«الولايات المتحدة ارتكبت خطأ ستدرك أبعاده الآن وفي السنوات المقبلة»، «اصبروا قليلا وسترون بأعينكم بقايا جثث الشيطان الأكبر في الشرق الأوسط»؛ «إن لم تغادر أميركا المنطقة فعليها الاستعداد لفيتنام جديدة»؛ تصريحات للرئيس الإيراني حسن روحاني، وإسماعيل قآني القائد الجديد لفيلق القدس الإيراني، وحسن دهقان المستشار العسكري للمرشد الأعلى في إيران على خامنئي، بعد اغتيال سليماني تعكس مدى الغضب والتوعد الذي تتربصه إيران بالولايات المتحدة. فلأول مرة في تاريخها، ترفع إيران الراية الحمراء، التي ترمز إلى سكب الدماء ظلمًا، فوق قبة مسجد جمكران في مدينة قُم الدينية، في إشارة إلى نية طلب الثأر لسليماني.
رفع الراية الحمراء ومكتوب بها «يا لثارات الحسين» (مواقع التواصل الاجتماعي)
العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران في أسوأ حالاتها منذ سنوات؛ فقد نقض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاتفاق النووي لعام 2015 بين البلدين، وأعادت الإدارة الأمريكية فرض العقوبات لتضييق الخناق على الاقتصاد الإيراني، ونشر الجيش الأمريكي حاملة طائرات وبطارية دفاع صاروخي وأربع قاذفات في الشرق الأوسط، وأجلت واشنطن العاملين غير الضروريين من سفارتها في بغداد خوفًا من تزايد رغبة إيران في ضرب أهداف أمريكية، واتهمت الولايات المتحدة إيران بضرب حاويات نفطية في الخليج العربي، وأخيرًا -ويبدو ليس آخرًا، استهدفت ميليشيات الحشد الشعبي العراقي السفارة الأمريكية في بغداد.
في الداخل الإيراني، تزايد الغضب الشعبي والرغبة في شن حرب على الولايات المتحدة لا سيما بعد اغتيال سليماني، على عكس الولايات المتحدة التي ما يزال كثيرون فيها يرفضون حرب إيران ويرون اغتيال سليماني لعبة انتخابية من ترامب لزيادة التأييد الشعبي له في الانتخابات المرتقبة في نوفمبر المقبل. أما على مستوى القادة، فالطرفان لا يريدان الحرب، ربما باستثناء جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق الذي هدد في مايو الماضي بالرد على أي هجمات إيرانية سواء عن طريق القوات النظامية أو الحرس الثوري أو حتى عملاء إيرانيين في الخارج.
مؤيديو قوات الحشد الشعبي الشيعية يهينون صورة ترامب في بغداد في 1 يناير 2020 (الوكالة الفرنسية)
رغم التصريحات النارية، تتجنب إيران المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة وتعتمد إستراتيجيتها العسكرية على خفض الشد والجذب إلى أقل درجة كما أن الولايات المتحدة إذا كانت تستعد فعلًا للحرب، لكانت أرسلت عدة وعتاد عسكري أكثر مما أرسلته إلى الشرق الأوسط. لكن هذا لا يمنع أيضًا احتمالية الحرب إما بسبب الخطأ في الحسابات أو في فهم فحوى الرسائل التي يتبادلها الطرفان تبادلًا غير مباشر أو حتى التصعيد بلا داع لأي مناوشة بسيطة إلى حرب مستعرة، حتى وإن لم يرغب الطرفان أحدهما أو كلاهما في الحرب. فاحتمالية سوء الفهم كبيرة بين أمريكا وإيران لا سيما وأن صُنّاع القرار في البلدين يعملان تحت ضغط الوقت بناءً على معلومات ليست يقينية وفي مناخ من الشك بين الطرفين. على سبيل المثال قد تفهم إيران أي ضربة جوية أمريكية عابرة أنها بداية حملة عسكرية ضخمة تستلزم ردًا عاجلًا، وبخاصة مع تقلب مزاج ترامب على تويتر وتهديدات بولتون. لكن إن حدث هذا، فكيف ستكون الشرارة؟
على الأرجح ستبدأ المواجهة بضربة إيرانية على هدف أمريكي تعكس قرارًا بأنه حان الوقت لمواجهة ترامب، مع مساندة الميليشات الشيعية في العراق التي قد تستهدف رتلًا عسكريًا أمريكيًا وتقتل عددًا من الجنود الأمريكيين، أو هجوم عملاء إيرانيين على حاوية نفطية أخرى في الخليج العربي مع حدوث تسرب نفطي كبير في هذه المرة.
