هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

" بيت الرمل" رواية الكاتب الكبير محمد جبريل( الجزء الخامس)

ملخص مانشر
تعدد ارتفاع الصراخ والعويل واللطم والنشيج والبكاء. تحولت أفراح إلى مآتم، انشغل الناس، كل بنفسه، يتوجسون من أذى الفتوات، يتوقعونه، يضعون الاحتمالات التي تضرهم، في غيبة من تأثيرها على سواهم. لاذوا بالمساجد، فروا من فتوات شوارع وأحياء إلى أماكن بعيدة، طلبًا للطمأنينة والأمان. فاجأتهم سطوة فتوات آخرين. كتب عرضحالجية المحاكم والحقانية وكتبة المحامين مئات الشكاوى والبلاغات والالتماسات، تشرح الأحوال، وتأمل إزالة الغمة، ودعا الشيخ زين عبد الحي - في خطبه - حتى يفرج الله الكروب.



غالب مساعدو ربيع أبو العزم خشيتهم عليه في استضافته داخل البيت المطل على ميدان الأئمة. همسوا بالنصائح المشفقة. يعرفون أن من يدخل البيت، تتوه - في الحال - أخباره.
يفاجئه السير أمام البيت. يحاذر فلا ينظر ناحيته. 
تحدث عن مالك البيت، الحاج نعمان القاضي. التاجر بمينا البصل. له هيبة وجلال. عرف عنه السبق بالخيرات، إلى جانب براعته فى الفقه والحديث والأوامر والنواهى الدينية، وتقدمه في علوم اللغة والعلوم القديمة، ألف كتاباً فى إعراب القرآن، وشرح الأحاديث النبوية، ودراسة الأنساب. يكثر من قراءة آيات القرآن والتعاويذ والأدعية. يحرص على التقيد بالأعراف، فالأمور تسير حسب إرادته. ثمة حدود غير مرئية، يرفض تجاوزها. يبقى مسافة بينه وبين الآخرين، فتظل صورة مكانته وهيبته. يكتفي بإيماءة إلى ما يريده. لا يرد - عند التحية - على كلمات الآخرين بكلمات ما، يكتفى بهز الرأس، لا تبين ملامحه عما يدور داخله، وله نظرة تربك من يقف بين يديه، وإن رسم على وجهه ابتسامة دائمة، لا تفارقه.
أول ما يذكره الناس من سيرته، لما فتح - بمساعدة من المعلم الزردوني - دكانًا فى سوق المغاربة للصرافة وتغيير العملات. ثم انتهى به الحال مالكًا لأسطول من البلانسات يأتي بالرزق من بحار الدنيا.
الشرفة الدائرية تطل على الشوارع المحيطة.
يرنو – في جلسته على الكرسي داخل الشرفة - إلى أشعة الشمس وهي تتمدد على الأرضية والجدران، أو تنسحب منها، يعمق تأثيرها بالصمت من حوله، وتصاعد أصداء الأصوات في أسفل، وهبات الهواء القادمة من البحر. ربما قصر وقفته خلف شباك الشرفة، ينظر – من خلال الزجاج – إلى حركة الميدان.
لا تشغله قسوة البرد، ولا لسعات الحر، عن الوقوف في الشرفة. يتابع ما ينشأ من معارك الفتوات. يرقب البداية القادمة من ميدان الأئمة، خلف جامع المرسي، شارع الأباصيري، طريق البحر. تقتحم العاصفة ما بداخله من طمأنينة، تثور المشكلات والخلافات، تعلو الشوم، يتغطي الميدان بالدماء والصيحات والصرخات، يعود إلى داخل البيت، ويغلق باب الشرفة، وفي نفسه الغضب لما جرى. 
اجتذب المريدين بالعطايا والأرزاق والموائد التي لا ترفع من مواضعها في القاعة الرئيسة بالبيت. يتناولون الأرز والمرق واللحم، يشربون القهوة والشربات. يقدمون الهبات والنفحات للمترددين على البيت من الدراويش والمجاذيب والذين بلا مأوى. خصص قاعة في البدروم لإقامة الزوار من أماكن بعيدة. عرف بإنفاقه في الكثير من مساجد الإسكندرية على وظائف الإمامة والخطابة والأذان.
