وفي العصور الوسطى –وتحت وطأة الحروب التي جابهتها مصر– نجح المصريون في تصنيع الأبراج المتحركة، والكبش والعبوات الحارقه والمنجنيق، كما أقام السلطان الغوري المملوكي مسبكاً كبيراً بالقلعة لتصنيع المدافع الميدانية.
أما في العصور الحديثة، فقد ركز والي مصر "محمد علي باشا" على تكوين جيش وطني قوي، ووجه عناية خاصة نحو تجهيزه وتدعيمه بالتسليح المناسب من خلال إقامة صناعات حربية متطورة بمعاونة الخبراء الفرنسيون، واشتملت على مجموعة من المصانع التي أنتجت المعدات الحربية من بارود وذخائر وبنادق ومدافع ميدان، علاوة على إنشاء أعظم ترسانة بحرية في حوض البحر المتوسط بمدينة الأسكندرية.
وقد ترتب على التفوق الملحوظ للإنتاج المصري كماً وكيفاً أن تكالبت الدول الأوربية بالتضامن مع الدولة العثمانية – على التحجيم والحد من أنشطة تلك الصناعات في مصر، وامتد ذلك الأثر – في ظل الاحتلال البريطاني– إلى الأربعينات.
بدأ التفكير في إنشاء نواة للإنتاج الحربي عندما أصبح شبح نشوب الحرب العالمية الثانية يدق الأبواب، وما قد يتبع ذلك من حصار عسكري واقتصادي يتعذر معه إمداد القوات المسلحة المصرية بما يلزمها من أسلحة وذخائر.
لذا فقد اتجه التفكير نحو ضرورة المبادرة إلى إنشاء قاعدة للصناعات الحربية بالبلاد، وعمدت وزارة الحربية في ذلك الحين إلى الاستعانة بالخبرة الإنجليزية لإنشاء مصنع للأسلحة الصغيرة وذخيرتها، كنواة تبدأ بإنتاج البندقية لى انفليد (۳۰۳)، وتشكلت بالوزارة لجنة للإحتياجات للبحث عن مصادر من شركات تقبل التعامل في هذه الظروف – وعلى أثر ذلك قامت الحرب العالمية الثانية في أول سبتمبر ۱۹۳۹ واضطر الأمر إلى إيقاف السير في تنفيذ هذا المشروع لإنشغال الدول وخاصة انجلترا بضرورات الحرب، فضلاً عن الاتجاهات السائدة في ذلك الوقت للحد من الإنفاق على القوات المسلحة المصرية.
وفي عام ۱۹٤۸ قامت الحرب الفلسطينية، وترتب على حالة التوتر التي كانت سائدة بين مصر وانجلترا حرمان الجيش المصري من الحصول على احيتاجاته الضرورية من الأسلحة والذخيرة من انجلترا باعتبارها المورد الوحيد لعتاد الحرب وما فرضه الاستعمار من حظر إبان الحرب الفلسطينية – مما أوقعه في حبائل سماسرة السلاح الأجانب من عملاء الاستعمار الغاشم الذين أمدوه بأسلحة وذخيرة فاسدة لخوض غمار حرب طاحنة.
وقد ترتب على هذا الموقف، تفجير الشعور الوطني بالحاجة الملحة إلى ضرورة قيام صناعة حربية وطنية تعتمد عليها القوات المسلحة المصرية لتلافي تكرار تلك المأساة، مما كان له أكبر الأثر في قيام أول المراحل الفعلية لإدخال التصنيع الحربي في مصر.
وعندما قامت ثورة ۲۳ يوليو ۱۹۵۲ والتي كان أهم مبادئها إقامة جيش وطني قوي يعتمد على صناعة حربية وطنية تمد هذا الجيش بالعتاد والسلاح توالى إنشاء وإقامة المصانع الحربية بهدف تصنيع الذخائر والمفرقعات والأسلحة المختلفة.
وأنتجت أول طلقة مصرية في مصنع ۲۷ الحربي يوم ۲۳ أكتوبر ۱۹۵٤ والذي اتخذ عيداً للإنتاج الحربي، وتوالى استكمال وتشغيل معظم المصانع الحربية، وازدهرت الصناعة الحربية المصرية وتمكنت من تلبية مطالب القوات المسلحة، وزادت الطاقات وتعددت الأنشطة ما بين صناعة الطائرات والصواريخ والمعدات العسكرية الثقيلة وكذا المركبات ذات الاستخدامات العسكرية.