بعد تلك الهجمة الإيرانية، تقرر إدارة ترامب الرد بضرب عدة مواقع عسكرية في إيران. وقد تستخدم الولايات المتحدة قطعها البحرية المتمركزة في الشرق الأوسط في ضرب أحد المواني الإيرانية أو معسكرًا تدريبيًا للميليشيات الشيعية العراقية في إيران. أما على صعيد الخطابات التعبوية، فستعلن الحكومة الأمريكية أنها نفذت ضربة ردع لمرة واحدة، وأنها لن تكررها إذا ما تراجعت إيران. في السيناريو المثالي، ستتراجع إيران وسينتهي الأمر هنا، لكن ماذا إذا قررت إيران ألا تتراجع؟
حاملة الطائرات الأمريكية أبراهام لينكولن في مضيق هرمز (أسوشيتد برس)
أمام إيران في تلك الحالة عدة اختيارات؛ يمكنها توكيل عملائها في أفغانستان والعراق ولبنان وسوريا واليمن بتنفيذ هجوم على الولايات المتحدة وشركائها. لدى إيران ترسانة صواريخ باليستية قادرة على ضرب القواعد الأمريكية في المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات والبحرين والكويت. ويمكنها أن تعيث فسادًا في مضيق هرمز بزرع ألغام بحرية واستخدام منصاتها البرية المضادة للسفن. كما أن طهران تستطيع تعطيل جزء كبير من الإنتاج النفطي السعودي عن طريق تخريب المنشآت النفطية أو توجيه هجمات إلكترونية. إلى جانب ذلك تستطيع قوات فيلق القدس، شبه العسكرية، ضرب أهداف أمريكية في مختلف أنحاء الأرض.
لكن سيواجه الطرفان أيضًا معضلة أمنية في أن كل طرف يرى الإجراءات الدفاعية للطرف الآخر عدائية. على سبيل المثال، افترض أن الولايات المتحدة قررت أن ترسل حاملات طائرات وسفن حربية وطائرات قاذفة ومقاتلات إلى الشرق الأوسط لحمايتها وحماية حلفائها، قد يفهم القادة العسكريون الإيرانيون أن واشنطن تجيش جيشها لهجوم أكبر. العكس أيضًا صحيح؛ إذا ما قررت إيران حماية صواريخها وألغامها من أي ضربة استباقية أمريكية عن طريق نشرها بدلًا من تكديسها في المخازن، فقد تفهم الولايات المتحدة هذه الإجراءات الدفاعية أنها بداية لتصعيد كبير، بل قد تؤدي إلى وقوع الضربة الاستباقية التي كانت تتجنبها إيران.
مقارنة الجيشين الإيراني والأمريكي - الحرس الثوري يقارب في قوته الجيش الإيراني (المحرر - جلوبال فاير باور)
وبسبب هذه المعضلة ستتطور المناوشات إلى صراع أكبر؛ كأن تُغرِق الولايات المتحدة عدة سفن إيرانية أو تهجم على منشآت عسكرية تدريبية أو موانى حربية، وفي المقابل ستفجر إيران سفنًا أمريكية في الخليج العربي، ويقتل عملاء إيرانيون عشرات القوات الأمريكية وعمال الإغاثة والدبلوماسيين في الشرق الأوسط، وستوجه إيران أيضًا صواريخها إلى قواعد أمريكية في البحرين والسعودية والإمارات. هذا في الحقيقة دأب إيران؛ أن تحفظ ماء وجهها بإظهار المقاومة ثم الانسحاب قبل أن تحتدم المناوشات إلى حرب شاملة، فيما ترد الولايات المتحدة لإعادة قوة الردع إلى مكانتها، وعادةً ما يكون ذلك الرد أكثر عنفًا.
روحاني يمينًأ وترامب يسارًا (مواقع التواصل الاجتماعي)
عند هذه المرحلة على الولايات المتحدة أن تختار: إما الاستمرار في التصعيد بنظام واحدة بواحدة أو شن هجومًا كاسحًا على العدو وتدمير أكبر قدر ممكن من طاقاته. هذا ما فعلته الولايات المتحدة في عملية عاصفة الصحراء في العراق في عام 1991 حيث أوصى البنتاجون حينها بتوسيع عمليات الجيش بحيث لا تكون القوات الأمريكية عرضة لأي هجوم إيراني. والآن يتفق ترامب وبولتون ووزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو على هذه الخطة؛ الهجوم الكبير الوسيلة الوحيدة لمنع إذلال القوات الأمريكية.
وإذا حدث هذا، فلا يُستبعد أن تعزز الولايات المتحدة قواعدها في الشرق الأوسط بإرسال ما يزيد على 100 ألف جندي (أمريكا أرسلت ما بين 150 ألف إلى 180 ألف جندي من 2003 إلى 2008 إلى العراق). وقد تهجم الطائرات الأمريكية على أهداف إيرانية تشمل معظم المنشآت النووية الإيرانية في ناتانز وفوردو وأراك وأصفهان. حتى هذه اللحظة، يُستبعد أن يقوم الجيش بهجوم بري أو يسعى إلى قلب نظام الحكم في طهران، لكن القوات البريد تظل مستعدة للغزو إذا تطلب الأمر.
