رائد الطب العربي .. واستاذ الفقه الشافعي بالمدرسة المسرورية بالقاهرة
رفض استخدام الخمر في العلاج وتبرع بأمواله وكتبه للمستشفى المنصوري
ابن النفيس .. رائد علم وظائف الأعضاء في الإنسان، قالوا عنه انه موسوعة علميّة متحرّكة حيث وضع نظريات يعتمد عليها العلماء إلى الآن. نجح في اكتشاف الدورتين الصغرى والكبرى للدورة الدموية، كما ذكرت الكثير من المصادر الحديثة، وواضع نظرية في الإبصار والرؤية، وكشف العديد من الحقائق التشريحية، وجمع شتات المعرفة الطبية والصيدلانية في عصره، وقد قدَّم للعلم قواعد للبحث العلمي، وتصورات للمنهج العلمي التجريبي.
جمع ابن النفيس بين مختلف العلوم بشكل منسجم ومتوازن فاهتم بدراسة الفلسفة والمنطق والادب فوضع فيها الكتب المتميزة، وتعمق في دراسة الفقه، وعلوم الشريعة، حتى إنه أصبح أستاذًا لفقه الشافعي في المدرسة المسرورية بالقاهرة، وكان مهتمًا بالتفسير العقلاني لنصوص القرآن والحديث، وذلك خلافًا لبعض معاصريه، مطالبا بالتّحرر من الأفكار الخاطئة والتي كان يخشى غيره من العلماء الاقتراب منها. وذلك إلى جانب نبوغه وعبقريته في الطب، فهو أشهر من درس علوم الطب من العرب.
نقترب من رئيس أطباء مصر لنتعرف عليه أكثر
البطاقة الشخصية
الاسم: أبو الحسن علاء الدين على بن أبى الحزم القـَرْشي الدمشقي، الملقب بابن النفيس
تاريخ الميلاد: 607 هجرية الموافق 1211 ميلادية
محل الميلاد: مشارف غوطة دمشق، قرب الميدان
المهنة: رئيس أطباء مصر وطبيب السلطان عالماً، ومؤلفاً، وفقيها من المشهورين
الألقاب: الرائد الأول في علوم الطب
محطات مهمة في حياته
يعود أصله إلى بلدة «قَرْش» في بلاد ما وراء النهر (وهي تركستان وتقع اليوم معظمها في دولة أوزبكستان وأهلها من الترك) حفظ القرآن الكريم وتعلم الفقه والحديث، والسيرة واللغة والأدب والنحو على مجموعة من العلماء والشيوخ في دمشق، حتى أصبح واحداً من فقهاء الشافعية، كما تعلم المنطق والفلسفة، ثم درس الطب في البيمارستان النّوري (المستشفى النوري) في دمشق، الذي أنشأه نور الدين محمود وجذب إليه أمهر أطباء العصر، الذين توافدوا على المستشفى من كل انحاء العالم الإسلامي.
واتجه ابن النفيس لدراسة الطب وهو في سنة الـ 22 من عمره بعد ان أصيب بأزمة صحية سنة (629 هجرية / 1231 ميلادية) ويحكي هو ذلك فيقول: "قد عرض لنا حميات مختلفة، وكانت سِنُّنا في ذلك الزمان قريبة من اثنتين وعشرين سنة، ومن حين عُوفينا من تلك المرضة حَمَلنا سوء ظنِّنا بأولئك الأطباء (الذين عالجوه) على الاشتغال بصناعة الطب لننفع بها الناس"، وتتلمذ على يد مهذب الدين عبد الرحمن المشهور باسم الدخوار، طبيب العيون البارع وأحد كبار الأطباء في التاريخ الإسلامي، كما اتّبع في عمله منهج الطّبيب الحارث بن كلدة الثقفيّ حتى أصبح طبيباً مهماً له منهجه الخاص في التّشريح والعلاج.
ولم يكتفِ ابن النفيس بما درسه على مشاهير الأطباء والاساتذة في البيمارستان النوري، بل إنه حرص على قراءة كتب ابن سينا وأبقراط وجالينوس وغيرهم، وقال البعض: إنه كان يحفظ كتاب القانون في الطب لابن سينا عن ظهر قلب. ثم انتقل إلى القاهرة في عام 633 هجرية / 1236 ميلادية ليعمل في البيمارستان الناصري وكان عمره وقتها 28 عاما، ورافقه خلال هذه الرحلة زميل دراسته ابن أبي أُصَيْبعة صاحب كتاب طبقات الأطباء.
