في أروقة المال والتكنولوجيا حول العالم. تتردّد كلمة واحدة أكثر من أي وقت مضي: "الذكاء الاصطناعي".
من بورصات الأسهم العالمية إلي معامل البحث العلمي. ومن غرف الاجتماعات المغلقة في وادي السيليكون إلي استوديوهات الإعلام. باتت هذه التقنية محورًا لحلم كبير: ثورة رقمية ستعيد رسم ملامح المستقبل.
لكن خلف هذا الحلم اللامع. تتشكّل ملامح فقاعة استثمارية تكبر بصمت. مليارات تُضخ. وخطط توسع غير مسبوقة. وتقييمات فلكية لشركات ناشئة لم تحقق ربحًا بعد" في مشهد يذكّر كثيرين بـ"فقاعة الإنترنت" في التسعينات.
وبين من يؤمن أن ما يحدث هو "ثورة حقيقية" ومن يحذر من "كارثة مالية مقبلة". يتأرجح العالم أمام لحظة تاريخية حاسمة.
في الطابق الأعلي لمقر إحدي شركات التكنولوجيا العملاقة في وادي السيليكون. عرض تنفيذي أمام المستثمرين لوحة إلكترونية تظهر قفزات غير مسبوقة في الإنفاق علي مراكز البيانات والرقائق الذكية.
كلمة السر كانت واضحة: الذكاء الاصطناعي التوليدي.
من أجل تشغيل أدوات مثل ChatGPT وGemini وClaude. تتدفق مئات المليارات من الدولارات.
التمويل لا يأتي فقط من أرباح الشركات. بل من رأس المال الجريء. ومن الديون. وأحيانًا من ترتيبات مالية غير تقليدية أذهلت حتي المحللين في Wall Street.
ومع أن بعض كبار التنفيذيين يعترفون بأن "السوق مبالغ في تقييمه". فإنهم يواصلون الاستثمار المحموم خشية أن يتخلفوا عن ركب المنافسة في سباق قد يعيد تشكيل الاقتصاد العالمي.
في مكتبه بكلية الهندسة في جامعة الإسكندرية. يتحدث د. أحمد بهاء الدين خيري. أستاذ التصنيع المستدام والرئيس المؤسس الأول للجامعة المصرية اليابانية للعلوم والتكنولوجيا (E-JUST). بنبرة هادئة:
"الفقاعة موجودة. لكنها ليست الصورة الكاملة. هناك مبالغة في التوقعات. نعم. ولكن هناك أيضًا إنجازات حقيقية لا يمكن تجاهلها"
يري بهاء الدين أن فهم المشهد يقتضي النظر من ثلاث زوايا: الخلفيات. الواقع. والمستقبل حتي عام 2050 فمع إطلاق أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي. حدث ضجيج إعلامي واستثماري يشبه ما حدث في فقاعة الإنترنت. حين قُيمت شركات ناشئة بمليارات دون وجود نماذج ربحية واضحة.
ويضيف: "التمويل الحالي يعتمد علي مصادر غير تقليدية. مما يجعل السوق هشاً في حال حدوث تصحيح مفاجئ. لكننا لا نتحدث عن سراب كامل. فالذكاء الاصطناعي أثبت نفسه في مجالات حيوية مثل الطب والصناعة والتعليم"
يشير بهاء الدين إلي أن الذكاء الاصطناعي لن يتوقف عند كونه أداة. بل سيصبح قلب الثورة الصناعية الرابعة. مع توقعات بموجة خامسة أكثر تطورًا.
"ستعيد تشكيل البني التحتية للمجتمعات. ستختفي وظائف تقليدية وتظهر وظائف جديدة في إدارة الأنظمة الذكية. والأخلاقيات الرقمية. والتفاعل الإنساني الآلي"
واكد أن الدول النامية ستواجه تحدياً كبيراً في إعادة تأهيل العمالة وتحديث منظومات التعليم لتواكب التحول العميق في سوق العمل.
بينما يتركز الحديث في الغالب علي "الفقاعة المالية". يلفت د. عمرو حسن فتوح. أستاذ تكنولوجيا المعلومات بجامعة الوادي الجديد. الانتباه إلي خطر آخر لا يقل خطورة: الفقاعة الفكرية والاجتماعية التي يصنعها الذكاء الاصطناعي.
"إذا كان ما تراه علي فيسبوك أو يوتيوب أو إنستغرام يشبه أفكارك ويؤكد قناعاتك. فأنت تعيش داخل فقاعة رقمية تعزلك عن الحقيقة"
يشرح فتوح أن الخوارزميات تراقب كل حركة يقوم بها المستخدم. وتبني صورة دقيقة عنه. ثم تغذيه بمحتوي مصمم خصيصًا.
ومع مرور الوقت. تتشكل عدسة ضيقة يري من خلالها العالم. فينعزل فكريًا واجتماعيًا دون أن يشعر.
