ملخص ما نشر
بدا الداكر في غير السحنة التي ألف لقاءه بها. يصدر عن عينيه بريق حرك الخوف في داخله. أخذه الكلام، تدافعت الكلمات من فمه دون أن يلتقط أنفاسه، عن الفتوات والمساعدين والمجيرة والحب والطاعة والعراك والتضحية. أخفق فى إيجاد الكلمات التي ينبغي أن يقولها، أو أنها تكسرت على شفتيه، فلم يستطع نطقها.
لم تسأل نفسها عن شعورها تجاهه. عرفت أنها لن تستطيع العيش ما لم تجد المساندة، هي ليست وحدها في غابة الفتوات. في حياته ما يرضي تصورها عن المشاركة والحماية، أومأت فعرض زواجهما. لا موضع للمال. كلاهما يمتلك ما يغنيه. تشاوره في المشكلات التي تصادفها، يعينها في مواجهة ما يفاجئها من أفعال الفتوات والبوليس. تدفعه إلى خوض المعارك دفاعًا عن حياتهما المشتركة.
حط على نفسه هدوء لم يتوقعه:
- لا أحب التدخل في عملك. هذه حياتك.
وتكلف ابتسامة:
- في ابتعادي عن الشقة تخرجين دون سؤال وتعودين.
واتسعت ابتسامته:
- ربما بدأت في إلقاء الأسئلة!
وهي تزيل الكحل من رموشها:
- العمل ليس عيبًا. البطالة هي العيب!
أزيل طلاء النوافذ، وسواتر الطوب الأحمر من أمام البيوت. غابت العتمة، أزيحت الستائر، فوضحت الرؤية خلف الجدران.
الشقة تشغل الطابق الأول في بيت من طابقين، بوابته من الحديد المشغول، ونوافذه خشبية خضراء، على ناصية شارعي طيبة وتنيس بكامب شيزار. موضع لاجتذاب النساء من الرمل وخارجه. حتى السائرات على الكورنيش يجدن الخفاء داخل البيت. تدعو الشاب – بإيماءة رأسها - إلى اللحاق بالمرأة في الغرفة المواربة. الباب الصغير يفضي إلى طرقة، تنتهي إلى قاعة واسعة، تتوسط أبوابًا مفتوحة، ومواربة، ومغلقة.
يتبع المرأة التي لا يعرفها إلى إحدى الغرف على جانبي القاعة، ما يدفعه لقاء إقامته في الغرفة، يتضاعف المقابل إن حدد امرأة تشاركه الوقت، يختارها بالاسم لعلاقة سابقة، في البيت، أو في بيوت أخرى.
زوار الشقة من طلبة الكليات والمعاهد في الأزاريطة وكامب شيزار والشاطبي والإبراهيمية وكليوباترة الحمامات وسيدي جابر. يستبدلون الشقة بالتردد على مواخير كوم بكير. إذا كانت إقامة النساء في كوم بكير تستلزم الفحص الدوري، فإنها توصي بضغطة قبضة اليد الفاهمة على العضو الذكري، وتحسس الأصابع ما بين ساقي المرأة، إلى خلو المترددين على الشقة من الأمراض السرية.
قال:
- أول تردده على الشقة؟
- طياري.
- طردته؟
- لن أفرش له الرمل!
- ما فعلته هو الصواب!
فسرت جبهته المجعدة بأنه يفكر فيما لم يفصح عنه. تعرفت في حياتها إلى رجال كثيرين، ظلوا في ذاكرتها، أو طواهم النسيان. ليس في بالها الزواج، لكن المرأة الوحيدة تريد من يحميها. اطمأنت إلى قبولها زواج السبعاوي في اختفاء النظرات المقتحمة، وكلمات الغزل التي تلاحقها.
لم يكن الزواج - بعد وفاة زوجها - يخطر لها في بال، ولم يكن السبعاوي هو الرجل الذي تأمله زوجًا. تعدد رفضها لفتوات من أحياء الإسكندرية. السبعاوي ورقة أخيرة في شجرة الفتوات، إذا لم تقبل وصاله فقد لا تجد من يستر حياتها، يحميها. معارك الفتوات ألقت بالظلال على حياتها، اقتحمها التخويف والتآمر والخيانة والتوقع والانتقام.
