هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

اغتنم فرصتك الأولى .. فقد تكون الأخيرة

بقلم: دينا أبو الوفا

دخلت غرفتى بعد ان انتهيت من تناول وجبة الغداء مع عائلتى. 

تلك هى عادتى ... اغتنم كل فرصة تتاح لى للاختلاء بنفسى. استلقيت فى فراشى وقررت ان اشاهد احد الأفلام على "نت فليكس" بعد انقطاع دام قرابة شهر ، نظراًلظروف وفاة والدتى الغالية..

تجولت بعينى بين عناوين الأفلام والافيشات اللانهائية،  حتى وقع اختيارى على فيلم " أى فاميلى مان" أى "رجل عائلى"

كنت قد عقدت العزم الا التفت كثيراً لأحداث الفيلم وان أكتفي بالمشاهدة السطحية لإضاعة الوقت فحسب ... 
ولكن هيهات .... فقد حدث ما لم أحسب له حسابًا لقد جذبنى الفيلم اليه كما يجذب المغناطيس ، إبرة 

فبعد مرور عشر دقائق فقط من مشاهده،  كان قد استحوذ الفيلم على جميع حواسى ... ربما كان السبب وراء ذلك ، بعض التشابه الذى لاحظته منذ الوهلة الاولى بين حياة وشخصية بطل الفيلم وبين حياتى وشخصيتى انا ... 

دارت أحداث الفيلم حول "داين" رب الأسرة ، والذى كان يشغل وظيفة "هيدهانتر" فى احد شركات التوظيف الكبرى ... كان لديه زوجة - اكتفت بأن تكون أمًا وزوجة وربة منزل - وطفلين ... أكبرهم "براين" الذى لم يتعد عمره العشر سنوات 

كان شغل "داين" الشاغل وظيفته ... كيف ينجح فيها وكيف يتقدم فى مسارهالمهنى ويتغلب على غريمته فى الشركة ، ليصبح فى المستقبل القريب مدير عامالها..  فراح يفعل ما يفعله أغلب محبى النجاح ، الطموحين وانا منهم....

لقد جرفته أحلامه وأهدافه بعيدًا ، تاركاً وراءه عائلة لا تراه ولا تنعم بوجوده فى أغلب المناسبات ، حتى وان تواجد ، يكون الحاضر الغائب ...  فلا يشترك فى حديث ولا يندمج فى جلسة بسبب مكالمات العمل اللانهائية.... 

كان يعلل ذلك مراراً وتكراراً بأنه رب منزل وانشغاله المستمر بعمله هو فقط من أجل توفير حياة كريمة لزوجته وأولاده !!! ونسى كما نسى أغلبنا ان يطبق قاعدة " وورك لايف بالانس" اى "توازن العمل والحياة" 

وهنا يحضرنى سؤال بديهى:
، هل لاحظ أحد منا يوماً ان المقولة تحث على التوازن ما بين العمل والحياة وكأنهاتخبرنا بشكل مباشر ان العمل لم ولن يكن يوماً جزء من الحياة .. بل هو أمر علىهامش الحياة  ، وعليه فقد وجب الفصل بينهما ...  فالحياة كما يجب ان تكون هى الأهل والأقارب والأصدقاء ... هذا ما تعلمته بعد أن أضعت كغيرى ،أعوام عدة ظننت فيها ان عملى هو حياتى.

 وتمر الأحداث لتأتي المفاجأة الأولى للقصة ... وما اكثر المفاجآت التى توالت فى هذا الفيلم  اكتشف "داين" ان أكبر أبناءه "براين" يعانى من مرض ال"لوكيميا" ، فانقلبت حياته بين ليلة وضحاها .

عاد الى منزله بعد ان ترك زوجته وابنه فى المستشفى كى تبدأ رحلة العلاج الكيماوي.. 