وجاءت حرب أكتوبر ۱۹۷۳ لتظهر قيمة وفاعلية ما قدمته الصناعات الحربية الوطنية للقوات المسلحة ومدى جدوى الاعتماد الذاتي عليها الأمر الذي أكد حتمية تطوير تلك الصناعات لتتلائم مع متطلبات القوات المسلحة.
وفي عام ۱۹۷۵ تم الاتفاق بين مصر، السعودية، قطر والإمارات على إنشاء الهيئة العربية للتصنيع برأس مال مشترك وشاركت مصر بحصة عينية متمثلة في: مصنع36 لإنتاج الطائرات، ومصنع ۷۲ لصناعة المركبات المدرعة، ومصنع ۱۳۵ لإنتاج محركات الطائرات، ومصنع ۳۳۳ لصناعة الصواريخ.
وتولى تطوير الصناعات الحربية من خلال الانتقال إلى مرحلة إنتاج الأسلحة الثقيلة دبابة القتال الرئيسية”M1A1” ، دبابة النجدة “M88” والمواد القاذفة المتطورة لمحركات الصواريخ ومعدات الحرب الإلكترونية الحديثة، وقد بلغت الشركات والمصانع التابعة لقطاع الإنتاج الحربي ما يزيد عن ۲۰ شركة ومصنع.
ولتتخذ الصناعات الدفاعية والعسكرية فى مصر نهجا جديدا بالانفتاح على التصنيع بالشراكة مع دول الغرب، عندما بدأت مصر فى عام 1976 التعاون مع فرنسا لإنتاج الصاروخ (كروتال) الشهير الذى أدخل عليه المصريون حوالى عشرين تعديلا تزيد من كفاءته ومداه، وواكب ذلك تطوير الطائرات الميج ودبابات) 54، 55، 62(T وكذلك العربات المدرعة السوفييتية.
أما فى مجال البحرية فقد أحرزت مصر سبقا جديدا عندما تمكن خبراء القوات المسلحة المصرية فى عام 1976 من بناء ستة زوارق صواريخ فى ترسانة الإسكندرية وهى تماثل تماما الزوارق السوفييتية من طراز (كومار) التى تم تسليحها بمعدات غربية.
ومن بعد هذه الإنجازات السريعة دفعت فرنسا بوزير دفاعها إيفون بورج ليقوم بزيارة عمل للقاهرة حاملا فى أجندة تحوى أسماء كبريات شركات السلاح الفرنسية التي تطلب أن تشارك الهيئة العربية للتصنيع فى صنع سلاح مصرى عربى، وعلى رأس هذه الشركات شركة (داسو) القائمة على صناعة الأسلحة الإستراتيجية كالطائرة (ميراج) والصواريخ ومحركات الطائرات، إلا أن دول الكتلة الشرقية وعلى رأسها الإتحاد السوفييتى كان لها رأى آخر تنتقد فيه الدور الفعال الذى انتهجه الرئيس الراحل السادات الذى يحاول إرساء دعائم هذه الصناعة متهمة إياه بأن "نظام الرئيس المصرى رجعى ويريد بمثل هذه الصناعة قمع القوى الثورية"؟
فكان الرد المصرى (إن الإنتاج الجديد للهيئة العربية للتصنيع إنما سيكون للدفاع عن الدول المشاركة فى الهيئة ولأية دولة تريد أن تقتنى هذا السلاح)، وكان هذا الرد متزامنا مع التعاقد والشريك الأميركى الجديد على صنع السيارات (الجيب) الجديدة ذات الدفع الرباعى المستخدمة فى ميادين القتال والصاروخ المضاد للدبابات (سوينج فاير)، والهليوكوبتر (لينكس) بالتعاون مع إنجلترا، وأيضا الصواريخ (ماترا) جو - جو وجو - أرض ومعدات الحرب الإلكترونية بالتعاون مع فرنسا.
وفى 1980/9/24 افتتح الفريق الراحل أحمد بدوى وزير الدفاع مصنع (18) الحربى الذى يعتبر من أضخم مصانع العالم ويختص بإنتاج المدافع الثقيلة بمختلف أعيرتها حتى (203) ملليمتر وأيضا المجنزرات وعربات نقل الجنود المجنزرة مما يعد سبق صناعى كبير لمصر.