التحق ابن النفيس بالعمل في البيمارستان المنصوري – مستشفى قلاوون الآن، ومعه زميله اب ابي أصيبعة الذي شغل رئيس قسم الكحالة (العيون)، بينما أصبح ابن النفيس مشرفاً عليه باعتباره أكبر مستشفيات القاهرة آنذاك وعميدًا للمدرسة الطبية الملتحقة به، كما عمل رئيس أطباء مصر ثم أصبح طبيبًا للسلطان. وكان له مجلس في داره يحضره أمراء القاهرة ووجهاؤها وأطباؤها، كما كان أعزبًا فأغدق على بناء داره في القاهرة، وفرش أرضها بالرخام.
مؤلفاته
وضع ابن النفيس الكثير من المؤلفات والكتب في الطب والسيرة وعلم الحديث واللغة والأدب والفلسفة والمنطق تم نشر بعضُها، ولازال البعض الآخر في محبوسا على رفوف المخطوطات داخل المكتبات، لم يرَ النورَ حتى الآن نذكر منها بعض النماذج في مختلف العلوم:
1--الشامل في الصناعة الطبية:
أضخم موسوعة طبية كتبها شخص واحد في التاريخ الإنساني، وقد وضع مسودتها بحيث تقع في ثلاثمائة مجلد بيّض منها ثمانين. وتمثل هذه الموسوعة الصياغة النهائية والمكتملة للطب والصيدلة في الحضارة العربية الإسلامية في العصور الوسطى. وكان ينوي أن يجعل هذه الموسوعة مرجعًا طبيًا شاملاً، لولا أن وافته المنية بعد أن أعدَّ منها ثمانين جزءًا، وهي تمثل صياغة علمية لجهود المسلمين في الطب والصيدلة على مدى خمسة قرون من العمل المتواصل. ونجح الدكتور يوسف زيدان في جمع أجزاء الكتاب المخطوطة، وحرص المجمع الثقافي في أبو ظبي على نشر الكتاب محققًا، وخرج إلى النور ثلاثة أجزاء منه، وذلك في سنة 1422 هجرية / 2001 ميلادية.
2-- شرح تشريح القانون:
وهو من أهم كتب ابن النفيس، وقد نشر في القاهرة سنة 1408 هجرية / 1988 ميلادية بتحقيق الدكتور سلمان قطابة، وقد جمع فيه أجزاء التشريح المتفرقة في كتاب القانون لابن سينا وشرحها، ووصف الدورة الدموية الصغرى ليوضح ان ابن النفيس سبق علماء الطب إلى معرفة هذا الموضوع من الفيزيولوجيا.
3-- الموجز في الطب:
ويعتبر مرجعًا لكل من أراد دراسة الطب، وقد تناقله العلماء بعضهم من بعض، وكَثُرَت شروحُه والتعليقات عليه لما نال من منزلة بين علماء العصور كلها حتى يومنا هذا، ويوجد نسخ منه على شكل مخطوط في كل من باريس وأكسفورد وفلورنسا وميونيخ والأسكوريال، ويقع في أربعة أجزاء، وقد نال تقدير وإجلال أطباء العالم؛ لذا فقد كثُرَت ترجمته إلى اللغات الأجنبية وتعدَّدت التعليقات عليه، وقد نُشِر سنة 1406 هجرية / 1985 ميلادية في القاهرة بتحقيق عبد المنعم محمد عمر، وكانت قد سبقتها نشرة ماكس مايرهوف ويوسف شاخت ضمن منشورات أكسفورد سنة 1388 هجرية / 1968 ميلادية.
4-- شرح فصول أبقراط
طبع في بيروت سنة 1409 هجرية/ 1988 ميلادية، بتحقيق ماهر عبد القادر ويوسف زيدان.
5-- المختصر في أصول علم الحديث
نشر بالقاهرة سنة 1412 هجرية/ 1991 ميلادية بتحقيق يوسف زيدان
6-- الرسالة الكاملية
مؤلف في السيرة النبوية
7-- طريق الفصاحة
كتاب متخصص في النحو
8-- شرح كتاب التنبيه لأبي اسحق إبراهيم الشيرازي
كتاب متخصص في الفقه الشافعي
9-- فاضل بن ناطق
كتاب صغير متخصص في علم الكلام عارض فيه رسالة حي بن يقظان لابن طفيل
إنجازاته
1-- أول من اكتشف الدورة الدموية الصغرى
2-- صحح أخطاء جالينوس في تشريح القلب
3-- أول من تحدّث عن تغذية العضلة القلبيّة من الشّرايين التّاجيّة.
4-- تحدّث عن الإبصار في العين وأبدع في ذلك، قال إنّ العين تعتبر آلةً للبصر
5-- وضع نظريات صحيحة في فيزيولوجيا الرّؤية
6-- دعا إلى دراسة التّشريح المقارن وذلك لفهم التّشريح البشريّ.
7-- تحدّث عن مفهوم التّخيل ومفهوم الإبصار وفرّق بينهما.
