بقلم د. إيمان الزيات
يضع الشاعر (أشرف قاسم) قصائده في ديوان (نام الحنين على ستائر شرفتي) الصادر في 192 صفحة عن دار الكلمات للنشر والتوزيع، داخل مجمرة البوح الشعري ليوقد مشاعر القارئ من دون اشتعال، جاعلاً من الحزن حطباً للقصيدة التي تتحول بدورها إلى قنديل يشع ضوءاً ينير الطريق له ولغيره بدلاً من تلك النار المستعرة كوحش مسعور رابض في دواخل النفس، أي أنه يصنع من الألم إبداعاً كناتج إيجابي للمواقف السلبية؛ فالديوان عموماً عبارة عن مجموعة من مختارات شعرية متفرقة ومنتقاة بعناية من أشعار صاغها (قاسم) على فترات زمنية متباعدة؛ حملت أفكاراً ومواقف متعددة لكنها كونت في النهاية وحدة شعورية وانفعالية ما، سنقوم بتتبعها واستجلائها داخل هذه المصفوفة الشعرية الجديدة.
يفصح الشاعر عن ثيمة (الحنين) هنا بوضوح دون تستر بعدما أوردها متخفية في ديوان سابق له كان بعنوان (طعم الحكايا القديمة) الذي قدم فيه نوعاً مائزاً من النوستالجيا يعاد طرحها بعدة أشكال في مختاراته الشعرية (نام الحنين على ستائر شرفتي). العنوان شاعري بامتياز، تقني بالأنسنة والتشخيص والصورة البديعة التي جعلت من الستائر وسادة ومن الشرفة سريرا.
فضلاً عن أن الشرفة هي موقع الترقب والانتظار المعتاد، وهي الحد الفاصل بين عالمين هما الداخل والخارج، وبين سمتين هما الانفتاح والتقوقع. تستطيع من خلال (الشرفة) أن تعبّر عن الشخص الماكث و الآخر المرتقب وصوله، كما تستطيع أن تؤشر إلى الشعور، كل ذلك في عتبة عنوان اختيرت باحتراف.
الإهداء إلى ثمانية شخصيات نسوية هن: (الدكتورة أمل الأسدي، والدكتورة سميرة شرف، الدكتورة فاطمة محرم، الأديبة بشرى أبو شرار، والشاعرات عزة دياب، وحسيبة قنوني وهدى القاتي ، سامية خلف الله بن منصور)، وحين يهدي الشاعر قصائده إلى آخر أو آخرين؛ فذلك إما أن يكون تقديراً لمسيرتهم الذاتية وتجاربهم، أو لمكانتهم في نفس الشاعر وأدوارهم الإيجابية في تشكيل ذهنه والتأثير في إبداعه تقنياً أو نفسياً، أو للسببين معا،. وهذا ما نعتقد تحققه في شخوص إهدائه الثمانية.
في ديوانه السابق (طعم الحكايا القديمة) نكأت القصائد جرح بغداد وهنا تنكأ معزوفاته المنكسرة وجع فلسطين في شيوع واضح للفكرة، وحضور ملحوظ لخصوصية الشخوص المستجلبة.
وكان أبرزها الشاعر الفلسطيني البارز (محمود درويش) وهو أحد المجدِّدين في الشعر العربي المعاصر، والذي أظهر تطوراً جلياً في استخدامه للاستعارات، والرموز، والإشارات التاريخية، والدينية، والأسطورية، التي دلت على ما يملكه من ثقافة واسعة ، ومدى ارتباطه بقضايا إنسانية بحتة، قدمته كأحد أبرز أدباء المقاومة، فكانت أشعاره تعبر عن تجربة شعبه في مقاومة الاحتلال، حتى سميّ بشاعر الجرح الفلسطيني، حيث أظهر الشاعر (أشرف قاسم) في مختاراته الشعرية تأسياً ملحوظاً بموتيفته الشخوصية الفضلى التي نظم فيها مرثيته، والتي يستفز حضورها داخل المصفوفة كل ما تمثله تلك الموتيفة من معادلات لتعلن عن نفسها: القصيدة والبندقية، الوجع الفلسطيني ، ثيمة فلسطين التي لطالما جمعت بسلام (الترنيمة، و المزامير، والمئذنة). يتجلى كذلك في أبياته الموروث التراثي الخاص بها متمثلاً في ذلك المفتاح المعلق على صدر كل فلسطيني جعل الوطنية عقيدة ومذهباً له أيقونة هي المفتاح، ولكن في قصيدة (قاسم) أصبح الليل هو ما يعلق تلك الأيقونة دلالة على انطفاء الأمل وانعدام القدرة على رؤية الآني أو استقراء المستقبلي.
"علق الليل مفتاح هذه المدينة"
في الشعر إذا أنسنت وجسدت صنعت قيمة مضافة للمفردة، قيمة بالزيادة، وإذا اجتزأت اصطبغت الأشياء بالضعف والوهن والانتقاص، و في مرثية (قاسم) يستجلب الاغتراب تجزئة الذات وتشييئها، ويتركها قطعاً ممزقة أو كسراً مبعثرة أو جراحاً تنز دمًا مثخناً.