وتتواصل المسيرة حتى 1983/12/1 الذى احتفلت فيه الهيئة العربية للتصنيع بتسليم أول طائرة هليوكوبتر من طراز (جازيل) للقوات الجوية المصرية كسلاح مشترك مع القوات البحرية لضرب العدو بصواريخ جو - أرض ويمكن استعمالها كطائرة استطلاع أو إسعاف سريع، مما يعنى أنها من الطائرات متعددة المهام التى تعتبر النجاح المصرى الثانى فى مجال الطائرات بعد طائرة التدريب (ألفا جيت) مع الجانب الفرنسى أيضا.
وتنشر جريدة الأخبار فى 1984/4/14 خبرا مبهجا مفاده أن مصر قد صدرت لفرنسا كميات كبيرة من ستة أنواع لقطع غيار الطائرة (ميراج 2000)، كما ذكر الخبر أن مصر قد نجحت فى تطوير صواريخ (استريللا) المحمولة على الكتف، وفى غمار فرحة المصريين بالعيد الثانى لتحرير سيناء، أعلن المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة - وزير الدفاع الراحل - أن مصر بعد نجاحها فى تصنيع المدرعة (فهد) التى تتفوق على مثيلاتها الإسبانية والبرازيلية وتقل عنهما بمقدار النصف فى السعر - قد نجحت فى صناعة أول صاروخ مصرى مضاد للطائرات تحت اسم (عين الصقر)، وأنه تم البدء فى صناعة الجيل الثانى من صواريخ (سوينج فاير).
ومن بعد هذا الخبر بشهرين نشرت جريدة الجمهورية تحقيقا صحفيا عن صناعة السلاح فى مصر ليعلم الشعب أن أبناءه قادرون على مجاراة الشعوب المتقدمة فى أدق أنواع الصناعات، فقد تفوق المصريون فى تجميع أجزاء الطائرة ميراج - 2000 فى مدة 22 يوم فى نفس الوقت الذى يقوم فيه الفرنسيون بذات العمل فى 28 يوم، وحمل نفس التحقيق خبر آخر يفيد بأن مصنع الطائرات قد نجح فى إنتاج طرازين من الطائرة ألفا جيت، أولهما طائرة تدريب مبسطة والثانية طائرة هجومية مزودة بأشعة الليزر لتحديد مسافات الأهداف ومسار القذيفة بالإضافة للتوجيه الآلي وجهاز آخر لتزويد الطيار بمعلومات ملاحية مجمعة فى مكان واحد حتى لا يضطر للبحث فى أماكن عدة.
وبدأ فى مطلع ثمانينيات القرن الماضى مشروع تصنيع منظومات الصواريخ ذات المدى القصير والتى كانت طليعتها الصاروخ (صخر 30) الذى يبلغ مداه ثلاثين كيلو متر، ورأس الصاروخ تحمل مقذوفات ثانوية تنثر فوق مساحة الهدف، وهذا الصاروخ مصرى 100% من حيث التصميم والتصنيع، وجاء من بعده الصاروخ (صخر 18) وله نفس مواصفات سابقه مع مدى يبلغ 18 كيلو متر، يتلوهما الصاروخ المضيء الذى يوفر للمدفعية الإضاءة الليلية أثناء الاشتباك مع العدو، ويصل مداه إلى خمسة كيلو متر، ثم القنبلة اليدوية الخارقة من نوع (حسام) والتى لا يزيد وزنها عن النصف كيلو جرام، وأخيرا الصاروخ الموجه (عين الصقر) المضاد للطيران المنخفض المحمول على الكتف ما يجعله محسوبا أنه صاروخ استراتيجي، وفى نفس الفترة أعلنت مصر أن الصاروخ الشهير (سام - 7) قد تم إدخال تعديلات عليه لمنع الإطلاق الخاطئ عن طريق تزويده بدائرة تحكم وجهاز تعارف يعمل تلقائيا بدء من اكتشاف الهدف ومتابعته حتى تدميره، وفى نصر جديد للمصانع الحربية المصرية، تم الإعلان عن تصنيع قاذف صواريخ المدفعية التكتيكية بالكامل وتمت تجربتها بنجاح، وأيضا المدفعية الصاروخية (بي.إم 21)، وكذلك تصنيع سبيكة المدافع والتى تعتبر خامة إستراتيجية وسر تكنولوجى رفضت بعض الدول أن تمد مصر بها، وفى نهايات عام 1984 تم افتتاح معرض مصر الدولى لمعدات الدفاع الذى ضم أحدث أسلحة القتال فى العالم، واشتركت فيه أكثر من مائتى شركة من ثمانية عشر دولة، والذى شغلت المعروضات المصرية ثلث مساحة المعرض إضافة لمعرض خاص بالقوات الجوية المصرية.
