من علامات النجاح في الحفلات الموسيقية أن يتضمن البرنامج فقراتلايتم تقديمها كثيرا علي الساحة الفنيةولها قيمة عالمية وأن يمتاز الأداء بالمهارة والاجتهاد، وهذا ما تحقق في الحفل الذي أحياه أوركسترا القاهرة السيمفوني علي المسرح الكبير وقاده المايسترو نادر عباسى وشارك بالعزف المنفردعازف الفلوت الفنلندى سامى جونيون..
والفقرة الموسيقيةالهامةالتي تضمنها البرنامج كانت كونشرتوالفلوت والأوركسترا للمؤلف آرام خاتشاتوريان "1903-1978" والذي يعد من عمالقة الموسيقي في القرن العشرين الذين حققوا شهرة دولية كبيرة أثناء حياته حيث أن موسيقاه تجذب الجماهير فهي تعبر بلغة مبتكرة ولكن غير معقدة ولهذا نجدها تصل إلي قلوب المستمعين بسهولة ويسر.
وخاتشاتوريان من أسرة أرمينية ولكنه لم يعش في أرمينيا بل ولد في جورجيا بدأ دراسته الأكاديمية للموسيقي عام 1922 حيث بدأ يعزف علي التشيللو وفي 1929 درس التأليف الموسيقي في كونسرفتوار موسكو وأصبح أستاذا تتلمذ علي يديه العديد من الموسيقيين منهم المؤلفان المصريان عزيز الشوان وجمال سلامة.
ومؤلفات خاتشاتوريان تتميز بنبرات شرقية مستمدة من الموسيقي الشعبية لأرمينيا وجورجيا وأزربيجان وأوزبكستان وأسلوبه مفعم بالألحان المتدفقة والإيقاعات المكثفة والتلوين الأوركسترالي الزاهي الذي يعكس رنين الآلات الشعبية أما ألحانه مقامية مبتكرة كما أنه مشهور بتزيين ألحانه بزخارف شرقية الروح متكررة وله مقدرة كبيرة علي أداء تنويعات علي اللحن الواحد وإنتاجه متنوع بين القوالب التقليدية والموسيقي التصويرية كما أنه قاد أكثر منستة عشر أوركسترا شهيرة في أنحاء كثيرة من العالم أثناء عزف مؤلفاته وقد زار مصر عام 1961 وقاد أوركسترا القاهرة السيمفوني وسافر معه إلي لبنان وقدم أعماله هناك من خلاله ومن أعماله المعروفة باليه "جانييه" و"سبارتاكوس"والاخير من ريبرتوار فرقة بالية اوبرا القاهرة .
وفي مجال الموسيقي البحتة قدم سيمفونيته الأولي عام 1935 وكونشرتو البيانو عام 1936، أما هذا الكونشرتو الذي نحن بصدده فقد ألفه لآلة الفيولينة وأهداه إلي العازف الشهير دافيد ويستراخ"1908 -1974" وتم عزفه لأول مرة في 16 نوفمبر 1940 ومنح جائزة لينين عن هذا العمل عام 1941 وهذا الكونشرتو عزفه عازف الكمان المصرىالمتميزياسر الصيرفى رائد اوركسترا القاهرة السيمفونى..
وفي 1968 قام عازف الفلوت الشهير بيير رامبال "1922-2000" بإعداده لآلة الفلوت مستبدلا بها آلة الكمان وكان ذلك بتصريح من خاتشاتوريان شخصياً.
وننتقل إلي واقع مسرحنا الكبير وتاريخ هذا العمل معنا حيث انه قاده لاول مرة المايسترو عباسى عام 2004 مع اوركسترا اوبرا القاهرة والعازف المنفردكان اللبنانى وسام بستانى كما أعيد تقديمه عام 2010من اوركسترا القاهرة السيمفونى بقيادة المايسترو السويسرى اندرياس شابورى وكانت العازفة د.ايناس عبد الدايم والذى يعد منأهم أعمالها ونقطة بيضاء فى رصيدها الفنى..
وهذا العمل يعد من عيون تراث القرن العشرين والذي يحتاج إلي صوليست ماهر لما يتضمنه من تقنيات تكنيكية للآلة كما أنه يحمل روحاً شرقية وزخارف في ألحاننجح فيها العازف الفنلندى الى حد ماولكن النجاح الأكبرا للمايسترو الذ ى حافظعلى الروح الشرقية التى يتضمنهاالعمل وحرص على تبيان معالجات المؤلف المقامية وتنويعات الألحان مع عازفين معظمهم يؤدى العمل لأول مرة مما يجعلنى اطالبه بتقديم اعمال اخرى لهذا المؤلف العظيم..