وضعت عينها على الداكر.
ما جرى في السيالة يتيح المساواة بين الكفتين، ينشغل بحياته، لا شأن له بحياتها، يساندها في غابة الفضول والتدخلات والملاحظات والأوامر والنصائح والمكائد والتدبيرات. ترفض الإملاء والسيطرة.
وشى ارتجاف صوته بانفعاله.
- أسعد الناس من تقبلينه زوجًا.
دفعته في صدره بأطراف أصابعها:
- لتكن أسعد الناس.
همس فى لهجة مراوغة:
- لي مطلب وحيد، أن تلزمي البيت.
فكرت في أن تفتح الشقة لعساكر الإنجليز، تحصل على المال والحماية. مفاجأة قرب انتقال المعسكرات إلى منطقة القناة، أملت التلفت حولها.
مجرد التفكير في أن تهجر حياتها، لا يدور لها ببال. دوامة طوق النجاة رجل يلبي مطالبها، ولا تلزمها أوامره، تخضع مكانته لإرادتها. تصدر الأوامر، يستجيب بلا سؤال، ولا مناقشة، يخلع نعليه في عتبة البيت قبل أن تأذن له بالدخول. رفضت الكثيرين، عرض عبد الرحيم السبعاوي ما أرادته، وأومأت إليه. حياتها ملكها، لا يسأل، لا يتدخل. فقط يعينها بملاحظاته ونصائحه ومؤانسته.
عاشت توقع اقتحام البوليس البيت. يقتادون من فيه إلى الحبس. هي مستأجرة الشقة.
هل تفلت؟
همست كأنها تحدث نفسها:
– لن يشفق عليك إلّا من يشاركك ظروفك.
وكسا ملامحها تأثر:
- أنا زوجتك. عليك واجب حمايتي.
وغامت عيناها فى نظرة ساهمة:
- لدي من المال ما يغنيني.. أحتاج من أعتمد عليه!
ورمقته بنظرة ساخطة:
- ألا تشعر بالغيرة؟
ربت صدره براحته:
- لا غيرة أمام الثقة.
وغالب صوته حشرجة:
- إذا شئت فإني أكلف ولدًا بمنع دخول البيت إلّا لسكانه!
قرأ في عينيها ما لم يكن يعرفه. زمت شفتيها، فاكتسى وجهها قسوة غريبة. ربما حدّست أنه يرفع يده عن المشكلات التي تعانيها. المعاشرة نبهته إلى ميلها للعصبية في تصرفاتها وكلامها. ربما نطقت تعبيرًا، أو مثلًا، يربكه، فيصمت.
اختلطت فى ذهنه صور غير مترابطة من رفع الشوم، وقعدة المجيرة، وتناول الغداء في مطعم الملك فاروق، الخيري، وتكوره للنوم في قهوةـ كشك0
يداخله في ما يشبه الومضة، ثم يختفى. تعمد، فلا يظهر على وجهه، أو نبرات صوته، ما يشغله. حاول أن يستجمع أفكاره ليقول ما يقنعها.
غالب التردد:
- إذا كانت فرصة الابتعاد عن هذا العمل متاحة.. فلماذا نصر عليه؟!
أطل فى عينيها غضب:
- هل أقف بعربة فول على ناصية كامب شيزار؟ هل أقعد بمشنة سمك؟
استطردت في غضبها:
- هذا هو الرزق الذي قسمه الله لنسوة البيت!
- أنهى القانون هذا العمل.
- حظرت الحكومة علنية كوم بكير. نحن نعمل في السر.
وهزت سبابتها أمام وجهه:
- فضّلتك على رجال يفعلون أي شيء لإرضائي.
اختارته زوجًا من بين الفتوات الذين عرضوا الزواج، رفضت حتى معلمه الداكر.
فح صوت في أذنها:
- لدي وفرة ترضيك.
تظاهرت بالدهشة:
- فلماذا تترك امرأتك تخونك؟!
