تكُنْ قبلي مُباحَةْ ..
وقالَ: هيّا راقِصيني ..
قُلتُ: قدْ لا أُحسِنُ الرّقْصَ ...
أنا فَلّاحـــةْ !
وما سِوَى أنْ قال : " أهـــواكِ " ...
استفاقَتْ خُطوتي ... وعانَقـتْ خُطوتَهُ
حتى استفَزّتْ رقصَتي أقداحــَهْ !!
أكَانَ للدُّروبِ أنْ تأكُلَ ظِلّي يومَها ؟
وتُسْلِم الذكرى لدَهْسِ العابريــنْ
مَن المُلامُ ها هُنا ؟
أنا ؟
أمْ أنتَ ؟
أمْ أقْدارُنا ! ؟
عندما يبدو أن أجزاءً كبيرة من حياتنا تتغير في لمح البصر ، فإننا نتذكر أن الشعر يمكن أن يساعدنا في التعامل مع الحقائق الجديدة وتقييم المجهـول في المستقبل ، عندما نخطو إلى أرض مجهولة ، بمفردنا أو معاً ، يمـكن للشعر أن يأسر مشاعرنا ، يمكن أن تشارك نقاط الضعف والندوب لدينا ، إلى جانب نقاط قوتنا الشعراء باحثون ومستجوبون، يستكشفون المجهول ويساعدون في إعطائه الشكل، إن الرؤى والحكمة في كثير من الأحيان ، يكون مجرد تسمية الخوف – شخصياً أو روحياً أو سياسياً - هو الذي يقدم العزاء ، ويذكرنا بأن الناس مرتبطون بمخاوفنا وشكوكنا وكذلك أفراحنا ، من خلال مقاومة الخاتمة والإجابات السهلة والاستماع إلى الظلام ، تذكرنا هذه القصيدة بأن الشعر كان دائماً قادراً على التعامل مع الشكوك والغموض وظلال اللون الرمادي:
وأنتَ عَالِقٌ بكَهْــفِ غيري مِن سنيــنْ !
وأحرُفُ الرسائل التي تأتي، ولا تأتي ..
وصمتْ :
.." اليومَ لا تُقابليني .. ربما غدا
وإنْ ظروفي منَعَتْ ..
مُرّي أمامَ شرفة الأحلامِ صُدفةً " ..
تَعِبـــــــتْ !!
تَعِبْتُ ميعادَ الهوى المُؤجّلَ العَنيـــــدْ ..
تَعبتُ أنْ أراكَ ..
ثمّ أَدّعي بأنني وأنتَ ( أصدقاء ) لا مزيدْ
تَعبتُ لمّا أرهقَ الخيالُ عَظمي
وأنا أُلقي بنفسي بينَ كفّيْكَ مساءً
واللقاءاتُ بأحلامي لهيبٌ في الوريدْ
وثُمّ إنْ قابَلْتَني ..
قلتَ : " احذري أنْ يلمحوكِ ..
لا تسيري بجواري ... واتبعيني مِن بعيــــدْ " ..
في بعض الأحيان ، يكون الضغط لقمع أو تمويه المشاعر السلبية أمرا ًحقيقياً ، ومع ذلك ، فقد أظهرت الدراسات النفسية أن قبول تلك المشاعر السلبية هو الطريق الأكثر موثوقية لاستعادة راحة البال والحفاظ عليها ، سواء تم ممـارسته في أشكال العلاج الشائعة بشكل متزايد مثل العلاج بالقبول والالتزام والعلاج المعرفي القائم على اليقظة ، أو قبول المشاعر المظلمة للفرد مدعومة بمجموعة من الأدلة التي تربط هذه العادة بمرونة عاطفية أفضل ، وأعراض أقل للاكتئاب والقلق:
لا تسيري بجواري ... واتبعيني مِن بعيــــدْ !! "
رأيتُ ذاتَ مرةٍ طريقاً ..
خَطيئتي أني ( رأيتُ ) ..
حينَ كانَ كلُّ مَن يسيرُ بالقطيع قانِعاً بعينِ راعِيهِ،
وعن خُطاهُ لا يَحِيدْ.
إن سحر القبول يكمن في تأثيره المخفف على ردود الفعل العاطفية للأحداث المجهدة ، هذه الآلية يمكنها ، بمرور الوقت ، أن تؤدي إلى صحة نفسية إيجابية، بما في ذلك مستويات أعلى من الرضا عن الحياة ، بعبارة أخرى، لن يؤدي قبول المشاعر المظلمة مثل القلق أو الغضب إلى إحباط أو تضخيم التجربة العاطفية ، ولن تجعلننا سعداء على الأقل ليس بشكل مباشر.
اترك تعليق