يشهد البحث العلمي تطورًا متسارعًا في فهم اضطرابات النمو العصبي، وفي مقدمتها اضطراب طيف التوحّد، الذي لا تزال أسبابه الدقيقة قيد الدراسة. ومع تزايد الاهتمام بالمؤشرات البيولوجية المبكرة، يتجه العلماء إلى تقنيات مبتكرة تتيح محاكاة تطور الدماغ البشري خارج الجسم، في محاولة لفهم ما يحدث في المراحل الأولى التي تسبق ظهور الأعراض السلوكية.
في إنجاز علمي لافت، تمكّن باحثون أميركيون من تنمية نماذج تُعرف بـ«الأدمغة المصغّرة» داخل المختبر، ما أتاح لهم رصد أنواع محددة من الخلايا والجينات المرتبطة بتضخم الدماغ لدى الرضّع، وهي ظاهرة يُنظر إليها خلال السنوات الأخيرة باعتبارها مؤشرًا بيولوجيًا مبكرًا محتملًا لاضطراب طيف التوحّد، وفق تقرير نشره موقع MedicalXpress.
وأُجريت الدراسة في مختبر الدكتور جيسون شتاين، أستاذ علم الوراثة في كلية الطب بجامعة نورث كارولاينا في تشابل هيل، ونُشرت نتائجها في مجلة Cell Stem Cell، حيث تمثل خطوة متقدمة في نمذجة تطور الدماغ البشري خارج الجسم، بما يساعد على فهم التفاعل المعقد بين العوامل الوراثية والبيئية خلال المراحل المبكرة من النمو العصبي.
وأشار الباحثون إلى أن العمر الزمني للطفل لا يعكس دائمًا التطور البيولوجي للدماغ، إذ لوحظ أن بعض الأطفال الذين يُشخَّصون لاحقًا بالتوحّد يُظهرون نموًا مفرطًا في حجم الدماغ خلال السنة الأولى من الحياة. ورغم اعتبار هذه الظاهرة علامة إنذارية مبكرة، فإن آلياتها الخلوية والجزيئية ظلت غير مفهومة لفترة طويلة.
وأوضحت الدكتورة روز غلاس، الباحثة الرئيسية في الدراسة، أن الهدف لم يكن فقط توثيق تضخم الدماغ، بل تحديد الخلايا المسؤولة عنه والآليات الجينية التي تقوده في مرحلة شديدة الحساسية من تطور الدماغ.
واعتمد الفريق البحثي على إعادة برمجة خلايا بشرية مأخوذة من متطوعين وتحويلها إلى خلايا جذعية متعددة القدرات، ثم توجيهها لتكوين أنسجة تحاكي بنية الدماغ ووظائفه المبكرة، والمعروفة علميًا بالعضيّات الدماغية.
وجُمعت العينات من 18 مشاركًا ضمن «دراسة تصوير دماغ الرضّع» (IBIS)، وهي مبادرة أميركية وطنية طويلة الأمد تتابع الأطفال ذوي الاستعداد الوراثي المرتفع للإصابة بالتوحّد. وأظهرت النتائج ارتباط نوعين من الخلايا بحجم الدماغ، هما الخلايا السلفية العصبية المنتجة لخلايا الدماغ، وخلايا الظهارة في الضفيرة المشيمية التي تدعم هذا النمو وتنظم البيئة السائلة داخل الدماغ.
كما كشفت التحليلات عن ارتفاع ملحوظ في نشاط بعض الجينات داخل الخلايا السلفية العصبية لدى العينات المرتبطة بأدمغة أكبر حجمًا. وأكد الباحثون أن هذه النتائج لا تعني أن تضخم الدماغ يسبب التوحّد بشكل مباشر، لكنها تعزز فرضية أن التغيرات المبكرة جدًا في نمو الدماغ قد تؤثر في المسار العصبي لاحقًا.
ويعمل الفريق حاليًا على دراسة تأثير عوامل بيئية قبل الولادة، مثل بعض الأدوية والمواد الكيميائية، لمعرفة دورها المحتمل في زيادة المخاطر لدى الأطفال ذوي الاستعداد الوراثي. ويرى العلماء أن الأدمغة المصغّرة قد تمثل مستقبلًا أداة محورية لفهم التوحّد، واختبار العلاجات، وربما تطوير استراتيجيات وقائية مبكرة.
اترك تعليق