توعد أبو العلا فتوة العصافرة، بأنه سيقذفها بماء نار. رفضت عرضه أن يتولي مساعدوه حماية الشقة.
هل يحميها من غرب المدينة؟
ارتاحت لقول السبعاوي:
- من يهدد بماء النار بلطجي وليس فتوة!
يسّر موافقتها على عبد الرحيم شرطها بقاء العصمة في يدها. خذلها زوجها، فلن يخذلها رجال آخرون، لن يجتذبها طعم سنارة أي صياد.
لماذا لا تظل صيادًا ينتقي صيده؟
هي وافقت بإرادتها، وهي تنهي متى أرادت.
النهاية يذكرها الجميع.
بعد نهاية الحرب بأقل من شهرين. خناقة ميدان الخمس فوانيس: شك مقالب، ضرب روسيات، شلاليت، كراسي متطايرة، شوم، خناجر، سكاكين، بلط. لاذ من فاجأتهم المعركة بمقام سيدي علي تمراز، قبل أن يغلق الجامع أبوابه. أطلت الوجوه من النوافذ والشرفات، ومن فوق الأسطح، وإن ظلت أبواب البيوت مغلقة. حتى باب جامع علي تمراز المطل على ميدان الخمس فوانيس ظل مغلقًا, ودخل الناس لصلاة العشاء من الباب الجانبي بشارع رأس التين، قبالة محطة الكهرباء، ومقام الولي محمد شرف الدين. حتى الأسوار المحيطة بالبنايات جلسوا فوقها، واستغرقتهم المتابعة.
وقفت عربة لوري أسفل الفوانيس الخمسة، المحطمة. نزل منها العساكر، على رءوسهم الخوذ، وفي أيديهم الهراوات. أحاطوا بالميدان الذي خلا تمامًا إلا من المتعاركين. اليوزباشي ماجد العطوي ضابط المباحث الجديد - بين دهشة الناس، وتردد العساكر والمخبرين - دفعهم بعصاه واحدًا واحدًا، إلى عربة البوكس. انطلقت بين الأعين المندهشة التى كانت ترقب من بعيد. من يحمل شومة، سيفًا، مطواة، تتهمه الشبهة أو الظنة، يدفع إلى غرفة الحجز.
تناثر على الأرصفة، وفوق الأسطح، وفي مداخل البيوت، عساكر يحملون العصي والدروع. مضى العساكر والمخبرون وراء بقايا المعركة من الفتوات، في الشوارع والحواري والأزقة المتصلة بالميدان. قلبوا عربات اليد، ربما تخفي تحتها من يريد الفرار. قبضوا على العشرات من الذين شاركوا في المعركة، أو لمجرد الاشتباه. اقتيدوا عبر شوارع بحري، قيدت الأيدي في حبل غليظ، طويل، أوله وآخره في يد عسكري، وعلى جانبيه عساكر في أيديهم بنادق. تابعت الأعين تعثر خطواتهم إلى قسم الجمرك. لفظهم القسم بعد ثلاثة أيام، إلى الشوارع والأزقة والقهاوى، لا معايرة بكلمة، أوجر لخناقة، أو محاولة لفتونة.
جرت بعدها معارك صغيرة في قهوة الزردونى، فى ساحة المعهد الديني، في المسافرخانة، في الباب الخلفي لجامع البوصيرى، على ناصية شارع الميدان، أول الطريق إلى المكس. صفافير العساكر تعلو في كل مرة. يأتي ماجد العطوي بعصاه التي لم تكن تفارقه، يطيح في المتعاركين دون تمييز، يعاونه العساكر والمخبرون بالعصيّ وكعوب البنادق، يدفع المتعاركين - في النهاية - إلى البوكس.
قال البكباشي أسامة دويدار:
- قيمة هؤلاء المجرمين في صبيانهم.
ووشى صوته بنفاد الصبر:
- إذا عزلنا الصبية عن المعلمين فسينتهي كل شيء.
