بقلم : محمد نادر
رجعت القهوة اللي في وسط البلد بعد 15 سنة… كل حاجة زي ما هي… الترابيزات الخشب اللامعة من كتر المسح، الكراسي اللي كل رجل فيهم باين عليها أثر السنين، ريحة البن الطازة اللي بتسبقك قبل ما تدخل، وحتى المروحة السقف اللي صوتها بيغطي على أي حوار في الهوا الساكت.
وأنا واقف بأستعيد الذكريات، لمحت "المعلم" صاحب القهوة. شكله كبر شوية، شعره خطه الشيب، بس نفس النظرة اللي دايمًا كانت تسبق الكلام. ابتسم وقال وهو بيهز راسه:
– "إيه يا أستاذ… رجعت بعد غيبة طويلة."
ضحكت بهدوء، لكن عينه وقعت على العكاز اللي في إيدي. قرب مني وخلى صوته أوطى، فيه لمسة قلق:
– "مالك يا ابني… سلامتك."
حاولت أغيّر الموضوع بابتسامة سريعة، لكنه كان مركز فيا زيادة عن اللزوم… كأنه فاهم أكتر من اللي ظاهر.
قعدت على نفس الترابيزة اللي كنت بقعد عليها زمان. المفاجأة إنه بنفسه جه جابلي القهوة، ولما حط الفنجان، مد إيده تحت الطربيزة القديمة وفتح درج خشب صغير. سمعته بيزيح حاجة معدن، وبعدين طلع ورقة مطوية وحطها قدامي من غير كلمة.
سألته باستغراب: "إيه ده؟"
رد بابتسامة غامضة: "اللي اتفتح زمان… لسه ما اتقفلش."
فتحت الورقة، والخط واضح قوي:
"الطريق لسه ما بدأش… العنوان: عمارة 47."
إيديا سقعت، قلبي اتنفض… الرقم ده بيطاردني من سنين. إزاي هو عارف؟
قضيت الليل صاحي. الورقة قدامي كأنها بتناديني، وكل ما أغمض عيني أسمع صوت المعلم بيقول "اللي اتفتح زمان…"
وفي أول ضوء للصبح لقيت نفسي ماشي في شارع جانبي من شارع شريف باشا، قدام عمارة رقم 47.
الواجهة قديمة جدًا، الطوب باين من تحت طبقة دهان باهت. باب خشب كبير دهانه متقشر، ورقمه محفور على لوحة نحاس قديمة خضراها الصدأ.
المدخل ريحته رطوبة، والسلم الرخامي متشقق. لمبة صفرا ضعيفة بتنور وتطفي كأنها هتخلص عمرها.
طلعت للدور التالت. وقفت قدام باب شقة نصه مكسور. من جوه خارج نور خافت أزرق، عامل زي نور تليفزيون قديم شغال على قناة مش موجودة.
مديت إيدي وفتحت الباب.
الغرفة شبه فاضية، بس في النص ترابيزة صغيرة فوقها ظرف بني قديم. قربت… مكتوب على الظرف بخط شبه اللي في الورقة الأولى:
"خطوتك الجاية… هتغيّر حياتك للأبد."
فتحت الظرف. جواه مفتاح معدن تقيل شكله غريب، ومعاه رسمة لخزنة قديمة وعليها نفس الرقم: "47". وتحت الرسمة سهم صغير مكتوب تحته: "القبو."
نزلت القبو. باب حديد ضخم استجاب للمفتاح بسهولة… كأنه كان مستنّيه من سنين.
جوه، لقيت الخزنة السودا. حجمها كبير، سطحها خشن وبارد. مجرد وجودها خلاني أحس إن المكان بيتنفس تقيل.
وأنا بقرب منها سمعت صوت نفس ورايا. جسمي اتجمد، لفيت ببطء…
لقيت راجل كبير واقف. شعره أبيض، ووشه كله تجاعيد… لكن الملامح هي هي. نفس عيني… نفس شكل وشي… كأني ببص على نفسي بعد سنين طويلة.
ابتسم ابتسامة تقيلة، وقال بصوت هادي عميق:
– "بتدور على الحقيقة؟ الحقيقة قدامك من زمان."
قرب خطوة… قلبي كان هيخرج من صدري. قلت بصوت مخنوق: "إنت مين؟!"
وقف قصادي تمامًا، بصلي في عيني وقال كلمة واحدة:
– "أنا… إنت."
النور في القبو ضرب فجأة في عيني. الدنيا لفت. حسيت الأرض بتسحبني جوه.
صحيت لقيت نفسي قاعد في القهوة. الفنجان قدامي زي ما هو، والمعلم واقف بعيد. المرة دي ما اتكلمش، بس نظرته كانت كافية… عارف كل اللي حصل.
مديت إيدي في جيبي… لقيت المفتاح الحديد موجود. تقيل وبارد زي ما هو.
لو الراجل اللي شُفته تحت كان أنا فعلًا… يبقى اللي جاي مصير مكتوب، ولا لعنة اخترتها بإيدي؟
اترك تعليق