الفيروس تجاوز بنية جسم الانسان إلى الحوكمة والاقتصاد والسياسة
الفيروس لا يهدد بنية جسم الإنسان فحسب، ولا منظومة الرعاية الصحية التي عجزت عن التعامل مع المرض، وإنما تجاوز تأثيره بالفعل إلى الحوكمة والاقتصاد والسياسة بل والثقافة أيضًا، على مستوى العالم. ومع ضرورة الوقاية حاليًا، فالخطر قائم، ليس من كورونا فحسب، وإنما من تمسك الحكومات بتلك الإجراءات بعد الانتهاء المرتقب للأزمة. أنظمة مراقبة المواطنين من أهم التأثيرات المطروحة بقوة على جدول أعمال كورونا. فهل تتراجع الدول عن تلك القرارات بعد انتهاء الأزمة، أم ستعدها مكتسبات حرب؟
أنظمة المراقبة قائمة بالفعل، لكن الجديد هذه المرة هو "التطبيع" مع مراقبة الناس على نطاق واسع وتحويل المدخلات إلى قواعد بيانات ضخمة.العالم الآن من أهم رؤوس أمواله قواعد البيانات الضخمة.فكّر في تصفحك لموقع جوجل أو فيسبوك على سبيل المثال، إن تصفحهم مجاني، أليس كذلك؟ لا يكلفك شيئًا، صحيح؟ لا، إنه بمقابل مادي باهظ الثمن. إن تلك الشركات تشتري منك "وقتك" الذي تقضيه عليهم وتتعقب ميولك ورغباتك واتجاهاتك،وتستخدم تلك البيانات في إمطارك بوابل من الإعلانات التي تتناسب وميولك وعمليات بحثك لتحقق بذلك مبيعات ضخمة من الإعلانات نفسها أو من خلال بيع المنتجات.
إنك في الواقع السلعة التي تستثمر فيها تلك المواقع،والفضل في ذلك يعود إلى قواعد البيانات الضخمة تلك والتي تحصل عليها الشركات من خلال أنظمة المراقبة؛أي أنه كلما زادت أدوات المراقبة والتتبع، استطاعت الشركات بناء خوارزميات استهدافك، لتزيد بها أرباحها.
نعود إلى الحكومات، النموذج الأشرس للمراقبة الحكومية هو الصين التي تحولت فيها شرطة الحزب الشيوعي الحاكم إلى شرطة لمراقبة درجة حرارة المواطنين وإيقاف مخالفي حظر التجول وارتداء الكمامة وغيرها من الإجراءات المفروضة. لا شك أن الحكومات، بخاصة الشمولية، تستهدف معرفة ميول مواطنيها السياسية، ويوفر تتبع وجودهم على الإنترنت ومعرفة الصفحات والمواقع التي يزورونها معلومات هائلة عنهم.
لقد سهلت التقنيات الحديثة ذلك الأمر لا سيما في الصين التي نشرت حكومتها أدوات مراقبة كثيرة مثل برامج مراقبة الهواتف الذكية وملايين الكاميرات القادرة على التعرف على الوجه وألزمت الناس بفحص درجة حرارتهم وحالتهم الصحية بل والإبلاغ عنها،كما لم تكتف الصين بتحديد هوية المصابين بالفيروس بل إنها تتبع حركة تنقلهم ومن يقابلون لتحديد المصابين المحتملين ولذلك نشرت أيضًا برامج هواتف ذكية تحذر الناس حينما يقتربون من أشخاص مصابين بالفيروس.
لكن إذا كانت الحكومة قادرة أيضًا على معرفة درجة حرارة الجسم وضغط الدم ومعدل نبض القلب، فإنها تستطيع بذلك أيضًا معرفة ما يضحك الشخص أو يبكيه أو يفرحه أو يحزنه أو يغضبه،بل ربما أكثر من الشخص المستهدف نفسه، فتلك الظواهر حيوية كالحمى والكحة، والتقنيات نفسها قادرة على سبر أغوار النفس البشرية أكثر من مجرد معرفة الحالة الصحية للشخص عن طريق "حصاد" تلك البيانات البيومترية ورصها في قواعد بيانات ومن ثم تحليلها،وهذا يمثل منعطفًا هائلًا في تاريخ المراقبة البشرية ونذيرًا سيئًا لحقبة ما بعد كورونا.
يستبعد خبراء تراجع الحكومات عن مكتسباتها بخاصة إذا خرجت من الأزمة منتصرة. فالحكومات حصلت بالفعل على شرعية مراقبة المواطنين وتتبعهم ومعاقبة المخالفين منهم،وتجاوزت الخط الأحمر -رغم أنه اضطراري للسيطرة على الجائحة تلك الإجراءات استثنائية في وقتنا الحالي،فعادةً ما يستغرق سن قوانين كتلك شهورًا أو سنينًا من مداولات في البرلمانات حتى يُقرر بصورته النهائية، لكن في ظروف كتلك، فتشريع مثل تلك القوانين لا يعدو سوى جرة قلم على مستند، وسيكون من العسير على الحكومات التراجع عن تلك الغنيمة الكبرى.
اترك تعليق