أعلنت الحالة ج في مديرية الأمن، وفي أقسام الإسكندرية. زادت دوريات الميادين والأسواق والشوارع والساحات والأزقة والمقاهي وسرادقات الموالد، سدت الطرق بالحواجز والكردونات والمتاريس. تناثرت الأعين في النواصي والشوارع الجانبية والساحات الخالية، نشط المرشدون، حرصوا على أداء الصلوات في المساجد والزوايا، طالت جلساتهم في المقاهي، يلتقطون الأسماء من ثنايا الكلام. كبس العساكر على قهوة حبلص برأس التين، ساقوا من فيها إلى القسم، يصل سواعدهم حبل غليظ.
قال الشيخ زين عبد الحي:
- لا أريد رؤية الأمن، يهمنى الإحساس به.
قال البكباشي أسامة:
- الناس يهجرون الإسكندرية.
وقلب شفته السفلى:
- يتركونها للفتوات!
تلاشي الفتوات غاية، ما تمناه ربيع أبو العزم والشيخ زين عبد الحي، والبكباشي أسامة دويدار، والقائمقام وصفي عبد الكافي، والدراويش الذين عادوا إلى الميدان، يقتعدون رصيف جامع المرسي، يندسون في حلقات الذكر، يطوحون الرؤوس والأجساد، ينشدون سيرة الرسول، يرددون الأدعية، والأوراد، والابتهالات، وأحزاب الشاذلية، يضوعون البخور، يحصلون على الوجبات في مواعيدها.
توزعت النظرات بين المهابة لليوزباشي ماجد العطوي، والشماتة في مساعدي الفتوات، واختلاط الثقة والحيرة والخوف وتوقع الآتي.
قالت نبيهة:
- سألني عبد الغني البقال صباح اليوم: هل المعلم عويس على سفر؟
نطق الاهتمام في عيني سعدية:
- سألك؟
- يريده في خدمة.
- ماذا كان جوابك؟
- قلت: لا أعرف:
ثم وهي تطقطق - بعفوية - أصابع يدها:
- أنا لا أعرف بالفعل.
زارته في بيت النبي دانيال.
وصف إقامته في البيت بأنها استراحة محارب، اختار العزلة، لكنه لن يهجر عمله. ثم عرفت أنه نزل على ضغط الحوادث، اعتزم تبديل سيرته، يصنع ما لا يؤاخذ عليه، لا يعاني مطاردات البوليس.
تنهد مستسلمًا:
- إن سئلت فقولي: يزور قريته في الصعيد.
يروعه أن يتبدل ما اطمأن إليه، التأمت حياته، أزال الله من أمامه العقبات. يا دوب يجاوز الحزن والخيبة وفقدان الأمل واليأس والسقوط في ما يصعب تصوره. أخذ من كل مساعد توقيعًا، أو بصمة، على اعتراف بالمسئولية عن الجريمة التي ارتكبها، المساعد الواجهة يواجه التوقعات الغائبة.
زمت نبيهة شفتيها كمن تمنع نفسها من القول:
- هل المعلم بخير؟
- لو أصابه - لا قدر الله - مكروه.. هل أنتظر حتى يسأل عبد الغني البقال؟
آخر معارك الفتوات هي أول تعرفي، وآخره في الوقت نفسه، إلى ذلك العالم الحافل بالصراع والقوة والشهامة والمروءة والخيانة وغيرها من المشاعر والتصرفات الإنسانية، تتباين في مسمياتها، لكنها تعبر عن الاختلاف بين من أهلتهم قدراتهم للفتونة، ومن جعلوها وسيلة للابتزاز والقهر.
عاب السبعاوي على بقية الفتوات تخاذلهم عن درء الخطر الذى يتهدد الجميع. دنيا الفتوات على حافة الزوال، غاب الزمن الذي كانوا يسيطرون فيه على حياة الناس. لن يحصل الفتوات على حقهم في الإتاوات، ستذهب إلى المخبرين والمرشدين وعساكر البوليس.