عاد ليجد ابنته الصغيرة قلقة حاول تهدئتها وطلب منها ان تنام وعند خروجه من غرفتها صاحت "أبى لقد نسيت أن أغسل أسنانى"  صمت للحظة ، أجابها بعدها قائلا بهدوء بالغ " لا يهم ، فتلك الأسنان أسنان لبنية ..... سوف تستبدليها بأخرى قريباً... لا يهم" 

ورغم أن العبارة وربما المشهد بأكمله يبدو بسيطًا سطحيًا الا انهما  أيقظا بداخلى حقيقة مريعة وهى اننا كثيراً ما نهمل الأشياء التى نراها قابلة للاستبدال، قابلة للتعويض فلا نكترث لها كثيراً ... تلك هى الحقيقة ... ولكن ما يجعلها مريعة هو اننا فى كثير من الأحيان ،  لا نملك القدرة على التفرقة بين ما هو قابلوما هو غير قابل للاستبدال ، فيختلط عندنا الحابل بالنابل ... الشئ الذى يقودنافى نهاية المطاف لفقدان ما لا يمكن تعويضه ونندم حين لا ينفع الندم ...

ومرت الأحداث والابن لا زال يتلقى العلاج الكيماوي داخل المستشفى والأب فى حالة انكار دائم ... سيتحسن ولده لا محالة .. وبينما هو جالس فى مكتبه فى صباح  أحد الأيام ، تلقى محادثة هاتفية منمهندساً يبلغ من العمر تسعة وخمسين عاما ... كان يبحث منذ بداية أحداث الفيلمعن عمل ليعول زوجته وكان يثق فى ان "داين" سيساعده فى تحقيق تلك الأمنية... الا ان "داين" لم يكترث كثيراً بمساعدته ، فهو عميل غير مربح ومساعدته مضيعة للوقت !!

استشعر المهندس من صوت "داين" ان هناك خطبا ما فسأله باهتمام صادق "مابك ... يمكنك التحدث معى ... دعك من وظيفتى الان ... ما خطبك !؟"

وحين أبلغه "داين" أن الأمر يتعلق بأسرته ، أجابه المهندس " لكل عائلة مشاكلها... ولكن تبقى الحقيقة انه ليس لدينا سوى عائلة واحدة" وكأنه يذكره ويذكرنا ان العائلة ليست أسنانًا لبنية !!

وعلى الرغم من ذلك ، لم يتغير الكثير فى سلوك "داين" وظل يقضى معظم ساعات يومه داخل مكتبه ... الى ان دخل المستشفى يوماً فى ساعة متأخرة من الليل ليجد الطبيب المعالج فى انتظاره كى يبلغه ان السرطان لا يستجيب للعلاج الكيماوي وان عليهم اللجوء الان الى طرق أخرى للعلاج لا زالت فى مرحلة التجربة ... 

اعترض "داين" قائلاً "نحن فى شيكاغو ولسنا فى أحد دول العالم الثالث .... تصرف ... افعل شيئا .... يجب ان يشفى ابنى بأى شكل" 
لم يكترث كثيراً بتوجيه مثل تلك الإهانة للدكتور ذو الأصول الهندية ، الذى أجابه بحزم وجدية "السرطان ليس احد مفاوضاتك"

وكان يظن البطل مثلما يظن الكثيرون ممن ألهتهم الدنيا ونسوا إرادة الله وأمره ،اننا حتمًا سنواجه مصيراً وقدراً غير قابل للتفاوض ....سنقف مكتوفو الأيدي ، لايسعنا سوى ان ننتظر فرج من الله 

وتوالت الأحداث ، وراح الأب يخصص قسطاً من وقته للخروج مع "براين" لرؤية المبانى التى تمنى طويلاً زيارتها - كون حلمه هو ان يصبح يوماً ما مهندساً معماريًا

حتى كانت ليلة"عيد الشكر" وحدثت مشادة عنيفة بين الأب والأم بسبب انشغال الأب مرة أخرى بمكالمات عمل أثناء جلوسهم على طاولة العشاء وبخها "داين" انها لا تراعى كونه يعمل من أجل ان يوفر لها ولأولادها حياة رغدة وأنه على أتم استعداد ان يتنازل عن عمله لتعمل هى بدلًا منه... 

ولكنه سألها باستهزاء ان كانت سيرتها الذاتية وخبرتها فى الطهو وتربية الأطفال وتغيير الحفاضات ومتابعة تمريناتهم الرياضيه كافيه لتضمن لها وظيفة مرموقة!!!

أغضبتنى كلماته ، فعلى الرغم من كونى امرأة عاملة ، الا أننى فى المقام الأول أملثلاثة أولاد ، وأدرك تماماً ان وظيفة الأمومة من أكثر الوظائف صعوبة والتحقير منها والتقليل من شأنها لهو أمر مخزى ... 

