 
                      
            
                                        
                                        في مشهد لا تصنعه الكلمات بل تصوغه الدموع والفخر، تجلّت عظمة الوطن في وجوه أبناء الشهداء وهم يقفون علي أبواب أكاديمية الشرطة، يرددون في أعماقهم حكايات البطولة التي عاشوها طفولةً قبل أن يدركوا معني الفقد، وجوههم تحمل ملامح آبائهم "نظراتهم تشي بعزيمةي لا تلين" وخطاهم تكتب على تراب الوطن رسالة وفاء لا تنتهي.
هنا لا وجود للصدفة "فهؤلاء لم يأتوا إلي الأكاديمية طلبًا لمهنة، بل استجابة لنداء الوطن الذي تجذّر في قلوبهم منذ لحظة استشهاد آبائهم وإخوتهم، من رحم الحزن خرجوا، أقوياء كأنهم وُلدوا من نور الراية التي لم تسقط يومًا، أبناء الأبطال لا يرثون الوجع فقط، بل يرثون الشجاعة والكرامة والعهد الذي قُطع علي أرض المعركة" عهد أن يبقي الوطن آمنًا مهما كلف الثمن.
تسير الأمهات في الصفوف الأولي، يرفعن رؤوسهن بفخري لا يضاهيه شيء، فقد قدمن أغلي ما يملكن للوطن "ثم يرين اليوم أبناءهن يواصلون المسيرة ذاتها، تتعانق دموع الفخر مع وجع الفقد في لحظة استثنائية تختصر كل معاني الوطنية الحقيقية، فهنا لا مكان للحياد. إما أن تكون من صُنّاع المجد" أو من المدينين له.
إنها حكاية وطني لا يموت فيه الشهيد "بل يولد منه ألف بطل جديد، حكاية أسري واجهت الإرهاب بقلوب ثابتة، وقدّمت للبلاد رجالاً ونساءً يؤمنون أن مصر تستحق الحياة، ومن أكاديمية الشرطة، يخرج الأبناء ليؤكدوا أن البطولة لا تورّث بالدم فقط، بل بالإيمان والوفاء والانتماء.
فبأي قوة يتمتعون؟ وبأي جلد وعزيمة لذات التجربة يكررون؟! ولماذا هم شديدو الحرص علي إلحاق ما تبقي لهم من أبناء وأشقاء بأكاديمية الشرطة رغم الآلام والحزن علي فراق شهدائهم؟.
أهالي الشهداء قالوا لـ"الجمهورية أون لاين" إن البطولة والشجاعة موروثة في دماء أبناء الشهداء، "وعندما يأتي الأجل لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون"، وكيف أن استشهاد الآباء لا يخيف الأبناء، بل يدفعهم إلى استكمال الخطي على طريق حب الوطن.
وأكدوا أن الله خلقهم لهذه المهمة وزينها في قلوبهم. وأن "العمر واحد والرب واحد"، وكل من وقر الإيمان في قلبه يعلم أن المهنة ليست سببًا في موته.
وقالوا أيضًا: حتي يموت الخونة بغيظهم ويعلمون أن الأبطال من رجال وزارة الداخلية لا تهاب الموت فداء الوطن.
ومن الأمثلة علي أبناء شهداء الشرطة الذين أصروا علي استكمال مسيرة أبطالهم وتخرجوا بدفعة 2025 وما قبلها من سنوات:
الفاروق نجل الشهيد اللواء عصام الخولي، حسن نجل الشهيد اللواء ياسر عصر، نور نجل الشهيد اللواء إمتياز إسحق، عاطف نجل الشهيد العميد وائل طاحون، مصطفي نجل الشهيد العميد مالك مهران، علاء نجل الشهيد العميد عامر عبد المقصود، محمد ابن الشهيد العميد محمد عبد السلام. وهايدي نجلة الشهيد العميد عمرو هلال، يارا ابنة الشهيد العميد عصام عبد الكريم، رقية نجلة الشهيد الرائد رفيق عزت، إيمان شقيقة الشهيد الرائد أشرف جاد شهيد كمين القسيمة بسيناء، معتز شقيق الشهيد الرائد كريم فؤاد أبو زامل، زياد شقيق الشهيد النقيب أحمد عبدالله عبد المحسن، محمد شقيق الشهيد النقيب عبدالرحمن البشيهي، وغيرهم كثيرون.
في حديثها لـ"الجمهورية أون لاين"، قالت السيدة لمياء فتحي، أرملة الشهيد اللواء عصام الخولي، مساعد مدير أمن المنيا الذي استُشهد حال مروره علي دير الأنبا صموئيل في ديسمبر 2018، إن نجلها "الفاروق" تخرج في دفعة هذا العام من أكاديمية الشرطة.
