مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

«ذهبٌ أخضر من رماد الحقول»

كيف حولت قرى قنا المخلفات الزراعية إلى ثروة بيئية واقتصادية؟

لم تكن قرى مركز قنا في صعيد مصر تعرف الهدوء مع اقتراب مواسم الحصاد. فمع انتهاء جمع المحاصيل، كان مشهد الحقول يتبدل سريعًا؛ أكوام من مخلفات أشجار الموز، وبقايا الشمر، ومخلفات زراعية أخرى، تُترك على أطراف الأراضي أو تُلقى في الترع والمصارف، قبل أن ينتهي بها المطاف محترقة في العراء. لم يكن تصاعد الدخان الكثيف مجرد ظاهرة عابرة، بل صار جزءًا من الحياة اليومية، يتسلل إلى البيوت، ويخنق الصدور، ويترك آثاره الصحية على النساء والأطفال قبل غيرهم.


قبل سنوات قليلة فقط، كان موسم الحصاد في قرى الأشراف وأبنود وكلاحين أبنود والأشراف الشرقية يعني ارتفاع سحب الدخان، وتدهور خصوبة التربة، وانخفاض إنتاجية المحاصيل، وظهور أمراض تنفسية بين النساء والأطفال. كان المزارع يدرك أن الحرق يضر بالأرض والإنسان، لكنه لم يكن يملك بديلًا، في ظل غياب حلول آمنة للتخلص من المخلفات وارتفاع أسعار الأسمدة الكيميائية عامًا بعد عام.

وسط هذا الواقع، لم يكن أحد يتوقع أن تتحول هذه المخلفات نفسها، التي طالما اعتُبرت عبئًا بلا قيمة، إلى ذهب أخضر يعيد الحياة إلى التربة، ويرفع دخل الأسر، ويمكّن النساء والشباب، ويصنع نموذجًا تنمويًا متكاملًا في صعيد مصر. من هنا بدأت حكاية مشروع «بداية خير لمكافحة التلوث البيئي وتدهور الأراضي الزراعية». كما ترصد بوابة «الجمهورية أون لاين» تفاصيله في هذا التحقيق.

الجذور العميقة للأزمة: تلوث وتدهور وتهميش

تعتمد المجتمعات الريفية في مركز قنا اعتمادًا شبه كامل على الزراعة، خصوصًا زراعة الموز والشمر والمحاصيل التقليدية الأخرى. هذه الزراعات، رغم أهميتها الاقتصادية، تنتج كميات ضخمة من المخلفات الزراعية التي ظلت لسنوات بلا إدارة سليمة. وكان الحرق المكشوف هو الحل الأسرع، لكنه في الحقيقة حلٌ راكم الأزمات بدلًا من حلها.

الحرق المكشوف لمخلفات أشجار الموز وبقايا المحاصيل أدى إلى تلوث الهواء وارتفاع معدلات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي، فضلًا عن فقدان التربة للمادة العضوية، وهي العنصر الأساسي لخصوبتها. ومع تراجع الخصوبة، اضطر المزارعون إلى زيادة الاعتماد على الأسمدة الكيميائية مرتفعة الثمن، ما مثّل عبئًا اقتصاديًا وصحيًا متزايدًا.

كما تسبب إلقاء المخلفات في الترع والمصارف في تلوث مصادر الري، وإعاقة حركة المياه، وانعكس ذلك سلبًا على جودة المحاصيل. هذه العوامل مجتمعة صنعت حلقة مفرغة من التدهور البيئي والاقتصادي، في مجتمعات تعاني أصلًا من الفقر وقلة الفرص.

لماذا كان لا بد من تدخل مختلف؟

في ظل هذا الواقع، لم تعد الحلول التقليدية أو حملات التوعية المحدودة كافية. كانت الأزمة بحاجة إلى تدخل متكامل يعالج الجذور، ويربط بين البيئة والاقتصاد والعدالة الاجتماعية. هنا برز دور مرفق البيئة العالمية / برنامج المنح الصغيرة (GEF/SGP) في مرحلته السابعة، التي تركز على تحقيق فوائد مشتركة لسبل العيش، وتعزيز القدرة على الصمود، وتطبيق ممارسات زراعية منخفضة الكربون داخل المجتمعات الريفية الهشة.

لم يكن اختيار جمعية كرامة للتنمية الشاملة بالأشراف بمحافظة قنا لتنفيذ المشروع مصادفة، بل جاء اعتمادًا على خبرتها الطويلة في العمل المجتمعي، وقدرتها على الوصول المباشر إلى المزارعين والنساء، وفهمها العميق لطبيعة التحديات المحلية. المشروع لم يُصمَّم في مكاتب مغلقة، بل انطلق من الحقول نفسها، ومن شكاوى المزارعين، ومن معاناة النساء مع الدخان والتلوث.