هل ينتهي كل شيء عند هذا الحد؟ هل تغيب الفتونة والشومة والسيطرة والكلمات التي لا ترد؟ هل تسلم الذاكرة منمنماتها للنسيان؟
خلت الشوارع والميادين من مساعدي الفتوات والشوم والشتائم والمشاجرات. غابوا عن السرادق في ميدان الأئمة، الراوي يقصر إنشاده على تذكرة سيرة الرسول، ومناقب المرسي أبو العباس. ربما وصل نسب الولي بشجرة وارفة تنتهي إلى آدم أبي البشر.
تكاثرت السرادقات في جوانب ميدان الأئمة والشوارع الجانبية، لكل سرادق منشده وناسه: العناترة، والهلالية، والزناتية، والظاهرية، يعيد، ويزيد، في السيرة التي تهم رواد السرادق. علت الأشاير والبيارق والأعلام الملونة، وتجاور السيرك والمراجيح وأكشاك الطهور وحلقات الذكر وباعة البخور والسبح والمناديل المحلاوى والمصاحف وكتب السيرة والنشوق والطواقى المنقوشة.
أصدرت الحكومة قانون إلغاء البغاء. طالبت سعدية عبد الرحيم السبعاوي بأن يحمى أعوانه بيتها. خافت النسوة من القانون. تسربن من الشقة التي استأجرتها سعدية. لم يعد إلًا أربع نساء، ألزمتهن الظروف القاسية بالبقاء في البيت.
ما حدث أربك عويس الداكر، اختلطت الأمور حد الفقد. لم يعد هو الفتوة القديم، يشخط، وينطر، ويتقاضى الإتاوات، ويفرض المعلوم، ويدخل ويخرج، فلا يصاب بخدش. تطلب منه الأمر بشراء حاجاتها من سوق راتب، أو شارع الميدان، مرافقة النسوة إلى بيوت الزبائن فرارًا من ملاحقة البوليس. لم تكن تأذن بلقاء أحد داخل بيوتها. حتى الحساب يجرى بعيدًا، فلا يأخذ البوليس باله. وكان يكل إلى مرعي بيبي حمل حقائبها إذا غادرت البيت في مشوار. تزوجته ليحميهاـ وتزوجها لتثبيت مكانته بين الفتوات.
علت الهمسات بأنه لا يقدم على فعل إلّا بعد أن يصغي إلى ما تراه سعدية. أدرك المهانة التي وصل إليها. اعتبره الناس مجرد زوج لسعدية. حتى اسمه يغيب إذا جاءت سيرة الفتوات. تضاءل في حياتها بما يؤلمه.
ليست أجمل من رآه من النساء، يريدها، لا لأنها جميلة، وإنما لأنه أحبها، لا تختلف عن النساء، لكنها استولت على مشاعره بما لم يحدث مع من يصغرونها. اعتاد تمسيدها بأصابعه. يقبل جسدها، كل جسدها، من الشعر المسدل على الظهر إلى أصابع القدمين. حفظ التضاريس، النتوءات والانبعاجات والثنيات. حتى الشامة الصغيرة أسفل السرّة حفظ موضعها. رفض أن تمتطيه:
- أرفض أن تركبني امرأة.. اعتدت أن أركب النساء.
ثم لم يعد يشغله أن تكون فوقه أو تحته. يترك لها القياد، فتعتليه. ارتضى منها ما لم يتصور أنه يرتضيه. مال على قدمها – كما فعل من قبل – ليقبل قدمها. فاجأته برفس وجهه. انتتر – بالمفاجأة – إلى الحائط.
قال له البكباشي أسامة دويدار مأمور قسم الجمرك:
- تهمتك ليست الضرب.
وقلب أوراقًا على مكتبه:
- أنت متهم بإدارة بيت للدعارة.
الدعارة!..
لو أن البوليس صدق التهمة، ومال إلى الإدانة.
هل يتهم بجريمة لم يرتكبها؟
توالت أسئلة البكباشي دويدار وهو يقلب صفحات الملف أمامه.
استغرقته الأفكار، ملأت نفسه تمامًا. تراقص في رأسه ما لم يتصوره من الهواجس والخوف، فلا يعرف كيف يتصرف.