وأضافت: "مش خسارة فيكي يا مصر"، جملة قلتها وأنا أشاهد عرض خريجي كلية الشرطة دفعة 2025 بكل فخر وإعزاز وبكاء شديد ممزوج بسعادة ليس لها حدود، وحزن يمزق القلب والعين، فرحة ملؤها فخر واعتزاز وتقدير لهذا الوطن الغالي الذي دفع فيه أسر الشهداء أغلي ما عندهم، جواهر قدمها الأهل فداء لتراب الوطن.
هنا تقف اللحظات بكل خيرها وقسوتها، ففي هذه اللحظة يقف الشهيد في السماء عاليًا ليري قطعة منه ترتدي نفس البدلة الميري وتمشي نفس الطابور وتقسم نفس القسم: أن تحمي الوطن والأرض والعرض، يا لها من روعة، وياله من خوف مما هو قادم، ولكن يعلو صوت الفخر والعزة والشجاعة والإقدام بأن هذا الشبل من ذاك الأسد.
وتابعت: عندما نفقد من نحب مثلما فقدنا الشهيد "عصام"، نتمني لو يكون كل أبنائه نفس النسخة، ويصبح الالتحاق بكلية الشرطة أو الكليات العسكرية حلم كل الشباب، ويضيع الخوف أمام حب الوطن، ويصبح كل من الأب والأم أداة مشجعة لدخول الكلية، ويكون لديهم صبر وإيمان بأنهم سيكملون طريق الآباء، فهنيئًا لهم ما يصنعون.
قال والد الشهيد الرائد أشرف إبراهيم جاد. شهيد كمين القسيمة بوسط سيناء عام 2018: إن للشهيد شقيقتين، الكبري درست بكلية الألسن جامعة عين شمس وتزوجت قبل وفاته، أما الشقيقة الصغري "إيمان" فكانت بالمرحلة الثانوية عند استشهاده، وبعد حصولها علي الثانوية العامة التحقت بكلية الآداب جامعة المنصورة، وكانت تتمني أن تلتحق بكلية الشرطة حبًا واستكمالًا لمسيرة شقيقها، وعندما علمنا برغبتها كنا في منتهي السعادة ووافقنا جميعًا.
وبعد حصولها علي الشهادة تقدمنا بطلب إلي وزير الداخلية اللواء محمود توفيق برغبة أسرة الشهيد أشرف جاد في استكمال شقيقته الشهيد الطالبة إيمان إبراهيم جاد لمسيرة شقيقها الشهيد بالشرطة، ووافق مشكورًا علي الفور، وتم تقديم الأوراق المطلوبة بمساعدة مكتب العلاقات الإنسانية بالوزارة.
واجتازت جميع الاختبارات كأي طالبة عادية، وطوال فترة التدريب والدراسة كانت تعامل كأي طالبة عادية، والحمد لله تم تخرجها بحضور فخامة رئيس الجمهورية، وكان يومًا صعبًا علينا كأسرة الشهيد أشرف جاد لتذكرنا يوم تخرجه، ولكن حبنا للشرطة واستكمال مسيرته في شخص شقيقته، الملازم أول إيمان إبراهيم جاد، هون علينا، وهنا نقول ونتمني لو عندنا أكثر من ولد أو بنت لقدمناه لمصر وشرطة مصر.
قالت السيدة سحر، أرملة الشهيد اللواء إمتياز إسحق، شهيد حادث الواحات الإرهابي عام 2017:
"عندما يأتي الأجل لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون"، هذه كانت الجملة التي كان يرددها الشهيد إمتياز دومًا، كان دائم الدعاء أن يُقبض شهيدًا، وعندما نال ما تمني ظل المثل الأعلي الذي أراد نجله "نور" أن يصل إليه، وأن يكون بطلاً مثل والده.
فقد كان نموذج البطولة متمثلاً في شخص "إمتياز" حيًا ليل نهار أمام عينيه، يسمع ويشاهد تفاني والده في أداء مهامه وواجبه في ضبط الأمن والقبض علي المجرمين ومحاربة الجريمة، وكم لوالده من دور عظيم أدّاه بصدق وإخلاص تجاه الوطن، قاصدًا به رضاء الله وحده.
وتابعت: "ورث نور من والده كل هذه الصفات، ولذلك رغم استشهاد والده كان لديه الدافع القوي للالتحاق بأكاديمية الشرطة دون خوف من الموت أو الاستشهاد مثل والده، وقد وفّقه الله وأصبح متميزًا في خدمته، متفانيًا في أداء مهامه، وأصدق ما شاهده الجميع المشهد الذي قدّره القدر له عندما شب حريق في سنترال رمسيس، والتقطت الكاميرات مشاهد غاية في الإقدام والشجاعة والتضحية بالروح لـ "الضابط نور الدين"، وانتشرت تلك الصور علي وسائل التواصل الاجتماعي، وكان لم يُعرف وقتها أنه نجل الشهيد إمتياز، لكن الله شاء أن يُكرم الاثنين معًا لإخلاصهما في واجبهما تجاه الوطن".