من الفكرة إلى التنفيذ: كيف وُلدت «بداية خير»؟

الفكرة بدت بسيطة في ظاهرها، لكنها عميقة في مضمونها: لماذا لا تتحول المخلفات الزراعية من عبء بيئي إلى مورد اقتصادي؟

هكذا وُلد مشروع «بداية خير»، بتمويل من برنامج المنح الصغيرة التابع لمرفق البيئة العالمية، وتنفيذ جمعية كرامة للتنمية الشاملة بالأشراف. استهدف المشروع معالجة مخلفات أشجار الموز، ومخلفات الشمر، ومحاصيل أخرى، وتحويلها إلى سماد عضوي (كمبوست) عالي الجودة.

جرى توفير جرارات زراعية وماكينات فرم، وتنفيذ تدريبات عملية داخل الحقول، ما ساعد المزارعين على إنتاج الكمبوست بأنفسهم، وتحويل الفكرة إلى ممارسة يومية.

أرقام تتحدث: 1000 طن كمبوست لإحياء 500 فدان

خلال فترة تنفيذ المشروع، تم إنتاج نحو 1000 طن من السماد العضوي (كمبوست)، استُخدمت لتحسين خصوبة أكثر من 500 فدان من الأراضي الزراعية. كما جرى تسويق ما يقرب من 50 ألف طن من الكمبوست المنتج سابقًا للمزارعين داخل القرى والمناطق المجاورة، ما وفر موردًا اقتصاديًا إضافيًا وساهم في نشر التجربة.

أثبت الكمبوست كفاءة عالية في تحسين بنية التربة، وزيادة قدرتها على الاحتفاظ بالمياه، وتقليل الاعتماد على الأسمدة الكيميائية المكلفة، وهو ما انعكس مباشرة على جودة المحاصيل والدخل الزراعي.

تنمية تخدم البيئة والإنسان معًا

يقول محمود أحمد محمد، رئيس مجلس إدارة جمعية كرامة للتنمية الشاملة بالأشراف: «مشروع بداية خير لم يكن مجرد تدخل بيئي، بل رؤية تنموية شاملة. كنا نعلم أن مشكلة المخلفات مرتبطة بتدهور الأرض وارتفاع تكلفة الزراعة وتراجع الدخل، لذلك صممنا المشروع ليخدم البيئة والإنسان في آن واحد».

ويؤكد أبو الحمد البستاني الشريف، المدير التنفيذي للجمعية، أن المشروع تجاوز التوقعات: «لم نركز فقط على الإنتاج، بل على بناء وعي المجتمع المحلي وتمكين النساء والشباب. اليوم نرى الأرض تتعافى، والدخل يتحسن، والناس أصبحت جزءًا من الحل».

بناء وعي المزارعين: تدريب 300 مزارع على الزراعة العضوية

لم يكن من الممكن تحقيق هذا التحول دون العمل على تغيير القناعات الراسخة. لذلك أولت جمعية كرامة اهتمامًا كبيرًا ببناء وعي المزارعين، من خلال تدريب 300 مزارع على إنتاج السماد العضوي داخل الحقول، وشرح الفوائد البيئية والاقتصادية لاستخدامه.

لم يقتصر هذا الوعي على الكمبوست وحده، بل شمل مفهوم الزراعة المستدامة، والحفاظ على مصادر المياه من التلوث، وتقليل الانبعاثات الناتجة عن الحرق المكشوف. ومع مرور الوقت، تحول المزارعون أنفسهم إلى دعاة للتجربة داخل قراهم، ينقلون ما تعلموه إلى غيرهم.

المرأة الريفية قلب المشروع النابض.. 550 سيدة في خط المواجهة

في قلب قرى الأشراف وأبنود وكلاحين أبنود والأشراف الشرقية، لعبت المرأة الريفية دورًا محوريًا في نجاح مشروع «بداية خير». فالنساء كنّ الأكثر تضررًا من الحرق المكشوف للمخلفات الزراعية، إذ كان الدخان يملأ البيوت، ويؤثر على صحة الأطفال، ويزيد من أعباء الحياة اليومية.

إدراكًا لهذا الواقع، صممت الجمعية برامج تدريبية مكثفة استهدفت 550 سيدة، لتعليمهن كيفية تحويل المخلفات الزراعية إلى سماد عضوي عالي الجودة، إلى جانب تدريبهن على تقنيات الفرز والتنقية والتجفيف للمحاصيل العطرية والطبية، وعلى رأسها الشمر.

تقول شيماء حبيشي أحمد وهناء عبده سلامة، من المستفيدات: «قبل المشروع كنا نواجه مشكلات في التنفس بسبب الدخان، ولم يكن لدينا أي دور في تحسين البيئة أو زيادة الدخل. كل ما كنا نفعله هو متابعة الحصاد والعمل في المنزل». 

وأضافت شيماء وهناء: «نشارك الآن في إنتاج الكمبوست، ونعرف كيف نستفيد من مخلفات الحقول، والدخل الذي نحصل عليه يعين أسرنا كثيرًا. المشروع غير حياتنا بالكامل، كما نستطيع الآن التنفس بحرية أكبر، ولم يعد الأطفال يعانون من مشكلات في الجهاز التنفسي. الأرض أصبحت خضراء وخصبة، والمزارعون سعداء بالنتائج».