ويضيف: "هذه الفقاعة تضعف قدرتنا علي التفكير النقدي. وتغلق أمامنا نوافذ الحوار مع المختلفين. لكسرها. علينا تنويع مصادر المعرفة والتحكم في التقنية بدلاً من أن تتحكم هي بنا".
ان الذكاء الاصطناعي ليس "العدو" كما يصفه البعض. بل مرآة لخياراتنا.
فإما أن نوجهه بحكمة. أو نتركه يقودنا نحو "انفجار رقمي" قد يهز الاقتصاد العالمي.
يحمل د. خالد شريف. استشاري نظم المعلومات والتحول الرقمي. رؤية اقتصادية دقيقة للمشهد.
"الذكاء الاصطناعي يعيش اليوم لحظة تشبه فقاعة الإنترنت عام 2000" ولكن مع فروق جوهرية."
ويشير إلي أن أسهم شركات الذكاء الاصطناعي قفزت بنسبة 70% منذ بداية العام. متجاوزة عمالقة مثل Apple وAmazon وNVIDIA. بينما لم تحقق 95% من الشركات أي عائد مالي حتي الآن. وفقًا لدراسة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT).
"الاستثمارات هائلة" لكن الأرباح مؤجلة. إن لم تكن غائبة. الشركات تراهن علي المستقبل. لا علي الحاضر."
ويحذر من الاعتماد المفرط علي شركة إنفيديا. التي باتت تمول حتي عملاءها لشراء منتجاتها. كما يلفت إلي أن مراكز البيانات تستهلك كميات طاقة هائلة. وهو تحدي موازي للتوسع التقني.
يتحدث د. أحمد الدسوقي. خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي. عن لحظة كاشفة في يناير الماضي. عندما قلبت DeepSeek الصينية الموازين بإطلاق نموذج ذكاء اصطناعي بتكلفة زهيدة.
"في يوم واحد" فقدت أسهم التكنولوجيا تريليون دولار. هبط سهم إنفيديا 17% كانت تلك صفعة أيقظت كثيرين".
يوضح الدسوقي أن الفقاعات غالبًا ما تنفجر عندما يدرك المستثمرون أن توقعاتهم مبالغ فيها. لكن المدهش أن السوق عادت بعد أشهر أقوي مما كانت عليه.
"الشركات ضاعفت رهاناتها" وإنفيديا تجاوزت قيمتها السوقية 4 تريليونات دولار. هذه ليست سوقاً مستقرة" بل مشهد مشحون قابل للاشتعال."
من جانبه. يوضح د. أحمد سمير. الخبير الاقتصادي وعضو المجلس المصري للشئون الخارجية. أن ما يحدث هو تجسيد كلاسيكي لفقاعة اقتصادية.
"الشركات الناشئة تُقيَّم بمبالغ لا تتناسب مع حجمها أو أرباحها. الطلب المتزايد والتغطية الإعلامية الضخمة يصنعان موجة تضخيم مصطنعة."
ويعدد سمير أبرز المؤشرات:
تقييمات مرتفعة دون إيرادات حقيقية.
استثمارات مبالغ فيها.
تمويل بالدين.
تغطية إعلامية تغذي الحماس الجماعي.
ويحذر من أن انفجار هذه الفقاعة قد يجر وراءه خسائر للمستثمرين ويؤثر علي استقرار الاقتصاد العالمي.
في مكتبه بكل هدوء. يفتح د. عمرو يوسف. أستاذ الاقتصاد والتشريعات المالية والضريبية. دفاتره القديمة ويقارن بين عام 1999 واليوم:
"نفس الحماس. نفس الاندفاع" وربما نفس النهاية إن لم ننتبه"
يشير يوسف إلي أن الحكومات والشركات تضخ استثمارات ضخمة في بناء بني تحتية رقمية. لكنها تعتمد في كثير من الأحيان علي الاقتراض. مما يجعل الأسس المالية هشة.
ويضيف: "لا يمكن تجاهل قيمة الذكاء الاصطناعي" لكنه ليس عصاً سحرية. المطلوب هو التحليل الاقتصادي الدقيق. والتعليم المستمر. والتخطيط الذكي للاستثمار"
في هذا السباق المحموم. يلوح في الأفق سيناريوهان متناقضان :
وختاما فان من بين كل التطورات التقنية التي شهدها العالم في العقود الأخيرة. ربما لا يوجد ما يحمل وعوداً ومخاطر متشابكة مثل الذكاء الاصطناعي.
إنه رهان القرن الواحد والعشرين. وربما امتحانه الأصعب.
بين الحلم والمخاطر. يقف العالم اليوم أمام مفترق طرق. فهل ستصنع البشرية من الذكاء الاصطناعي أداة للتقدم" أم ستتركه يتحول إلي فقاعة تنفجر في وجه الاقتصاد العالمي؟
الزمن وحده سيجيب" لكن الوعي المسبق قد يصنع الفرق.
اترك تعليق