وختمت قائلة: "لا عجب إذن أن نري أبناء وبنات شهداء الشرطة يصرون علي استكمال المسيرة، ولا يخشون ذات المصير، رغم الآلام والحزن علي فراق شهدائهم".
قالت الدكتورة نجلاء سامي، أرملة الشهيد العميد عامر عبد المقصود، شهيد مذبحة قسم شرطة كرداسة:
"الإصرار علي استكمال مسيرة الأبطال الشهداء هو كلمة السر وراء التحاق أبنائهم بمصنع الرجال، أكاديمية الشرطة، إنها رسالة قوية يرغبون في إرسالها إلي العالم، وهي أن حب الوطن يسري في الوريد مسري الدم، وأن استشهاد الآباء لا يخيف الأبناء، بل يدفعهم إلي استكمال الخطي علي طريق حب الوطن والتضحية بالروح من أجله".
وتابعت: "وجب التوجه بتحية إجلال وتقدير لوزير الداخلية اللواء محمود توفيق، الأب الحنون لكل أبناء وأسر الأبطال من الشرطة، ولأن من الشرف لأي أسرة شهيد دخول أبنائهم أكاديمية الشرطة، كنت أشعر بمرارة كبيرة لعدم التحاق ابني علاء بالأكاديمية بعد الثانوية العامة، وحسبتُ أنه باستشهاد زوجي البطل عامر عبد المقصود وعدم دخول نجله كلية الشرطة، انقطعت صلتي تمامًا بالشرطة، بيتي الثاني وأمني وأماني، وحزنت حزنًا شديدًا لعدم استكمال مسيرة البطل.
وبعد مرور سنوات الدراسة وحصوله علي بكالوريوس إدارة الأعمال، تقدم من جديد لأكاديمية الشرطة، واجتاز جميع الاختبارات بكفاءة. وتخرج من كلية الضباط المتخصصين، بل وكان قائد السرية، وسيسير علي خطي والده الشهيد، حمي الله مصر وحفظ رئيسها، القائد الأعلي للقوات المسلحة، ويبقي وزير الداخلية اللواء محمود توفيق الأب الحنون الذي بذل قصاري جهده ليكمل أبناء الأبطال مسيرة آبائهم".
قالت السيدة سعيدة. والدة الشهيد الرائد كريم فؤاد أبو زامل، شهيد قسم شرطة العلمين بمرسي مطروح عام 2015:
"بدافع حب الوطن وإصرار علي البقاء علي العهد في صيانة وحفظ تراب مصر. عاهد معتز شقيقه الشهيد كريم علي أن يستكمل المشوار ويدافع عن وطنه بكل قوة وشجاعة، لم يخشَ علي روحه من الموت أو الاستشهاد مثل شقيقه لأنه تربي علي أن أرواحنا جميعًا فداء للوطن".
وتابعت: "الدافع في التحاق ابني معتز بالشرطة كان استكمال مشوار من ذهبوا وارتقوا إلي مكانة الشهداء ليؤدي دوره هو ورفاقه من أبناء وزارة الداخلية بنفس القوة والعطاء، أما العزيمة فتأتي من الأم والزوجة التي قدمت للوطن أغلي ما عندها، وبكل قوة تزرع ذات العقيدة، عقيدة حب الوطن والتضحية في أبنائها.
ومن لا يحالفه الحظ في الالتحاق بكلية الشرطة من أبناء الشهداء يحزن حزنًا شديدًا، وأنا لم أرغم معتز علي الالتحاق بالشرطة، بل كانت رغبته أن يكون ضابطًا مثل شقيقه، أكرمني الله بأن أكون "أم الشهيد"، وهذه مكانة عالية وعظيمة في الدنيا والآخرة".
واستكملت: "أبناؤنا سيكملون مشوار أشقائهم وآبائهم، وسيأخذون حقهم ويدافعون عن بلادهم ويحافظون علي الوطن بكل قوة وشجاعة".