شعرت بأنى أريد ان أصفعه وأرد له الصاع صاعين  الا ان "إيليس" زوجته سبقتنى اليه بلباقة فأصابته فى مقتل مجيبة بثبات انفعالي وهدوء غريب " ربما مؤهلاتى لا تساوى الكثير فى نظرك وفى سوق العمل ... لكننى بالتأكيد قادرة على تحديد أولوياتى فى الحياة " 

وتساءلت كم منا يضع عائلته فى المقام الاول وقبل كل شئ وتذكرت والدتى رحمها الله رحمة واسعة ... تذكرت كم انشغلت بعملى المضنى عنها طوال ايام الأسبوع ، حتى انى لم اكن ازورها وانعم بالجلوس معها سوى يوم الجمعة لمدة لا تتجاوز الساعة ... 

آلمنى الشعور بالندم وأدركت انى ارتكبت خطأً جسيمًا فى حقها ... شعور بالندم ضاعف حزنى على فراقها 

ثم توالى مشهد آخر عبقرى ، خرج فيه "داين" بصحبة ولده وبينما كانا يجلسان بجانب بعضهما البعض ، سأله ابنه "هل تؤمن بالله !؟" .. فاجاب الأب حسب الشهر  ( كان يقصد بالطبع حسب تحقيق أهدافه فى الربح والعمولة ) 

إذن سوف يؤمن بالله عند النجاح  وسيكفر به عند الإخفاق فوجدتني أتلقى رسالة أخرى من الفيلم ... كم هو أمر يسير أن نؤمن بالله فى السراء ، وكم هو عسير ان نتشبث بهذا الإيمان ونقبض عليه بقبضة من حديد فى الضراء وحين تأتى إرادة الله لتخالف توقعاتنا وأحلامنا ... 
ذاك هو الاختبار الحقيقى للإيمان ويؤسفني ان اعترف ان البعض وأنا منهم ،أحيانا نخفق وبجدارة فى هذا الاختبار

تدهورت حالة بريان وتوقف قلبه فى أحد المشاهد ... أعاده بعدها الطاقم الطبيالى الحياة ووضع على جهاز تنفس 

دخل الطبيب وأخبرهم بحزن شديد انه سيتحتم عليهم اتخاذ القرار بمتى يفصلون عنه الأجهزة كون ولدهم فى غيبوبة لن يفيق على الأرجح منها ... ونصحهم بأن يداوموا على الحديث معه لان أكثر ما يحتاجه هو سماع صوت أبويه !!!

ولأن الأب رجل عملى ، غضب من الاقتراح الساذج وقال "مع كل تلك الأجهزة الثمينة والتى تقدر بملايين الدولارات ، يحتاج براين الى صوتى" ... 

ووجدتني أدرك حقيقة أخرى وخطأ آخر قد وقعت فيه،  فى السنوات السابقة قد لا يحتاج الطفل الى ثروة والديه بقدر ما يحتاج الى تواجدهم معه وحوله ورغم ذلك نقضى أغلب أوقاتنا الثمينة فى العمل كى نجنى المال و نجمع الثروات لنلقيها بين أيد أطفالنا ظنا منا اننا قمنا بدور الأبوة والأمومة على أكمل وجه !!!!

وعند هذا الحد كانت الأم قد فقدت السيطرة وانفجرت فى زوجها "ليتك استوعب تقبل الان اهمية ابنك ... ليتك ما تجاهلت وجوده .. ليتك أعربت له عن حبك قبل انيستلقي أمامك فى غيبوبة تامة ... 

