تطبخ أمي أنواع الطعام المختلفة التي تحبها العمة فردوس، ابنة عم أبي الكبيرة، التي يعتبرها بمثابة شقيقة له، وكذلك جميع أفراد العائلة حيث يحبها الكبير والصغير، وينتظرون زيارتها المعتادة على مدار العام، لا تنسى أحد، ولا تتكاسل عن توزيع الود والحنان، وها هي تزورنا لأول مرة في منزلنا الجديد، لذا أهيئ فراشي حيث ستنام بجواري لمدة ثلاثة أيام، لا تزيد عليها أبدا، لأنها على موعد مع ثلاثة أيام مثلها في بيت عمي بالهرم، ثم تعود إلى بيتها في المنصورة.
عندما وصلت كانت مُجهدة من الطريق، ركنت عصاها بجوار كنبة الانتريه وفردت قدميها على الكنبة وهي تقول: يا غادة اعملي لي ليمون ساقع وكتري السكر ربنا يسترك، الله يرحمك يا سي محمد كنت أحسن واحد يعمل ليمون.
ضحك أبي: لسه فاكرة محمد يا دوسة؟
- وهو يتنسي يا فهمي، ده الراجل اللي سترني وخلاني ست بجد.
بعد تناول وجبة العشاء جلسنا بجوارها على الأرض أنا وأمي وأبي وأخواتي نسمع بشغف وهي تحكي أنها، زمان، كانت قد تخطت الثلاثين عاما "كان على أيامي السن ده يعني الست قربت تبقى جدة، وأنا كنت لسة بنت" لذلك فقد الأهل والأقارب الأمل في زواجها، وأعتبروها غير موجودة، وفي يوم من أيام الصيفية، كما تقول بصوت شاب رغم تجاعيد وجهها الكثيرة، حيث كان الحر شديدا: "جفاني النوم، خرجت من الباب الوراني- الخلفي- للدار وقعدت على عتبته اشم شوية هوا". في نفس الوقت تعطلت عربة كارو كانت لعامل ينقل عليها بضاعته بجوار الباب، فك الحمار من العربة وراح يعمل على تصليحها، بينما نامت هي "لطشني الهوا ونمت أصل الحتة دي كانت بحري". تقولها وتنظر بعين كليلة في وجوهنا كمن يتأكد من انتباهنا، ثم تقول: وبعدين إيه حسيت بنفس سُخن على وشي، فتحت عينيا لقيت رأس الحمار قريبة مني، قلت: يا فرج الله الحمار بيبوسني، ياللا أهي حاجة من ريحة الرجالة".
وجلجلت ضحكتها فضحكنا حتى سعل أبي، قامت أختي لتحضر له كوبا من الماء وهي أخبرتنا أن الـ"سي محمد" صاحب الكارو سمعها وأبتسم، وثاني يوم ذهب إلى عمها طالبًا القُرب منه. "هو كان فوق الأربعين وأرمل تزوج كل ولاده، المهم بسببه علت أصوات الفرحة في الدار ولبست فستان أبيض زي البنات ورقصت كمان في فرحي، ودي كانت عيبة، بس كلهم عدوها لي عشان عارفين أني فرحانة".
أمسك أبي كوب الماء من أختي وقدمه للعمة فردوس التي شردت ملامحها العجوز في طيف حزين رغم الإبتسامة المعلقة على شفتيها، أخذته منه، رشفت رشفة صغيرة وقالت: "سي محمد عمره ما زعلني، وشيلته في عينيا هو والحمار".
فضحكنا كلنا بصوت عال، حتى أبي الذي كان يعرف الحكاية، لكنه كان يسمعها معنا وكأنها لأول مرة.
في هذه الليلة، بعد حكاياتها المتشعبة، وبعد أن قالت لأمي: "لازم تدعي لبنتك ربنا يجعل في وشها جوهرة ولسانها سكرة ومايحرمهاش من الفرحة، أمي كانت دايما بتدعي لي كدا وعمري ماصدقت أن دعوتها هتستجاب". راحت فجأة في غفوة وهي تتكلم، نظرنا إليها ونحن نكتم ضحكنا، نهرنا أبي حيث كان يضحك هو أيضا، فقمنا وتركناها حتى تفيق وحدها.
اترك تعليق