تعكس كلماتهما التحول الاجتماعي الذي أحدثه المشروع، وكيف انتقلت النساء من متلقيات سلبيات للأضرار البيئية إلى شريكات فاعلات في حماية الأرض وتنمية أسرهن.

المزارعون: قبل المشروع وبعده

شكّل المزارعون العمود الفقري للمشروع بعد تلقيهم تدريبًا عمليًا على إنتاج الكمبوست واستخدامه، حيث أكدوا كيف ساهم المشروع في تحسين إنتاجية الأرض وجودة المحاصيل، وتنقية الهواء، وزيادة الدخل.

يقول المزارعان إسماعيل المرابط وحسن النجار: «كنا نعاني من الأرض باستمرار. المخلفات تملأ الحقول، والدخان يضر صحة أسرتينا. كنا مضطرين لاستخدام الأسمدة الكيميائية باهظة الثمن، وكانت الأرض تعطي محصولًا ضعيفًا، أما الآن فأصبحت الأرض أخصب، والهواء أنظف، والدخل تحسّن، والمخلفات التي كانت تسبب المشكلات أصبحت مصدر دخل حقيقي».

ويضيف المزارعان جابر عيارو وأبو المجد عثمان الزمر: «قبل المشروع لم نكن نعرف كيف نستفيد من المخلفات. كل موسم كان يحمل معه المعاناة نفسها، ولا وجود لأي حل مستدام. لكن مشروع بداية خير علّمنا كيف نحول مشكلة المخلفات إلى فرصة. الأرض استعادت إنتاجيتها، والمحاصيل أصبحت أفضل بكثير من السابق، وأدركنا أن العمل البيئي يمكن أن يكون مصدر رزق حقيقي».

وحدات ما بعد الحصاد: زيادة الدخل بنسبة تصل إلى 70%

لم يقتصر المشروع على إنتاج السماد العضوي، بل ركّز أيضًا على رفع القيمة الاقتصادية للمحاصيل العطرية والطبية، وعلى رأسها الشمر، وأسهمت هذه المعاملات في زيادة الدخل بنسبة تصل إلى 70% مقارنة بالبيع الخام، وتقليل عدد الوسطاء، وخلق 50 فرصة عمل جديدة للفتيات والسيدات.

تقول أسماء محمد حسيب: «الآن نبيع الشمر بعد التنقية والتجفيف بسعر أعلى بكثير، والدخل الذي نحصل عليه أحدث فرقًا حقيقيًا في حياتنا، فالمشروع منحنا المعرفة والمهارات التي لم نكن نمتلكها من قبل».

وتقول زينب محمد محمود: «أشعر بالفخر لأننا جزء من مشروع بيئي وتنموي كبير، ونساهم في تحسين أرضنا وزيادة دخل أسرنا. هذه فرصة لم نكن نتخيلها من قبل».

الأثر البيئي والاجتماعي

حقق مشروع «بداية خير» أثرًا بيئيًا واجتماعيًا ملموسًا في قنا. فقد ساهم في التخلص الآمن من نحو 1000 طن من المخلفات الزراعية، ما أدى إلى الحد من الحرق المكشوف الذي كان يلوث الهواء ويضر بصحة السكان، خاصة النساء والأطفال. كما أعاد المشروع الحياة إلى أكثر من 500 فدان من الأراضي الزراعية، حيث استعاد الكمبوست الناتج خصوبة التربة، وحسّن قدرتها على الاحتفاظ بالمياه، ما انعكس إيجابًا على جودة المحاصيل وزيادة إنتاجيتها الزراعية. 

وعلى الصعيد الاجتماعي، تمكن المشروع من تمكين النساء والشباب اقتصاديًا، من خلال إشراكهم في إنتاج الكمبوست وإدارة وحدات ما بعد الحصاد، ما عزز العدالة الاقتصادية ومكّن الأسر الريفية من تحسين دخلها اليومي، وجعل المجتمع المحلي شريكًا حقيقيًا في حماية البيئة وتنمية قراه.

اهتمام رسمي ودولي

حظي المشروع بزيارات من ممثلي وزارات الزراعة والبيئة والري، كما زارت بعثة يابانية مواقع التنفيذ، وأوصت بتكرار التجربة في مناطق أخرى باعتبارها نموذجًا عمليًا للتنمية المستدامة.

حين يصبح الرماد بداية حياة

من قلب صعيد مصر، يخرج الذهب الأخضر من رماد الحقول. تتحول المخلفات من عبء إلى مورد، وتستعيد الأرض خصوبتها، ويستعيد المزارع دخله، وتصبح المرأة شريكًا أصيلًا في التنمية.

مشروع «بداية خير» ليس مجرد تجربة بيئية، بل رسالة أمل تؤكد أن التنمية المستدامة تبدأ من الأرض... ومن الناس.





تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي

تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي جوجل نيوز جوجل نيوز

يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل

اترك تعليق