ومن ضمن المعروضات فى الجناح المصرى أجهزة الاتصال الميداني، الاتصالات اللاسلكية، الدوائر الإلكترونية، المدفع عيار 23مم ثنائى المواسير، المدافع الهاوتزر عيارى 122 و130 مم ومواسير المدافع عيار 115مم التى يتم تركيبها على الدبابة (تى 62) وعيار 105 مم المخصص للدبابة (تى 55)، كما شاهد الجمهور محركات الصواريخ، أجهزة الاستقبال والإرسال متعددة التحويلات الإلكترونية، قنابل الطائرات، العبوات الناسفة، قاذفات اللهب، الألغام المضادة للأفراد والمعدات، أجهزة الرؤية الليلية وتقدير المسافات بأشعة الليزر ونظارات الميدان.وظهر أيضا بالمعرض منظومة (سيناء - 23) للدفاع الجوى التى تتكون من ثلاث وحدات للرادار والتتبع والقذف، وكذلك الصاروخ المصرى (طائر الصباح) المضاد للطائرات بمدى 34 كم.
وقد نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية تحقيقا عن المعرض قالت فيه أن مصر قد استبدلت محركات الدبابات السوفييتية (تى 62) والبرمائية (توبا) بعد زيادة قدرتها القتالية وإضافة أجهزة رؤية ليلية لها، كما أنتجت مصر عربات الاستطلاع الكيميائية والإشعاعية. وتقول الجريدة أن السواعد المصرية قد طورت منظومة الصواريخ الفرنسية (كروتال) فزودتها بنظام تليفزيونى يمكنه التغلب على التشويش الإلكتروني، كما تم تعديل الصاروخ الإنجليزى (سوينج فاير) المحمول على عربة لورى والذى كان لا يمكن تشغيله إلا بنزول الجندى المكلف بتشغيله من العربة، وهذه العملية كانت تستغرق ست دقائق، كما وإن حجم العربة الضخم يجعلها هدف مكشوف للقوات المعادية، لذلك اعتمد التطوير المصرى على إطلاق الصاروخ من داخل مقصورة العربة مما قلل مدة الضرب إلى نصف دقيقة، بالإضافة لتقليل حجم العربة وتخفيض وزن الصاروخ وتزويده بنظام طيران آلي. وظهر فى المعرض المدرعة (فهد) التى صنعتها السواعد المصرية القادرة على العمل فى الأجواء الحارة والمتربة وتتفوق على مثيلاتها الغربية.
وقدرت جريدة الشرق الأوسط مبيعات الأسلحة المصرية خلال عام 1982 بحوالى المليار دولار للدول العربية الشقيقة مثل السودان، العراق والأردن، مما يعنى أن هذه الصناعة الواعدة قد صارت أحد مصادر الدخل القومى المصريين وأن احتكار الكتلتين الشرقية والغربية لصناعة وتجارة السلاح قد صارا أثرا بعد عين وخصوصا بعد أن تعاقدت أسبانيا مع مصر على شراء منظومة الدفاع الجوى (آمون) إلا أن تلك المعرض لم يقم مرة ثانية إلا بإطلاق معرض EDEX2018 والذي لقى نجاحا حيث أنه صنف أفضل معرض دولي في العالم من إحدى المؤسسات الرائده في مجال تنظيم المعارض في لندن.
ومازالت تستمكل اليوم الصناعات الدفاعية المتطورة لتأخذ جمهورية مصر العربية مكانتها بين مصنعي الدفاع وعارضي الصناعات المتطورة رغم ما سبق من تحديات واجهتها وتعود مرة ثانية بالتصنيع تارة وآخرى بنقل التكنولوجيا المتطورة كما نجد معرض الصناعات الدفاعية والعسكرية المصرية (إيديكس) والذي ينتظر الجميع إطلاق النسخة الثانية ومن المنتظر منه مفاجآت عديدة للصناعات المصرية.
اترك تعليق