نتيجة لذلك، يجد الجيش الإيراني نفسه في غمرة هجوم أمريكي مكثف، لكن سرعان ما يوجه هجومًا مضادًا لا يقل قوة باكتساح الخليج العربي بالزوارق الخفيفة والألغام البحرية والهجمات الصاروخية مستهدفًا السفن الأمريكية فيه. يتفوق الجيش الأمريكي على نظيره الإيراني والحرس الثوري الإيراني، لكن القوة البحرية تكاد تتعادل بين الفريقين، كما أن تكتيكات الحرس الثوري الذي يعتمد على الحرب غير النظامية (رغم كونه جيشًا نظاميًا في واقع الأمر) باستخدام المركبات الخفيفة والغواصات الصغيرة، ولذلك فالمعارك البحرية بين الفريقين لن تكون سهلة الحسم. كما أن إيران باستهداف منشآت نفطية خليجية سترفع أسعار النفط بذلك ربما إلى 150 دولار للبرميل.
على الجانب الآخر من الجزيرة العربية ستستخدم إيران ذراعها في الشام، حزب الله الشيعية المسلحة في استهداف إسرائيل. لدى حزب الله ترسانة صاروخية تضم 130 ألف رأس. هذا الهجوم سيرهق منظومة الدفاع الصاروخي الإسرائيلية، القبة الحديدية، ولن تجد إسرائيل بدًا من الهجوم على مواقع حزب الله جنوبي لبنان وسوريا، لتتحول المواجهة الإيرانية-الأمريكية إلى حرب شاملة تبتلع المنطقة بأسرها.
وحتى بعد توقف هذه المواجهة العسكرية محفوفة المخاطر، فلن ينتهي الصراع؛ فعملاء إيران في الخارج يصعب التخلص منهم عبر المعارك التقليدية بل إنهم سيستمرون في استهداف القوات الأمريكية وحلفائها لأعوام. رغم أن هذه الحرب ستؤخر البرنامج النووي الإيراني لنحو عامين أو ثلاثة، فإن تمتع إيران بالخبرة العلمية سيدفعها إلى صنع أسلحة نووية فعلية، وهذا بدوره سيخطو بالمواجهة بين البلدين إلى مشارف أخرى بعيدة.
استعراض للجيش الإيراني في العيد الوطني، 18 أبريل 2019، أمام قبر آية الله خميني في طهران (الرئاسة الإيرانية)
كما أن الولايات المتحدة ستجد نفسها تحت ضغط حلفائها في المنطقة العربية بقلب نظام الحكم في إيران، لكن لن يكون ذلك سهلًا لا سيما مع النمو السكاني الإيراني ووعورة جغرافية إيران (طبيعتها جبلية من جهة الغرب المتاخم للخليج العربي وإيران)، وفي هذه الحالة قد تصل كلفة الحرب إلى تريليونات الدولارات بالإضافة إلى إحداث مشكلة لاجئين أخرى في إيران (التعداد السكاني الإيراني يوازي العراق وأفغانستان وسوريا معًا)، وبالطبع ستكون أوروبا الوجهة الأولى لهؤلاء اللاجئين الهاربين من جحيم الحرب، ولن يسعد أحد بذلك في الحقيقة!
بناءً عليه، فبدلًأ من محاولة قلب نظام الحكم، قد تسعى الولايات المتحدة إلى أسلوبها القديم، ترتيب إحداث انقلاب عسكري من الداخل الإيراني دون غزو خارجي. هذا أيضًا سيكون صعبًا بسبب النعرة الفارسية لدى الشعب الإيراني واعتزازهم بأنفسهم لا سيما وأنهم لم يقعوا تحت أي احتلال أوروبي أو أمريكي ولأن، حضارتهم ضاربة في جذور التاريخ. فحتى إذا ما لام الإيرانيون قيادتهم السياسية على ويلات الحرب، فلن يسعوا إلى الإطاحة بهم، بل على الأرجح سيلتفون حولهم لمواجهة المعتدي الأجنبي. لكن إذا حصل انقلاب، فقد تحدث حرب أهلية بين الإيرانيين بسبب وجود قوتين عسكريتين متعادلتين: الجيش من جهة والحرس الثوري من جهة أخرى، وهذا سيجعل إيران بؤرة تأوي مسلحين بخاصة مع وعورة تضاريسها، بل قد يؤدي إلى هروب كثير من الإيرانيين ما سيؤول في النهاية إلى تفاقم مشكلة اللاجئين.
حرب كتلك لن يسهل حسمها، إذا كانت قابلة للحسم بالأساس، لا سيما وأنها تتضمن أطرافًا أخرين في الشرق الأوسط ودول أخرى قد تقع على أرضها ضربات، وإذا ما قامت الحرب، فقد تستغرق سنوات وتستنزف مليارات الدولارات. جميع الأطراف تتفهم هذه المخاطر، ولهذا سيسعون إلى تجنب الحرب الشاملة، وعلى الإدارة الأمريكية والقيادة الإيرانية أن تتوخى الحذر وإلا فقد يخرج الأمر عن نطاق السيطرة وتنجرف المنطقة إلى ما لا يُحمد عقباه.
اترك تعليق