قالت السيدة ابتسام، والدة الشهيد الرائد أسامة كامل الذي لقي ربه في مطاردة عناصر إرهابية عام 2012 بمديرية أمن القليوبية:
"بلدنا ومالناش غيرها" ومش بنخاف، رزقني الله خمسة أبناء، الشهيد أسامة الثاني بين إخوته، ربنا اصطفاه وكرمه عنده، ولأنني مؤمنة بالله وقدره، وكانت الشرطة رغبته الأولي، كانت نفس الرغبة لدي شقيقه إبراهيم الذي التحق بأكاديمية الشرطة سيرًا علي نهج الشهيد، وحتي يموت الخونة بغيظهم ويعلمون أن الأبطال لا تهاب الموت فداء الوطن".
وتابعت: "أبناؤنا هذه أعمارهم وهذا قدرهم. فالقاتلون لم ينفذوا سوي إرادة الله فيهم، وأنا أم شهيد، وقدمت شقيقه مكانه في كلية الشرطة ليخدم وطنه، وحتي يكون مشروع شهيد آخر، وبفضل الله تخرج من الأكاديمية والتحق بصفوف الأبطال الساهرين علي حماية الوطن، الحاملين أرواحهم علي أكفهم لتكون هدية فداء لتراب مصر".
قالت الدكتورة سامية، والدة الشهيد أحمد عبد المحسن، شهيد قسم شرطة الغردقة عام 2021:
"الشهيد هو من شكّل وجدان شقيقه زياد، وجعله يعشق العمل الأمني ويتحمس للالتحاق بأكاديمية الشرطة، رغم أن والدهما لواء شرطة مساعد وزير، فإن زياد تأثر بحديث الشهيد المستمر عن كم المتعة بالدراسة في أكاديمية الشرطة، وكيف تُعلّم الجرأة والرجولة والإقدام والاستبسال في الدفاع عن الحق والوطن، إنها رسالة إنسانية وأمنية، وليست تفاخرًا باللقب أو الزي الميري".
وتابعت: "حتي في اختبارات كشف الهيئة بالأكاديمية، وردًا علي سؤال لماذا ترغب في دخول أكاديمية الشرطة، قال زياد نصًا: "أخي أحمد حببني فيها".
كان الشهيد يقول: الأمن رسالة، ومقامي حيث أقامني الله، وعينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله.
لذلك عشق شقيق الشهيد العمل الأمني وورثه من أخيه، ولا يزال يستمد القوة من الشهيد وسيرته المشرفة ويسير علي نهجه".
قالت السيدة مني محمد المهدي، أرملة الشهيد العميد مالك مهران، مدير إدارة مرور بني سويف، الذي استشهد في أعقاب فض اعتصام رابعة العدوية المسلح في أغسطس 2013 أثناء تأدية واجبه في تأمين مبني ديوان عام محافظة بني سويف:
"عندما استشهد زوجي، كان نجلي مصطفي يستعد لدخول كلية الصيدلة بعد حصوله علي شهادة الثانوية العامة بمجموع متميز يؤهله للالتحاق بهذه الكلية، لكنه أصر علي تغيير وجهته عقب الاستشهاد وخضع لاختبارات كلية الشرطة، ونجح في اجتيازها، والتحق بها وتخرج منها دفعة 2018".
وتابعت: "كانت الشرطة رغبة نجلي، ولم أتدخل في اختياره، فهو من قرر وفضّل كلية الشرطة علي الصيدلة ليكمل مسيرة والده في تأدية واجبه تجاه الوطن، فكل أبناء الشهداء هم امتداد لمشروع بطل قد يستمر في تأدية دوره في حفظ الأمن وصيانة الأرض والعرض، وقد يجتبيه الله شهيدًا، وهي غاية جميع رجال الشرطة المخلصين، الحاملين أرواحهم علي أكفهم استعدادًا للتضحية بها في أي وقت".
ومن أبناء شهداء الشرطة الأبطال الذين التحقوا بأكاديمية الشرطة، عاطف طاحون، نجل الشهيد العميد وائل طاحون، مفتش الأمن العام، وشقيق زوجة الشهيد الرائد ماجد عبد الرازق، معاون مباحث قسم شرطة النزهة.
وقف في يوم احتفالات عيد الشرطة منذ سنوات يقول إنه اتخذ والده وزوج شقيقته مثلًا أعلي وقدوة، وأن دافع الإصرار والعزيمة لديه للالتحاق بكلية الشرطة هو نظرة المصريين التي حملت الفخر والاعتزاز بتضحياتهم، ولذلك سيواصل الطريق ليكون امتدادًا للأبطال في تحمل مسؤولية أمن مصر.
وقال أيضًا إنه عندما التحق بالأكاديمية رأي التحدي والإصرار في عيون كل الطلبة علي مكافحة الإرهاب وأهل الشر، وقال نجل الشهيد وائل طاحون في رسالة موجهة لأعداء الوطن: "إحنا مش هنخلص، وسنقدم أرواحنا لحماية وطننا وشعبنا العظيم".
اترك تعليق