بقلم - محمود البدوي
٢٥ يناير 1952 سيظل ذكرى للوطنية المصرية بكل تجلياتها ، ويظل الاحتفال به احتفالاً بقيم التضحية والفداء والجدعنة المصرية ، وانتصارا للعدالة والحرية والاستقلال وكل القيم النبيلة التي آمنت بها مصر وناضلت من أجلها ، فلم يكن صمود جنود الشرطة المصريين في الإسماعيلية أمام جحافل جنود الاحتلال ، ودباباتهم ومدرعاتهم ، رافضين الاستسلام ومصممين على المقاومة ، مجرد وقفة اعتيادية لجنود اقسموا على حماية الوطن والزود عن آمن مواطنيه ، بل أنه كان معبرًا عن حقيقة معدنهم الصلد والأصيل أيضًا، لم يكن إلا تعبيرا عن ضمير مصر كلها وهي تقاوم الاحتلال وتطلب الاستقلال ، وتضحي بأرواح أغلى أبنائها في معركة الكرامة .
فالشهداء الذين إرتقوا في هذا اليوم كانوا يرسمون بالدم طريق جديد يثأر للشهداء ، ويحرر الوطن ، ولم يكن رجال الشرطة البواسل في ملحمة الإسماعيلية ليترددوا ولو للحظة واحده ، عندما قرروا أن يقدموا أرواحهم فداء لأمن الوطن ، فمصر تستحق ، ولا يمكن لمحتل أو عدو أن يكسرها ، أو تركع لأحد إنها قمة التضحية من أجل كرامة مصر ، ووقف الرجال مواقف العظماء لا ينحنون إلا لله ، قاوموا بأسلحتهم الشخصية في مواجهة أعتى الجيوش أنذاك ، صمد الرجال ببسالة منقطعة النظير في مواجهة الدبابات والمدرعات والمجنزرات والمدافع ، وسطروا بدمائهم الذكية ملحمة ستعيش مخلده ابد الدهر يتناقلها جيل من بعد جيل ، فكُتب الخلود لهم لأنهم نسوا انفسهم ، نسوا أهلهم وابنائهم وأزواجهم وأحبابهم، ووضعوا صورة مصر أمامهم ، فقط مصر واسمها وشرف العسكرية التي حملوا لوائها، والقسم على حماية الأرض والعرض ، وحتى بعد أن نفدت ذخيرة الفرسان ، لم يحققوا للعدو رغبته في استسلامهم ، فنالوا احترامه وتقديره وتحيته ، وحظوا باحترام العالم ، لذلك لم ينسى التاريخ حكايتهم رغم مرور 73 عام على ملحمة الإسماعيلية ، ومنحهم عيدًا خالدًا يحتفل فيه المصريون بالساهرين على أمن الوطن والمواطن ، وتخليدًا لأرواح وذكرى هؤلاء البواسل تم إقرار هذا اليوم كالإجازة رسمية لأول مرة بقرار من الرئيس المصري الأسبق / محمد حسني مبارك في فبراير من عام 2009م ، باعتبار هذا اليوم إجازة رسمية للحكومة والقطاع العام المصري، تقديرًا لجهود رجال الشرطة المصرية في حفظ الأمن والأمان واستقرار الوطن، واعترافًا بتضحياتهم في سبيل ذلك .
وها هي الذكري ال 73 تحل علينا وما زالت العقيدة الشرطية راسخة ولم تتغير ، مازالت تردد ترانيم التضحية والفداء والبذل والعطاء من أجل مصر ، ما زال الرجال ساهرين على أمن الوطن والمواطن ، ومازالوا يواجهون الموت والأخطار في كل لحظة من يومهم وهم يتصدون بفدائية لمجرمين وإرهابيين وأعداء للوطن في مواقع ومجالات متنوعه ومتعددة ، ما زالوا يقتلعون بدأب جذور الخوف والفزع ، لنشر ثمار الأمن والأمان والاستقرار ، وتقديم العديد من الملاحم والبطولات والمواقف المشرفة للوطن.
ونذكر انفسنا بتفاصيل تلك البطولة التي يجب أن لا نتوقف عن روايتها وتعليمها لأبنائنا جيل بعد جيل ، هذا التاريخ الي مثلت فيه معركة الإسماعيلية إحدى فصول النضال الوطني الذي ثار كالبركان إثر إلغاء معاهدة 1936 التي كانت قد فرضت على مصر أن تتخذ من المحتل وليا لها ، ليُفرض عليها عبء الدفاع عن مصالح بريطانيا ، وتعاني غارات الجيش المحتل التي هدمت الموانئ وهجرت المدن .