دهمه شعور بأنه لم يعد فى مقدوره فعل ما تأمله، ما تحرضه عليه. عانى حتى استقامت أحواله في الغابة الممتلئة بالأسود والنمور والفيلة والكركدن والذئاب والثعالب والجاموس الوحشى. لم يعد يملك ما يستطيع أن يفعله. الغلبة الآن للبوليس. الخطر الذي يتهدد الفتوات لا يقتصر على فئة بالذات، ولا حي في الإسكندرية، بل يشمل المدينة كلها.
قال البكباشي دويدار:
- هذا كلام سنحاول التثبت منه.
ثم وهو يمرر أصابعه فى ذقنه:
- إذا ثبت تورطك في ما حدث فسأقتلع عينيك!
ونقر على المكتب بإصبعه.
- إن كنت بريئًا فلا شأن لنا بك!
قذفها بنظرة سخط.
لم يعد المشهد أمامه - كما كان يراه من قبل – واحدًا، غاب التشابه، توالى الأيام ميز الملامح والتفصيلات الصغيرة. ليس فيها ما يثير حواسه، أو يشتهيه. ما يوقظ ذكورته. ذوى فى وجهها ما يشى بالنضارة، سوى عينين واسعتين، صافيتين. لم تؤثر الهالتان السوداوان حولهما على بريق النظرات. تحرص على إخفاء الشعر الأبيض بخضاب ظاهر، توصى به في سوق الدقاقين. يتألم لرؤيتها وهي تصحو، لا تستطيع أن تحرك مفاصلها، تعاني لأقل حركة، تبحث يدها عن دواء الضغط فوق الكومودينو، قبل أن تنزل من السرير، تقضي وقتًا طويلًا في تجلية وجهها. تدلكه باللبن، أو بالزيوت العطرية، أو ماء الورد، أو قشر الخيار، تجمله بمعجون الحسن يوسف، تأتي به نبيهة من زنقة الستات.
حاز ما حدث على تفكيره، أطال مراجعته، وتقليبه، وتأمله. اختيارها له هو اختيار للفتوة، ليس فتوة كازينو ولا شارع ولا حي، لكنه فتوة الإسكندرية. امتدت سطوته إلى كل الأحياء، حتى عابري الطريق أخضعتهم أوامره.
تراكمت الغيوم في السماء، فغابت الزرقة، تداخلت سحب داكنة تنذر بعاصفة، تعكرت مياه البحر بالطحالب والأعشاب، وبقايا الأشياء. صارت الحياة كابوسًا يتوق للاستيقاظ منه.
فطن إلى أن استقرارهما فى حياة واحدة أمنية مستحيلة. الفجوة بينهما واسعة. لم يعد السبعاوي صاحب الأمر، ترك الأمور كلها لسعدية، زالت أيام الفتوات، فلا يمتلك القدرة على إلقاء الأوامر، ولا تدبير المال. أشفق على نفسه من ملاحظات خضوعه لها، ما يهمه هو السيطرة، إملاء الأوامر والإخضاع وإسكات الأصوات الهامسة.
التقط العبارة، استعادها، أيهما يرفع ساقي الآخر؟
قال الصاوي حسن:
- لم أقل شيئًا.
وهو يغالب ما يمور فى نفسه:
- تراني غير جدير بالست سعدية.
وبآخر عزم قبضته:
- ربما تغيّر رأيك!
فقد القدرة على استيعاب ما جرى، أو الفض عما بنفسه. استعصت عليه المعانى، لم يجد ما يسعفه من الكلمات، عمى عن كل ما حوله. المحب قد يقتل نفسه لخيانة حبيبته، لكنه لا يقدم على ذلك الفعل إن ماتت الحبيبة.
لو أنها تموت!
هل يقتلها؟
وهو يعانى تمازج الحيرة والعجز.
- الحرب انتهت في العالم. طبيعي أن ينتهي زمن الفتوات.
وقال في تسليم:
- انتهى زمننا.. رأيي أن نفكر في حياة جديدة.
- أنت مثل الطبيب الذى ينهى مرضاه عما يفعله.
وعلا حاجباها الرفيعان:
- هذه حياتي. لا أسمح لأحد بالتدخل فيها.
وأشاحت بيدها أمام وجهها، تهش مالا يراه.