من المعروف عن فن البكائيات أنه أكثر الفنون الشعبية تعبيرًا عن معنى الألم والأسى؛ فهي تعبر عن جوانب إنسانية عميقة التأثير في نفس صاحبها لأنها مقترنة بالموت والفراق والحزن، يكون إيقاعها رتيب حزين، ولقد ابتدأ (قاسم) منظومته الشعرية بمجموعة صاخبة من التضمينات و الاقتباسات من أشعار (محمود درويش) الرائجة المشهورة، حيث يكتب مرثيته (بكائية على قبر محمود درويش) كأنما يكتبها في صديق عزيز، مثلما كتب الشاعر الإسباني لوركا بكائيته الشهيرة في رثاء صديقه إغناثيو مصارع الثيران الذي مجد من خلاله مدينة غرناطة، ففي فن البكائيات تكون الشخوص معادلات موضوعية لأشياء أخرى أكبر قيمة ، أي أن الشخصية (سواء كانت تمثل صديقاً أو حبيباً أو رمزا شعبيًا) تعد تجسيراً للقيمة التي عادة ما تمثل الوطن، أو الدين، أو الحب ... الخ
وفي سبيله لتشكيل الحركة داخل تلك المراثي ظهرت حركات الانحناء مثل (انحنى الفاتحون، انحنت الأمنيات الكبيرة)، وشاعت المتاهات و صور التيه والإنكسار، والامتطاء، واستلاب العزة والعز؛ إذن فالشاعر هنا يتحدث عن قيمة وليست محض شخصية يُجلها، فالقيمة وحدها هي ما تملك إمكانية إحداث كل تلك التغيرات في سائر المفردات داخل فضاء القصيدة.
وهذا هو الدور المائز الذي قام به فن البكائيات في مختارات (نام الحنين على ستائر شرفتي) حيث تتماهى قصائد (قاسم) تماهياً لافتاً مع قصائد (درويش) حين يندفع الحب منطلقاً إلى الحبيبة الأنثى والحبيبة الوطن، فأصبحث موتيفة (درويش، والبرغوثي) جسراً ومعبراً رائعاً من عنصر الشخصية إلى مجموعة من العناصر الأخرى مثل (المكان، والزمان، والغرض، والأزمة، والموضوع).
يولي شاعرنا عناية خاصة بالتقاط الألفاظ حيث يجمع المهجور، والثمين كصائغ ينتقي الأنقى والأكثر ثراءً على مستوى المفردة والجملة الخبرية منها أو الفعلية أو الاستفهامية؛ فيقول: (وتموسقين قصائدي، كالنبع الدفوق على فمي، المهيض، رُعاشها، الوصيد، القريض، نياحة، متمدينة ، حتَّام نرحل؟، هل فيكمو قلب وفي..؟، لماذا أنتمو هنا..؟)
(العصافير) هي المعادل الموضوعي للخير والطهر والبراءة في مخيلة الشاعر، و هي المرادف المصور للمعنى، لذلك ألحّت تلك الأيقونة على ذهنه فظهرت في غير موضع فنراه يقول:
"العصافير الحزينة
العصافير البريئة
طيرا من ضياء
رقصة الحسون
مذ صادروا حق الطيور بشدوها.."
أما (الكلاب) فهي أيقونة مضادة ومعادلاً موضوعياً يقابل طهر (العصافير) وبراءتها؛ فهي تمثل الشر والقبح والدنس فتنهش، وتلعق، وتنبح، وتتذلل بل وتخالف فطرتها فتخون (كلاب كربلاء).
أثر ذلك الرمز الأيقوني (الطيور)، أو المعادل الموضوعي الكامن في خاطر الشاعر على اختياره لموسيقى القصيدة إذ نراه يميل إلى موسيقى "الرجع"، الناتجة عن تكرار اللفظة وهي مستجلبة من الطيور المغردة ما يحيلنا إلى الفكرة المتموضعة في لا وعي الشاعر فضلاً عن أنها تؤكد المعنى وتلفت المستمع لأهمية اللفظة البارزة المكررة أو مرتفعات النص؛ فالتكرار يمثل القوة الديناميكية للإيقاع دلالة على حركة معنى عميق يجول في فضاء القصيدة..
"مطر مطر.."
"سفر سفر.."
"نموت يا حبيبتي ليزدهي الوطن"
"نموت يا حبيبتي ليزدهي الوطن"
(و التكرار الأخير لابراز المعنى أكثر من خلق الموسيقى)
أتت معظم استلهامات التناص من آيات القرآن الكريم وقصصه، فانعكس ذلك على الصور وعلى سيرورة الفكرة وصيرورة الحدث..
"لا خوف عليهم لا ولا وجل" تناص مع "لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"
"والله يهدي من يشاء وفي يد الله المصير"
"وذقت المن والسلوى.."
"فهز جزع النخلة العجفاء لعلها تساقط.."
"يسّاقط كسفاً، إستبرق، سندستان، مهطعين ، اثنتا عشرة عينا"
ولعل أفضل تفعيل لهذه التضمينات القرآنية ما ورد في قصيدة (بيني وبين الله جسر مودة).