وهنا انفجرت فى البكاء ... ليتنى أخبرت امى كل دقيقة انى أحبها .... انها أغلى وأحب الناس ... لكن كانتتمر أيام دون ان انطقها ... كانت تعلم انى أحبها ولكنها لم تسمعها منى كل يوم ،كل لحظة فى عمرها ... ويشاء القدر ان تسمعها منى وهى فى غيبوبتها ... لاأستطيع ان اجزم حتى ، ان كانت سمعتها وهذا الشك يقتلنى فى اليوم ألف مرةومرة ... هل حقاً رحلت دون ان تسمعها ، دون ان تدرك كم احبها !؟ 

وفى مشهد لاحق ، جلس الممرض بجانب الأب فى حديقة المستشفى ... فسأله الأب"هل حدثك ابنى عن طبيعة عملى؟" فأجاب الممرض "نعم ... قال انك تساعد آباء آخرين فى الحصول على وظيفة جيدة كى يعولوا عائلاتهم ويوفروا لهم حياة سعيدة"

أبكانى الرد  ... فغلامه رغم كل شئ ، وجد دافعًا انسانيا ليبرر غياب والده  ظننت فى بادئ الأمر ان هذا ما ابكى "داين"ايضاً فى هذا المشهد ... ولكنى ادركتبعد عدة دقائق السبب الحقيقى  لبكائه .. لم يكن سبب بكائه ان ابنه وجد له مبررًا ... بل لان ابنه احسن الظن بأبيه ووجد له مبررًا أبعد ما يكون عن الصحة !!

لقد ادرك "داين" ان هدفه فى ايجاد عمل لأحدهم ، لم يكن لشئ سوى إشباع دوافعه ومصالحه الشخصية ... العمولة والترقيه ... لا شئ سوى ذلك ولعل هذا ماجعله - اكراما لولده الصغير - يعاود محاولة ايجاد وظيفة للمهندس العجوز .... حتى انه ابرم اتفاقًا مع صاحبة الشركة التى اجرت مع المهندس مقابلة وظنت انه المرشح الأفضل ، ان يتنازل عن عمولته تماما مقابل ان تقوم بتوظيفه والعدول عن فكرة تعيين من هم أقل منه خبرة ... 
وقد حدث ... لقد فاز المهندس العجوز بالوظيفة ، الأمر الذى كلف "داين"وظيفته لاحقًا ... لقد تم الإستغناء عنه لانه تسبب فى خسارة لشركة التوظيف ... لكنه لم يكترث ... بل وقف يحدث ابنه قائلاً "لقد قمت اليوم بعمل سيجعلك تفتخر بى .. لقد ساعدت رجلاً طيبا ومهندساً بارعاً فى الحصول على وظيفة مرموقة.. ليتك معى الان" 

ربما كان هذا هدفًا علينا جميعاً ان نتذكره ، ان نسعى الي تحقيقه  علينا ان نتذكر ان نعمل ونجتهد ليس من أجل جنى المال فحسب ... بل علينا اننقوم بشئ يجعلنا نفتخر بأنفسنا ويفتخر بنا من حولنا فى نهاية كل يوم

عاد الى المنزل وراح يكتب ولأول مرة سيرته الذاتية كخطوة أولى للبحث عن عمل جديد ... الان يشعر بما يشعر به الآخرون !!! 

وبينما هو جالس يكتب سيرته الذاتية ، تلقى مكالمة من زوجته ... اسرع الى المستشفى متوقعا الاسوأ ... متوقعا ان يرى ابنه وقد فارق الحياة ... الا انه عاد ليجد ابنه وقد أفاق من غيبوبته ... فرقص فرحاً مثلى تماماً !!

ربما كان الطبيب على حق ... كل ما احتاجه ابنه هو ان يسمع صوت ابيه ... ان يقوم والده بتصرف نبيل ،فيكافئه الله 

ربما لم تكن تلك المكافاة الوحيدة التى منحه الله إياها ... فقد كان جالسًا فى منزله ، دون عمل يشغله ، حين هاتفه المهندس العجوز وأسنداليه مهمة البحث عن مهندسين اخرين لينضموا الى طاقم العمل وأبلغه انه لنيسند تلك المهمة لشركة توظيف اخرى ... 

إذن فمن يصنع الخير ، يجد الخير !!!! وكما تدين تدان خيراً كان أم سوءا

يا له من فيلم ...لقد لمس مشاعرى بشكل مخيف ...  وذكرنى بدروس ، جعلتنى دوامة الحياة ، أغفل عنها وأتناساها فكانت أقوى تلك الرسائل

"قد لا تمنحك الحياة فرصة ثانية مع من تحب ... فاغتنم وبقوة فرصتك الاولى فقد تكون الاولى والأخيرة "
 





تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي

تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي جوجل نيوز جوجل نيوز

يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل

اترك تعليق