أحلام الملوك حق، أضغاثها سيوف مُسلطة على رقاب العباد، أيام جدب امتدت لسنوات، لا بقراتٍ سِمان فقط العجاف، رؤيا ملك وتفسير نبي، تتجلى ثانية على ضفتي النهر بعد آلاف السنين، أنّى للسنبلات أن ينبتن في أرض جدباء، شح عنها غوث السماء، هلك الزرع ونفقت البهائم والناس أجداث نخل خاوية.
ما كان ينقصني غير هذا القيظ والغبار الأصفر الذي ملأ الدنيا، لم أعد أرى الدروب والأزقة، ما عدت أرى كف يدي النحيل، التي برزت عظامها، قد كان بجوار البيت هِر اهتدي بموائه، قبل تكالب الناس عليه، مزقوه بأظفارهم والتهموه حيًا، فما عاد في ديارنا من طعام ولا سُقيا، ما عادت الإناء تنضح بما فيها، قرع ضجيجها فارغة وقرع الجوع في البطون الخاوية، أقسى من قرع طبول الحرب إذا حمي الوطيس.
بالأمس القريب زار حينا الوزير ينظر في شِكايا الناس، ما حيلته والنهر قد منع فيضه، بخل بما يجود به، ما حيلته وقد أكلوا بغلته، حيلته تجلت في قتل الجناة وحين رفعهم فوق الصُلبان، بفعلته قد أسدى للناس معروفًا، جثث أخرى من الموتى باركت بطون الجوعى.
اهتديت لداري بعويل زوجة جاري، يا امرأة كفى عويلاً، فما أكثره في البلاد، ولا تطرقي بابي، فقد واريت الثرى كل أحبابي، حاق بنا العذاب والجوع أهلكنا، يطوف بنا ليبيد أهل البلدة عن بكرة أبيها.. أسرعت الخطى إلى فناء الدار، تلمست رُكنًا قصيًا، جلست وضيقًا في أضلعي، ذرعًا بالمكان من فراق ساكنيه، تمزقت نعالي من السير في تشييع الأموات، ما عاد يشق سكون البلدة غير صوت العويل والصراخ، سوى قرقرة البطون وبكاء الصغار، أي زمان هذا الذي لا نجد فيه ما يقيم أوادنا؟
سمعت طرق النعال وتثاقل النعش على كاهل المشيعين، فقمت أصحبهم، قرب مثوى الجار رأيت بعضهم ينبشون القبور، أيها الأغبياء تعسًا لكم عمَّ تبحثون في أجسام الموتى؟ كأنهم سمعوا مقالتي، فأسرعوا نحونا، رمقت أعينهم الجثة في نهم، اختطفوها تحت أنظارنا، أسرعت ونفر معي ننشد اللحاق بهم، وجدناهم مزقوها وأكلوا أحشاءها، فرارًا لذت بنفسي أنشد النجاة، في مسعاي سمعت أحدهم "الخليفة يبيع قبور آبائه"، سألت: لم البيع ومن يشتري يا هذا؟
- من يملك رغيف خبز يا رجل، لقد جاع الفاطمي.
من يملك رغيف خبز سيلوك كسراته الجافة خفية، لن يبتاع به قبرًا، ما عاد القبر بمأوى، وما فيه من مأمن، فليبحث عن "الصِديق" وزيرًا، يُعيد للأرض خزائنها، وللمحروسة فيض نيلها، ولتكف يد أُم الفاطمي، فلقد أطلقتها بالفساد في ربوع البلاد.
ست سنوات كاملة مرت، ها قد أتممناها سبعًا عِجاف، أين عام الغوث؟ فليسامحني الله، ظلمات ثلاث أطبقن عليّ، الجوع والذنب والندم، فقد امتدت يدي للموتى، اقتات لحومهم، فلم أرغب في الموت جوعًا، كفى بالنساء تركن الديار، ذهبن جائعات ينشدن أسوار بغداد، أما الرجال فقد كان لهم حظ في البلاد، فمن صنيعهم كلاليب يتربصون بها من فوق أسطح البيوت، يتخطفون من يلقونه حيًا، إنه لصيد ثمين من شاء حظه العاثر المسير في تلك الدروب، يتلمس ما يأكله، أو سهوًا ضل الطريق، هلموا فقد أكل بعضنا بعضًا.
ها قد مضت أيامٌ لا أُحصيها عدًا، دون موت أحدهم، أو مات فاستأثر به أهله، لم أعد احتمل الجوع، عليَّ بالمسير في طرقات الحي، لعلي أجد ما أقتات به، أو أكون كومة من اللحم تسد جوع بعضهم.
تمت
اترك تعليق