كما يتلمس القارئ حساً صوفياَ مائزاً في قصيدة (هذا مقام الصابرين):
" مات الولي
فكيف يحتمل المريد؟"
هناك مجموعة كبيرة من (ثنائيات التآمر) داخل الديوان:
"قمر أنا وعليه يا أبتي تآمرت النجوم.."
؛ فالحسين عاد لينتقم من كلاب كربلاء، وهناك عيسى و العشاء الأخير واقتسام رغيف العذاب، أما عن قصة يوسف واخوته فقد جاءت من وجهات نظر بوليفونية متعددة (من وجهة نظر يوسف في قصيدة، واخوته في أخرى، من حادثة الصواع، والرؤيا الشهيرة، هناك أيضاً شهريار وشهرزاد، الموناليزا ودافينشي، ليلى وقيسها)
لنا في الحديث عن الصور والتخييل هنا وقفة تستحق لما لها من ملامح تعكس ثقافة الشاعر وموهبته فضلاً عن قدرته على استغلال الدال الأصلي واعادة تشكيله وهيكلته إبداعياً. نراه يقول في احدى قصائده:
"خنجر الأحزان يسكن بين خاصرتي "..
إن الخاصرة هي مجمع للعديد من الآلام المحتملة في جانبي الجسم، وألمها هو حالة بالغة من الألم لوجود العديد من الأعضاء في هذه المنطقة، لذا فإن اختيار الشاعر لموضع خنجره (الخاصرة) هو اختيار ينم عن وعيه حين يشرع في صياغة الصورة الشعرية ويعكس ثقافته المتنوعة المستغلة في صنع الصورة الشعرية، كما أنه جعل من هذا المكان مسكناً للخنجر ليدل على ديمومة الألم.
"لي فرحتان.."
كأنه الصائم افطاره الميلاد هو أول فرحة
"لي فرحة الميلاد.."،
" لي فرحة اللقيا بوجه حبيبتي" وهي الفرحة الأكثر أهمية وقداسة، والتي توازي فرحة الصائم يوم يلقى الله.
"قطيع الشوق يسرح بين أوديتي؟"
وهي صورة أخرى تصدر الوحشية والهمجية التي يحدثها الشوق في الذات الشاعرة..
"سؤالك مطرقة زلزلتني.." صورة تعكس وقع السؤال العنيف عليه، مزلزلاً كوقع المطرقة.
كان ذلك كله جميلاً ومتميزاً ، ولكن الصورة سلاح ذو حدين، إذا ندرت تفردت، وإذا تكررت أهدرت حقها في الثناء وبددت دهشتها الأولى وهذا ما حدث في تكرار الصورة التالية:
"يقرأ ما تيسر من سورة الأصدقاء..
"أذرف ما تيسر من دموع مذلتي.."
"ولجت برجلي اليمنى
اقرأ ما تيسر من كتاب تغربي.."
"تتلو عناوين وتظل تقرأ في كتاب الراحلين.."
لذا على الشاعر أن يعيد قراءة ديوانه مرة أخرى بعيون القارئ بعدما صاغة بلهفة الكاتب.
أما عن المكان في الديوان فإنه يتسم بخصائص “وجدوغرافية” إن جاز التعبير، إذْ تفعلُ الذَّات الشاعرة الشحنة الإنفعالية بالمكان، فتُحَوِّلُ خصائصَ العناصر والكائنات والمكونات الطوبوغرافية أو الهندسية إلى خصائص شعورية ليس لها وجود جغرافي ولا اجتماعي ملموس ؛ فتصير المدن دخانية ، عمدها سديمية ، السماوات ارتحال، البيت شعر ، الشبابيك جراح ، الموطن مجرد حقيبة، أزهار الأحلام رمادية.
أما الزمان فقد تجسد وتشكل بالأنسنة فصار ضريراً ، مصلوباً، مواسمه العطش، يلقي أحزانه كما يلقى الرجل معطفه.
تتجلى مهارة الحكي لدى الشاعر (أشرف قاسم) بداية من قصيدة (أغنيات صغيرة) وما تلاها من قصائد فتظهر تقنيات (السرد، والحوار، والوصف، والحبكة، والأحداث....) وتتحرك داخل حيز القصيدة بمرونة.
لديه استيعاب واضح بأنه لا وجود للمطلق، لا شر مطلق، لا خير مطلق، لا طهر مطلق، لا فسق مطلق؛ فبينهما دوما أمور متشابهات فنراه يقول مثلاً: "يا ملاكي الآثمة.."
وهو يصدر قناعاته بوساطة القصيدة من باب التنوير. أما عن الشكل الكتابي فقد تعدد وتنوع أيضاً شكل القصيدة ، وطال السطر فيها وقصر وفق الإحساس الذي يحمله.
وأخيراً جاءت نهاية المختارات بقصيدة (أهل الطريق) وهو عنوان إنزياحي يعني أن رحيل الذات الشاعرة في هذا الديوان رحيل سرمدي وعذابها بلا نهاية.
اترك تعليق