8-- أول من طالب بضرورة الاعتدال في تناول الملح، محذرا من أخطاره على ضغط الدّم.
9-- وضع شروطاً لاستعمال الأدوية، ومنها الوقت الصّحيح لاستخدامه ومقداره.
10-- تميّز بتشريح الشّرايين والجهاز التّنفسي وكذلك الحنجرة.
11-- اعتمد على تنظيم الغذاء للمرضى أكثر من اعتماده على الأدوية والعقاقير.
قصة اكتشاف الدورة الدموية
اكتشف ابن النفيس الدورة الدموية الصغرى، التي سجلها بدقة في كتابه "شرح تشريح القانون"، الا أن هذا الاكتشاف نُسب زوراً إلى الإنجليزي وليام هارفي سنة 1068 هجرية / 1657 ميلادية الذي بحث في دورة الدم بعد وفاة ابن النفيس بأكثر من ثلاثة قرون، وظل الناس يعتقدون هذا الوهم حتى ظهرت الحقيقة على يد الدكتور محيي الدين التطاوي، وذلك عندما عثر على نسخة من مخطوطة (شرح تشريح القانون) لابن النفيس في مكتبة برلين، وقام بإعداد رسالة في الدكتوراه عنها، وعُنِيَ فيها بجانب واحد من جوانب هذا الكتاب العظيم، ألا وهو موضوع: (الدورة الدموية)، وذلك سنة 1343 هجرية / 1924 ميلادية.
وقد ذُهل أساتذتُه والمشرفون على الرسالة، وأصابتهم الدهشة حين اطَّلعوا على ما فيها، وما كادوا يصدقونه!! ولجهلهم باللغة العربية بعثوا بنسخة من الرسالة إلى الدكتور "مايرهوف" المستشرق الألماني الذي كان آنذاك يقيم بالقاهرة، وطلبوا رأيه فيما كتبه الباحث، وكانت النتيجة أن أيّد مايرهوف الدكتور التطاوي، وأبلغ حقيقة ما كشفه من جهود ابن النفيس إلى المؤرِّخ "جورج سارتون"، فنشر هذه الحقيقة في آخر جزء من كتابه المعروف "تاريخ العلم"، ثم بادر مايرهوف إلى البحث عن مخطوطات أخرى، ونشر نتيجة بحوثه، ومنذ ذلك الحين بدأ الاهتمام بهذا العالم الكبير.
قالوا عنه:
1-- جورج سارتون مؤرخ العلم:
(ابن النفيس أول من اكتشف الدورة الدموية؛ ليكون بذلك الرائد لوليام هارفي الذي يُنسب إليه هذا الاكتشاف).
2-- المستشرق الفرنسي لوسيان لوكليرك
أشاد بابن النفيس وتناول اعماله وانجازاته في كتاب تاريخ الطب العربي
3-- المستشرق الإيطالي الدومييلي:
(إن لابن النفيس وصفًا للدوران الصغير تطابق كلماته كلمات سيرفيتوس تمامًا، وهكذا فمن الحق الصريح أن يُعْزَى كشف الدوران الرئيسي إلى ابن النفيس لا إلى سيرفيتوس أو هارفي) في كتابة (العلم عند العرب وأثره في تطوير العلم العالمي).
4-- الدكتور بول غليونجي في كتابه (ابن النفيس) قال:
(أنَّ كتاب الموجز في الطب لابن النفيس عبارة عن شرح مختصر جدًا لكتاب القانون بالطب لابن سينا، تناول كل أجزاء القانون بلغة علمية سهلة ما عدا الجزء الخاص بالتشريح ووظائف الأعضاء، الأمر الذي جعله محبوبًا محبة بالغة من الوجهة العلمية لممارسي الطب.)
5-- المستشرق الألماني مايرهوف
أكد اكتشاف ابن النفيس للدور الدموية وكتب عنه العديد من المقالات
وفاته
مرض ابن النفيس مرضًا شديدًا، وقد حاول الأطباء أن يعالجوه بالخمر إلا أنه دفعها عن فمه وهو يقاسي عذاب المرض قائلاً: "لا ألقى الله تعالى وفي جوفي شيءٌ من الخمر"!! ولم يدم في مرضه هذا طويلاً حتى وافته المنية، وكان ذلك سنة 687 هجرية/ 1288 ميلادية في القاهرة وكان يبلغ من العمر ثمانين عاماً.
وقد خلّف من بعد وفاته المال الكثير، وجعله وهو وكتبه وقفاً للمستشفى المنصوري. قائلاً: (إن شموع العلم يجب أن تضيء بعد وفاتي) ويوجد مسجد في مدينة الرحمانية بمحافظة البحيرة ينسب إليه، به ضريحه.
اترك تعليق