- دعك مني.. هل تقوى صحتك الآن على العمل؟
ثم في صوت كالدندنة:
مرات العليل شافت بلا جوزها.. نطت من الحيطان.
فوت المعنى. حدجها بنظرة تعكس الألم فى داخله:
- يمكنني العودة إلى الصعيد.. وشراء أرض نحيا من إيرادها.
لم يجد لكلماته صدى في عينيها، فلزم الصمت. يحزنه ما يحل عليه من الخمود والتبلد والشرود في ما لا يتبينه.
تمنى أن يستعيد ما فات، يبدأ حياته من أولها. يشغله في الحياة أن يحياها، ينسى، يتناسى الخلافات والمؤامرات والمكائد والترصد والمعارك والشدائد والأهوال.
أزمع أن يبتعد عن ذلك كله، أمر أتباعه بالابتعاد عن كل ما يثير، أو يجلب الأذى. يعيش حياته كما أعد لها.
شعر أنها ما عادت تعنى بالإصغاء إليه. لم يعد يطمئن إلى مشاعرها، ولا إلى ما تنوي فعله. حدق فيها بنظرة متسائلة، تمنى أن تقابل نظرته بالفهم، لكنها قاطعته وهي تحول رأسها:
- لا أنتقل من الإسكندرية.. ولا أغير الكار الذي أعرفه.
حدس مفاجأة فكرة الرحيل.
ماتت الكلمات على شفتيه. لم يستطع نطقها. صمت لحظات حتى يسيطر على انفعاله. الضباب غلف المرئيات، فلا تكاد تبين.
ماذا تضمر المرأة؟ هل تدفعه إلى فعل ما لا يريد؟ ما يرفضه؟
غالب الانفعال:
- كار الشؤم!
خبطت صدرها في تحسر:
- كأنك لم تكسب منه!؟
ارتعشت أهدابه:
- تتهمينني بالقوادة؟!
لونت صوتها:
- العفو يا سيد الشرفاء!
اختنق صدره بضيق، همه أن يتخلص منه، قاوم رغبة فى أن ينتف شعرة طويلة فى الشامة أسفل ذقنها، أمسك نفسه حتى لا يفتضح انفعاله، حاول فلا يظهر على وجهه، أو نبرات صوته، ما يشغله:
- من حق الرجل أن يصحب زوجته إلى حيث يقيم.
بصقت في عب فستانها:
- ـفإن رفضت؟
حدق في عينيها، يحاول تبين ما يدور في رأسها, ما تضمره. لو أنها بدّلت أفكارها، ودعته إلى فراق الإسكندرية. لو أنها عرضت الرحيل. ينفضان رأسيهما، ويمضيان بعيدًا. يبدآن حياة جديدة. هي زوجته، لكن خيط العلاقة بينهما أرفع من أن يراه، أو أنه تلاشى.
قال بهدوء أتعبه:
- يطلقها!
التفت المرئيات من حوله بضباب داكن، ينذر بعاصفة، محملة بالنيران. تعلقت عيناه بشفتيها، ينتظر ما لم يتوقعه.
ألقت برأسها إلى الوراء:
- عين المراد.. طلقني!..
رمقها بنظرة تنطوي على نفاد الصبر. أدرك أنه لم يعد لديه ما يقوله، لن يستطيع أن يقول ما اعتزم قوله. تلاشت الكلمات قبل أن تلامس شفتيه. لم يعثر على الكلمات، أو أنه وجد من الأفضل أن يصمت. لم يعد يطمئن إلى حقيقة مشاعره، إن كانت استسلامًا أم رفضًا، أم سخطًا، أم ثورة تسبق الانفجار. يدهمه - في أوقات متقاربة - قلق لا يعرف كيف يتخلص منه. المكانة التي تحققت له بين الفتوات تذوي في لقاءاتهما، تؤذيه التلميحات والعبارات الملمزة والمعايرة، كأنها تقصد إذلاله. آلمته بأشد مما يقوى على تحمله، النظرة الحادة، الكلمات القاسية، تعبيرات اليدين، تقلصات الملامح.