هذا الكونشرتو يؤديه أوركسترا ضخم كثير العدد متضمن مجموعات كاملة من آلات النفخ والإيقاع بالإضافة للمجموعات الوترية والهارب وهو مثل معظم أعمال خاتشادوريان موسيقاه - كما سبق ان ذكرت- ذات السمات الشرقية تنفذ إلي أذن وقلب المستمع المصري بسهولة ويسر والعمل مثل معظم الكونشرتات يتكون من ثلاث حركات الحركة الأولي تبدأ بمقدمة أوركسترالية شارك في أدائها معظم عازفي الفريق وبعدها دخل العازف المنفرد باللحن الرئيسي الذي تبعه اللحن الثاني ليدخل "الفلوت" ذات الصوت الرقيق في حوار مع آلات النفخ الخشبية وبعد ذلك يكون هناك عزف منفرد تماماً "كادنيزا" للفلوتلعب فيها سامى جونيون مقاطع تكنيكية صعبة في العزف معه ثم ننتقل إلي "كادنيزا" أطول تكون بدايتها حوار بين الفلوت والكلارينت وتنتهي بعزف قصير "كودا" مأخوذة من اللحن الرئيسي.
الحركة الثانية تبدأ بعزف من آلات الكلارينت تمهد لدخول الفلوت للحن الرئيسي للحركة وهنا شعر المتفرج أنالعازف أندمج مع العمل حيث أن هذه الحركة تمتاز بتعبيربة كبيرة فالعازف يكرر اللحن الرئيسي ولكن يعزفه من القرار مع مصاحبة خفيفة من الكلارينت وبعد تدفق أوركسترالي درامي يستمر حتى ختام الحركة نجد الفلوت يظل محتفظاً باللحن الرئيسي مع مساندة خفيفة من آلة الكورنو والآلات الوترية العالية الصوت مع استخدامها لكاتم الصوت أما بقية الآلات والهارب يعزفون بالنقر فقرات متتالية هابطة وهذا يعطي إنطباعاً رومانسياً هادئاً لهذه الحركة التي نجح العازف الصوليست والفريق في أدائها وكان المايسترو عباسى موفقاً فيها وكان واضحاً المجهود المبذول في التدريب عليها حتي جاءت بصورة جيدة.
أما الحركة الثالثة فالوصف الدقيق لها أنالعازف المنفرد عليهأن يجعل آلة الفلوت الرقيقة ترقص في يده وتقلد آلة الفيولينة في النغمات المتواصلة التي تعد صعبة بالنسبة لآلة النفخوهذا تحقق بصورةطيبة والاداء فى هذه الحركة يبدأ بمدخل أوركسترالي براق يمهد لدخول الفلوت الذي يؤدي اللحن الرئيسي للحركة المأخوذة من اللحن الثاني في الحركة الأولي وتجد هذه الحركة متضمنة الألحان الفلكلورية الأرمينية وواضح فيها الرقص الشعبي من ريف هذه البلاد فقرة محتشدة بالإيقاعات التي أجاد فيهاالعازف الى حد ماكما استطاع إيضاح الألحان لقد جاء أداء هذه الحركةمن العازف والأوركسترا بصورة جيدة وقوية يستحق المايسترووفريقهتحية على هذا الجهد المبذول في هذه الليلة
ولا يفوتنا أن نذكر أن برنامج الحفل بشكل عام كان جيداً حيث بدأ ببولينز من اوبرا "أوجين أونيجين" لتشايكوفسكىالتى سبق ان قدمه المايسترو عباسى ولكن من فترة بعيدةاما الختام كان مع السيمفونية الثامنة للمؤلفالتشيكى أنتونينديفورجاك " 1841-1904" وتعد من رصيد السيمفونى ولكن نادرا عزفها كما نتمنى أن يقدمالفريق اعمالاخرى لخاتشاتوريان حيث بها معالجات تقنية تناسب موسيقانا وتمثل درسا للمؤلفين الموسيقيين المصريين للاستفادة من الحانناالشعبية وايضا نتمنى ان يسند هذا الكونشرتو لعازفى الفلوت المصريين على ان يحفظوا العمل ولايتم قراءته من المدونة!!
الحفل جاء تحت عنوان سيمفونيات عظيمة ولكن مع احتفال العالم بمرورخمسين عاما على وفاة المؤلف الموسيقى ديمترى شستاكوفيتش"1906-1975" ننتظر أن تعزف احدى سيمفونياته تحت هذه السلسلة.
وأخيراً البرنامج جاء متوازناً ويمثل إضافة جيدة لكل من الفريق والجمهور والساحة الموسيقيةوتألق جديد للمايسترو المتميز نادر عباسى الذى نفتقده فى القيادة السيمفونية للأعمال العالمية منذ فترة.
اترك تعليق