كان جبرائيل حبيب سكاكيني – ذلك الشاب الذي غادر مسقط رأسه في دمشق وجاء إلى القاهرة مع أسرته للعمل في مشروع حفر قناة السويس منذ أربع سنوات - يبلغ من العمر عشرين عاما وهو يتابع أخبار استفحال أذى الفئران في مناطق تجمع العمال في مشروع حفر قناة السويس. التهمت الفئران طعام أكثر من 20 ألف عامل وأتلفت ملابسهم كما أفسدت آلات ومعدات الحفر فاضطر الخواجة فرديناند ديليسبس لإيقاف أعمال الحفر في المشروع في عام 1861 كما نشر إعلانا يعلن فيه عن مكافأة مالية مجزية لمن يتوصل إلى حل لهذه المشكلة الكبيرة التي كبدته الكثير من الخسائر.
وتفتق ذهن حبيب سكاكيني عن فكرة مبتكرة لم تخطر على بال أحد رغم بداهتها، فتقدم للخواجة ديليسبس بحل من كلمتين فقط: قطط جائعة!
اشترى حبيب سكاكيني أعدادا غفيرة من القطط من مختلف مدن مصر ووضعها في شوالات كبيرة وقام بنقلها على ظهور الجمال إلى مناطق الحفر في مشروع قناة السويس.
كانت القطط في شدة الجوع عند وصولها إلى منطقة القناة إذ قضت أيام الرحلة دون طعام أو شراب..
وما أن أطلق حبيب سكاكيني سراح القطط الجائعة وسط أسراب الفئران حتى وقعت المذبحة إذ انتشرت القطط تلتهم الفئران حتى قضت عليها في غضون أيام قليلة. وكانت جيف الفئران سببا في تفشي الطاعون بين عمال الحفر فيما بعد مما أدي إلى وفاة نحو 60 ألف منهم!
ولم يحصل حبيب سكاكيني على المكافأة المالية فقط بل حصل كذلك على وظيفة "رئيس ورش تجفيف عموم البرك والمستنقعات في مصر"!
كانت إمداد القاهرة بالماء يعتمد في ذلك الوقت على عدد كبير من البرك التي كانت تصلها المياه عبر الخليج المصري الذي كان يشق وسط القاهرة بدءا من منطقة فم الخليج ثم يجري في مسار شارع بورسعيد (شارع الخليج المصري سابقا) حتى يصل إلى ترعة الإسماعيلية المعروفة باسم ترعة "المية الحلوة" والتي أمر الخديو إسماعيل بحفرها حتى يصل ماء النيل بقناة السويس. وكانت أشهر البرك التي كانت توفر الماء لسكان القاهرة هي بركة الأزبكية وبركة الفيل وبركة الرطل والبركة الناصرية وبركة الفوالة و بركة قرموط وبركة الشُقاف وبركة الشيخ قمر.
برع حبيب سكاكيني في مهام وظيفته الجديدة والتي كان هدفها ردم هذه البرك لما لها من آثار سلبية عند انحسار مياه الفيضان إذ تتحول إلى مناطق آسنة تزكم الأنوف ومستنقعات يتكاثر بها البعوض الذي ينشر الأمراض والأوبئة. وعلى التوازي كان مشروع مد أنابيب الماء العذب لمنازل القاهرة يجري على قدم وساق برعاية الخديو إسماعيل.
وبمرور الأيام لمع اسم حبيب سكاكيني بعد أن توالت مشاريعه الناجحة في ردم البرك وإقامة البساتين وأعمال المقاولات حتى حظي بثقة الخديو إسماعيل الذي أكرمه وجعله من المقربين فقام بتكليفه بالمشاركة في إنشاء دار الأوبرا الخديوية كمقاول لأعمال البناء.
وكان لجهود حبيب سكاكيني دور كبير في إتمام ذلك المشروع الثقافي الكبير الأول من نوعه في الشرق في زمن قياسي وبتكلفة بلغت 160 ألف جنيه، إذ تمكن من توفير جذوع النخيل اللازمة للبناء وواصل العمل على مدار ساعات اليوم من خلال تقسيم العمل إلى ثلاث ورديات مدة كل واحدة ثمان ساعات مما مكنه أن ينتهي من بناء دار الأوبرا في ثلاثة أشهر فقط ليفتتحها الخديو إسماعيل في مساء يوم الإثنين 1 نوفمبر 1869 على هامش احتفالات مصر بافتتاح قناة السويس وذلك بعرض أوبرا "ريجوليتو" التي لحنها الموسيقار الإيطالي فيردي.
أغدق الخديو إسماعيل على حبيب سكاكيني بالأموال وكان يرسل إليه بعربته الخاصة لتأتي به في صحبة ياوره الخاص لحضور الولائم والحفلات، كما منحه لقب بك ثم لقب باشا.
وبلغ صيته أسماع السلطان عبد الحميد الثاني في الأستانة فاستضافة هو وأسرته للاصطياف على ضفاف البوسفور في معيته بقصر دولمة بهشة. وكذلك قام الخديو عباس حلمي الثاني بدعوته للاحتفال بعيد جلوسه على العرش وذلك قبل استهلال عام 1900 بأيام.