زاد تألمه لمّا عابت عليه إصغاءه لملاحظات خواصه وصبيانه، فهو لا يفكر بدماغه. السحب المتكاثفة ملأت سماء حياته، فغابت عنها الزرقة. يشعر أن سقفًا هائلًا يوشك أن يلامس رأسه. أيد خفية تلتف حول عنقه، تحاول خنقه.
غمغمة شفتيه وشت بالسخط فى داخله.
الدنيا من حوله مشوشة ومرتبكة. لم يعد ذهنه مشغولًا بشيء محدد، لم يعد قادرًا على التفكير في أي شيء، ملامح وأطياف تتقافز أمامه. تراقصت الكلمات على شفتيه فلم ينطقها، كتم ما لا يتبينه. توزعت مشاعره بين الحيرة والهواجس والمخاوف واليأس.
لا يذكر، أو أنه لم يلحظ متى انقطع الخيط الرفيع الذي كان يربط علاقتهما، لكن ذلك ما يشعر به. ذهب الانسجام والألفة. حل الضجر والملل والقلق والترقب والرغبات التي يصعب تلبيتها.
هو لا يحمل لها إلّا الكره.
لو أنه يتخلص من كل ما يربطه بها، يغلق حواسه، لا يرى شيئًا، ولا يسمع شيئًا، ينسى ما يذكره بها، ما حوله، يغسل يديه من الأمر كله.
خشي أنه لم يعد بمقدوره أن يواصل العيش بالكيفية التي أرادها. يسيران في طريق واحدة، لكن الهدفين مختلفان تمامًا، المسافة بين عالميهما واسعة. تملكه شعور بأن الدنيا تخاصمه، تضمر له، وتفاجئه بما لم يتصور حدوثه. الزواج ضيّع ما كان يفتقده، ما كان يأمله.
في لحظة، لا يذكرها، أدرك أن حياتهما المشتركة مستحيلة. لن يسترد نفسه إلّا بالفراق، بالتخلص منها، ومن العيش الضد لما فكر، ودبّر، ومد يده لالتقاط الثمار. ارتبكت حياته منذ ظهرت فيها، يتمنى أن ينتهى ما يحدث، يغيب، يخلفها وراءه، كأنها لم تدخل حياته.
أدارت وجهها، تهرب من الغضب في عينيه:
- أنا صنعتك، وأنا قادرة على تحطيمك.
أومأ كي لا تسترسل في كلامها. أحزنته الكلمات. انعكس الضيق على وجهه تجاعيد متلاصقة. تنبه إلى الحركة العفوية ليده، كأنه يتهيأ لضربها:
- ليس في حياتي ما أخجل منه.
عانى ليزيل القيود التى تحد من حركته. هي قيد يصعب إزالته.
هل يجتر ما عاناه؟ هل يصارحها بكل ما في نفسه، بكل شيء؟
لم يستيقظ فوجد نفسه فتوة. صبر، تعب، رضخ، رضي بما غالب الدمع لقسوته. أفلح في السير على الصراط. لم يسقط في الجحيم.
هل تأخذه هذه المرأة إلى مصير كاد يفلت من ويلاته؟ هل يختصر الحيرة فيرضى بما تمليه الظروف؟
وضعت أصابعها على شفتيه، تمنعه من القول. حدّست - من النظرة المشتعلة في عينيه - أنه سيوجه إليها ما لا تتوقعه من الكلمات.
نفضت الخاطر من رأسها، تنتزع خصيتيه، فيسقط ميتًا.
مسح بظهر يده على شاربه:
- كل شيء في حياتي مفتوح. لا توجد دفاتر فأغلقها.
وهتف في غضبه:
– أنت شجرة ورد كل ما في أغصانها أشواك.
وازدرد ريقه فى مغالبة لجفاف الحلق:
– الشيء الوحيد الذي أراك فيه هو القوادة!
التمعت عيناها ببريق وحشى. جمعت اللعاب فى فمها، وكورت شفتيها.
قذفت البصقة فى وجهه.
محمد جبريل - مصر الجديدة 15/10/2023
اترك تعليق