بقلم د. أحمد الوحش
"البحر الهادئ لا يصنع بحارًا ماهرًا"… لقد واجه الآباء المؤسسون لهذا التطور الذي نعيشه أمواجًا عنيفة، وظروفًا غير مواتية للنجاح كادت تعصف بكلِّ شيءٍ حاولوا صنعه، لم تكن هناك أموال كافية، أو وسائل مواصلات حديثة، أو كهرباء، أو سيارات، أو هواتف محمولة، وكانت الحاجة لحل مشاكلهم هي أم الاختراع.
كان يومهم الطويل ذا وتيرة بطيئة تسمح لأذهانهم بإعادة ترتيب أفكارها، ولم يكن التباطؤ في الحياة فقط بل في تلقي المعلومات، وسوق العمل، وكسب الأموال، وهو ما اعتمد على السعي الجاد للتعلم، والعمل الدؤوب، وخبرات متراكمة قد تحتاج إلى عشرات السنين من التجارب، وهو ما يعكس جودة هذا التطور، والأسس القوية التي بُني عليها، وسيكولوجية الأجيال التي عاصرت الثورة الصناعية، وما بعدها، فتلك النقلة غير المسبوقة بمثابة قطع سنوات ضوئية من التطور.
على الجانب الآخر يواجه الأجيال الحالية عدوًا لم يكن في الحسبان؛ حيث لم يتمكنوا من تطويع هذا التطور لصالحهم، وهو ما يعكس خمولهم، فعلى سبيل المثال الآلة الحاسبة تستطيع إجراء عملية حسابية لفئة المليار في لحظات، وهو ما كان يتطلب أيامًا من العمل الحسابي، وهو أمرٌ مفيد للغاية، لكن للأسف صرنا نستخدم الآلة في حساب عمليات جمع بدائية مثل (٥+٨+٣)=...
اتجهت عقول الشباب إلى المعلومات المختصرة السريعة، فأصبحت المقالات العلمية المفصلة، والمراجع الكبيرة غير مرغوب فيها، وأصبحنا نقرأ عناوين المقالات؛ لنستخلص منها النتائج، وهو ما يدل على كارثة علمية خطيرة، وهو السبب ذاته الذي أجبرني على اختصار مقالي هذا، وكذلك سوق العمل أصبح كاستخدام التطبيقات، والشركات الافتراضية غير الموجودة على أرض الواقع، وكسب الأموال بأي طريقة بغض النظر عن مصدر تلك الأرباح.
لا يعني ذلك بالضرورة أن التطور سيء، لكن سوء استخدامه هو ما أوصلنا إلى ذلك، فلم يعد الهدف منه ابتكار حلول جديدة للمشاكل، إنما إيجاد بدائل لكلِّ شيء موجود بالفعل، ولا يعني وجود بديل أنه يوجد اختلاف، لكن ارتبطت سيكلوجية الفرد، والمجتمع بالقيمة المادية للمنتج -التي تحدد قيمة الفرد في منظور المجتمع- لا القيمة الفعلية، فعلى سبيل المثال ستجد آلاف الأشكال، والألوان، والماركات العالمية، والمحلية من الصابون يتراوح ثمنها من نصف دولار إلى ١٠٠ دولار لكن فيما يستخدم؟ وما الفرق بينهم؟
الحقيقة يظل الصابون باختلاف الماركات في النهاية صابونًا يصنع الرغوة؛ ليستخدم في التنظيف، ولا يوجد أي فرق فعلي بينهم، وكذلك السيارات، والملابس، وغيرها.
لقد وصلنا إلى مرحلة من الجمود الهدف منها اشباع الرغبة في امتلاك القيمة ببدائل أكثر تكلفة يقوم على أساسها التصنيف الطبقي في المجتمع، وهو ما يعكس فكر الأجيال الحالية، فأصبحت السيكولوجية المجتمعية، والفردية تقتصر على القيمة المادية فقط.
بينما في الماضي كان الفرد يوجه علمه، وعمله إلى ما يفيد المجتمع؛ لأن المجتمع كان يقدر العلم، والإضافة الحقيقية، لكن اليوم أصبح كل ما يشغل الفرد هو التكسب السريع بشتى السبل بغض النظر عن الاكتراث بنظرة المجتمع؛ لأن المجتمع نفسه تغيرت سيكولوجيته الجماهيريه.
انقلب كل ما صنعناه ضدنا، فأصبحت الأجيال الجديدة تعيش حياة سهلة لدرجة أدت إلى نشأة أجيال من المعاقين الأشبه بالمسوخ الذين لا يملكون عقولاً للتطوير، أو لإثبات الذات، ولم يعد هناك شغف لتحقيق أي شيء، ولم نعد ماهرين حتى في الحرف اليدوية كما كان أباؤنا، وأصبح المجتمع غير مشجع لابتكار ما هو جديد كأنه اكتفى بما وصل إليه.
عزيزي الشاب، إن السعي وراء الكسب السريع لا يعني النجاح، إنما يعني تغير سيكلوجيتك صوب الاتجاه الخاطئ…
واعلم أن عدو اليوم أصعب بكثير من عدو الأمس؛ حيث أصبح الجهل وليدٌ من رحم العلم، والفشل وليدٌ من رحم النجاح، والانهيار وليدٌ من رحم البناء، فيا لها من مفارقة!
اترك تعليق