وبعد إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها ، حتى ثارت الحركة الوطنية مطالبة بإلغاء المعاهدة وتحقيق الاستقلال ، وما كان من حكومة الوفد إلا أن استجابت لهذا المطلب الشعبي ، وفي الثامن من أكتوبر 1951 أعلن رئيس الوزراء مصطفي النحاس إلغاء المعاهدة أمام مجلس النواب .
وفي غضون أيام قليلة نهض شباب مصر إلى منطقة القناة لضرب المعسكرات البريطانية في مدن القناة ، ودارت معارك ساخنة بين الفدائيين وبين جيوش الاحتلال ، وفي الوقت الذي ترك أكثر من 91572 عاملاً مصريًا معسكرات البريطانيين للمساهمة في حركة الكفاح الوطني ، كما امتنع التجار عن إمداد المحتلين بالمواد الغذائية ، الأمر الذي أزعج حكومة لندن فهددت باحتلال القاهرة إذا لم يتوقف نشاط الفدائيين ، ولم يعبأ الشباب بهذه التهديدات ومضوا في خطتهم غير عابئين بالتفوق الحربي البريطاني واستطاعوا بما لديهم من أسلحة متواضعة أن يكبدوا الإنجليز خسائر فادحة.
وشهدت المعركة تحالف قوات الشرطة مع أهالي القناة ، وأدرك البريطانيون أن الفدائيين يعملون تحت حماية الشرطة ، فعملوا علي تفريغ مدن القناة من قوات الشرطة حتى يتمكنوا من الاستفراد بالمدنيين وتجريدهم من أي غطاء أمني ، ورفضت قوات الشرطة تسليم المحافظة ، رغم أن أسلحتهم وتدريبهم لا يسمح لهم بمواجهة جيوش مسلحة بالمدافع.
وفى صباح يوم الجمعة الموافق 25 يناير عام 1952 قام القائد البريطاني بمنطقة القناة (البريجادير أكسهام) واستدعى ضابط الاتصال المصري ، وسلمه إنذارا لتسلم قوات الشرطة المصرية بالإسماعيلية أسلحتها للقوات البريطانية ، وترحل عن منطقة القناة وتنسحب إلى القاهرة ، وما كان من المحافظة إلا أن ترفض الإنذار البريطاني وأبلغته إلى فؤاد سراج الدين ، وزير الداخلية في هذا الوقت ، والذي طلب منها الصمود والمقاومة وعدم الاستسلام ، فاشتد غضب القائد البريطاني في القناة وأفقده قرار الرفض أعصابه ، فأمر قواته بمحاصرة قوات شرطة الإسماعيلية وأطلق البريطانيون نيران مدافعهم بطريقة وحشية لأكثر من 6 ساعات ، في الوقت التي لم تكن قوات الشرطة المصرية مسلحة إلا ببنادق قديمة الصنع .
وحاصر أكثر من 7 آلاف جندي بريطاني مبني محافظة الإسماعيلية ، والثكنات والذي كان يدافع عنهما 850 جنديا فقط ، مما جعلها معركة غير متساوية القوة بين القوات البريطانية وقوات الشرطة المحاصرة ، التي دافعت ببسالة عن أرضها بقيادة الضابط / مصطفى رفعت ، حتى سقط منهم خمسون شهيدًا ، والعديد من الجرحى الذين رفض العدو إسعافهم ، سقط الرجال بين قتيل وجريح بينما نهض العالم كله ليشيد ببطولتهم التي جعلتهم حديث العالم كله ، بل ومضرب الأمثال في الفداء والوطنية وبذل الروح في سبيل استقلال وحماية الوطن.
وختاماً أقول لرجال الأمن المصري البواسل : إن الطريق لم ينته بعد ، فمازالت أمامنا تحديات صعبة ، لعل أخطرها محاولات جماعات الظلام والشر إعاقة هذا الطريق الذي مشيناه وحققنا فيه نجاحات وإنجازات أقرب إلى المعجزات ، تلك الجماعات التي تسعى الي نشر الإرهاب وترويع مجتمعنا الآمن ، متوهمين بأنهم قادرون على تخويف المصريين ، او حتى تعطيل او إعاقة مسيرة تنمية وطنهم المنشودة ، إلا أنهم لا يدركون حقًا مدى قوة وصلابة معدن هذا الشعب ، فجميع ربوعه خط أحمر بجهود أبنائه المخلصين من شعب وشرطة وجيش ، فكلهم جنود بواسل في معركة تنمية وحماية وبناء مجد هذا الوطن العظيم مصر .
اترك تعليق