كان الفرمان الصادر من الباب العالي ينص على جواز منح البرك والمستنقعات المملوكة للدولة إلى من يتعهد بردمها مقابل سعر مميز مما أتاح لحبيب سكاكيني باشا أن يشتري بركة "قراجا التركماني" المعروفة ببركة "الشيخ قمر" والأراضي التي حولها في عام 1880 بالمزاد كما حصل على ترخيص لبناء قصر عليها بعد ردمها وحصل على موافقة من مصلحة التنظيم على مساحات البناء والتصميم.
انتهى حبيب سكاكيني من تجفيف البركة في عام 1892 وأعاد تخطيط المنطقة بالكامل إذ وضع تصميما رائعا لقصره على الطراز الإيطالي وجعله في على شكل دائرة وجعله يتوسط ميدانا كبيرا يشع منه ثمانية شوارع رئيسية قام برصفها جميعا كما قام بإعادة تخطيط المنطقة بالكامل.
استغرقت أعمال البناء في المنطقة التي عرفت باسم حي " السكاكينى" حتى عام 1897 ولا يزال قصره الرائع البديع متعة لمحبي فنون العمارة وجمالها.
إلا أن نزاعا كبيرا نشب بين حبيب باشا سكاكيني ومصلحة التنظيم بسبب تصرفه في بعض المساحات دون الرجوع لمصلحة التنظيم فحركت الحكومة قضية ضده انتهت بالصلح بعد أن تنازل سكاكيني باشا عن الشوارع الثمانية التي أنشأها واعتبارها من المنافع العامة التابعة لمصلحة الطرق بالقاهرة مقابل أن تدفع له نظارة الأشغال العمومية مبلغ 1200 جنيه كتعويض عن أعمال الردم والتمهيد التي قام بها.
حصل حبيب باشا سكاكيني كذلك على لقب "كونت" من بابا الفاتيكان في سنة 1895 وذلك لأعماله الخيرية التي قام بها للطائفة الكاثوليكية في مصر ومنها بناء ملجأ للأيتام وشراء قصر "لينو دي بيفور" وأهداه لجمعية الروم الكاثوليك في القاهرة سنة 1894 وهو القصر الذي تم تحول إلى بطريركية الروم الكاثوليك أو كنيسة القيامة الموجودة إلى الآن بشارع الفجالة ـ كما شيد حبيب باشا سكاكيني مقبرة الروم الكاثوليك في منطقة مصر القديمة بالقاهرة.
تزوج حبيب من سيدة سورية اسمها هنريت وأنجبا ولد واحد اسمه هنري سنة 1890 حصل على الماجستير فى تاريخ مصر سنة 1911 ثم الدكتوراه فى الحقوق من جامعة باريس سنة 1915 ..
توفيت هنريت سنة 1902 ثم مات الكونت جبرائيل حبيب سكاكيني باشا في 13 يونيو 1923 ودفن في مقبرة الكاثوليك التي قام بإنشائها ودفنت فيها أسرته من بعده ويتصدر مقبرته تمثال له صنع في فرنسا..
بعد قيام ثورة يوليو أهدى أحد أحفاد السكاكيني قصر الباشا بالظاهر لوزارة الصحة المصرية وفي 1961 تم نقل متحف التثقيف الصحي من عابدين إلى قصر السكاكيني وذلك بأمر من محافظ القاهرة..
وفي سنة 1983 صدر قرار وزاري من وزارة الصحة بنقل متحف التثقيف الصحي إلى المعهد الفني بإمبابة، وتم نقل بعض المعروضات إلى امبابة والبقية تم تخزينها وقتئذ في بدروم أسفل القصر.
تم تسجيل قصر السكاكيني باشا ضمن الآثار الإسلامية والقبطية بقرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1691 لسنة 1987، ليتم وضعه تحت رعاية المجلس الأعلى للآثار.
يضم القصر مجموعة من التحف الفنية الفريدة، إضافة إلى تمثال فتاة "درة التاج"، بجانب بقايا تمثال على هيئة تمساح، ويتزين القصر بأشكال فتيات وأطفال اختفى لونها الأصلى، وتماثيل صنعت من الرخام، ويحتوى على أكثر من 50 غرفة ويصل ارتفاعه لخمسة طوابق، ويحتوى القصر على أكثر من 400 نافذة وباب و300 تمثال، منها تمثال نصفي لحبيب باشا السكاكينى بأعلى المدخل الرئيسى للقصر، ويحتوى القصر أيضا على بدروم ويحيط بأركانه 4 أبراج يعلو كل منها قبة صغيرة، وينخفض البدروم 6 درجات عن الأرض وبه 3 قاعات متسعة و4 صالات ودورات مياه وغرفتين وخالٍ من الزخارف وكان مخصصًا للخدم والمطابخ.
ويجرى الآن الإعداد لترميم قصر السكاكيني كي يستعيد رونقه بعد أكثر من مائة وعشرين عاما على بنائه.
----
نقلا عن صفحة "تاريخ بدون تشويه"
اترك تعليق