البيت في طرف المكان. أقرب إلى فيلا، من طابقين، بالإضافة إلى البدروم. الواجهة بيضاء صافية من الجرانيت والرخام. الرخام الأبيض ينعكس الضوء عليه فى توالى أوقات النهار، حتى يحل المساء، وينعكس ضوء النهار. تتصل به حديقة صغيرة، يحيط بها سور قرميدي، لمنع النظرات المتسللة، استغني عن تعدد الطوابق بالمساحة الهائلة التي يشغلها. ردمت أجزاء من البحر، قبل أن تبدأ عملية البناء. يطل البيت – في واجهته – على ميدان الأئمة، ومن الجانب على البحر. تبين – في تعدد الجهات –  شوارع تفضي إلى أحياء المدينة. عدا الشرفة الدائرية، تحتل زاوية البناية، وتطل على تقاطعات الطرق، فإن نوافذه تطل على الجوانب الأربعة، البنايات والشوارع المفضية إلى أحياء الإسكندرية، كأنه القلب في جسد المدينة.
انتشر أتباع الحاج نعمان في الساحة المقابلة للبيت، والشوارع المتفرعة منها، والبيوت على الجانبين، عنوا بحراسة البيت. تناثروا حوله وهم مسلحون بالشوم والسيوف والسنج والسكاكين والمطاوى. الأعين الراصدة في النوافذ والأركان والزوايا، وخلف الأبواب.
اعتاد أبو العزم السير أمام البيت. يحاذر فلا ينظر ناحيته. كل ما حوله يغلبه الغموض والأسرار. أصغى إلى الكثير من الحكايات عما يجري في داخل البيت. قيل إن الحاج نعمان خصص قاعة في البدروم لإقامة مريديه، لكنه أصغى إلى الكثير مما يجري في البدروم من حكايات يصعب تصديقها.
قال لاختلاط الآراء والأسئلة والتحذيرات المشفقة:
- دعوة كريمة من رجل فاضل، يجب أن ألبيها.
رقى الدرجات الصاعدة إلى الباب الرئيس. تلفت حوله، يستكشف طبيعة المكان وتفصيلاته.
المدخل مكسو بالرخام الملون، مغطى بالمقرنصات. الأبواب من الذهب المطعم بالياقوت والأحجار الكريمة. الشرفات والنوافذ أسدلت من خلفها الستائر التى تخفى ما بالداخل. الشرفة العريضة دائرية، بامتداد البناية، تطل على تقاطعات الطرق. الستائر المسدلة بامتداد الشرفة، والشموع المضاءة فى شمعدانات البرونز المطلى بالذهب، والموسيقا الهادئة من موضع لا يتبينه. 
تنبه إلى خلو البيت من الحركة. لا أحد، الصمت سادر تعمقه - من الحجرات المغلقة، والمواربة -  تلاوات قرآن وابتهالات وأوراد وتسابيح وأدعية وأذكار وإنشاد. لم يعرف الموضع الذى تناهت منه موسيقا جميلة، كأنها السحر، ولا استطاع تحديده. والتقطت أذناه أصداء نداءات وهمسات وأدعية وضحكات عالية ومبتورة.
في الطابق الأول ممر على هيئة نصف دائرة، تلاصقت فيه الحجرات، مفتوحة، ومواربة، ومغلقة، يطل على القاعة التحتية. الباب يفضى إلى طرقة طويلة، أرضيتها من الحصى، القاعة فى نهايتها، فسيحة، على جانبيها أبواب مغلقة، تؤدى إلى داخل البناية. السقف العالي، المقبب، من القرميد الزمردي اللامع. تدلت منه نجفة هائلة من الكريستال، محملة بعشرات اللمبات الصغيرة. المجامر المدلاة من الأسقف، وفى مفارق الطرقات والقاعات, يتضوع منها شذا العطور والبخور واللبان والصندل والمسك، وثمة النحاس المنحوت، والمشربيات المخروطة، وأعمدة الجص المنقوش، والسجاجيد الفارسية، والستائر الملونة، والمعلقات والشمعدانات ذات الأفرع الكثيرة، والمرايا الهائلة بمساحة الجدران، والأثاث الشرقى التصميم، والخزائن والمناضد واللوحات والبسط والطنافس والزخارف والنقوش والزينات، والأضواء الملونة فى الأركان والزوايا.
القاعة واسعة ذات تراكيب وعقود ومقرنصات. خصصت لأداء الصلاة، وقراءة القرآن، والتسبيح، والإنشاد، وحلقات الذكر. الغرف من حولها لإقامة الزوار، من يأخذهم الوقت بعيدًا عن بيوتهم، فتصعب عليهم العودة.
لغرابة المكان اعتاد التمشي في طرقات البيت، يحاول استيعاب المرئيات، مستطيلة، مزينة فى الجانبين بإصص الورود والزهور، وبالزخارف على الجدران. أبواب غير مرئية، ينفتح واحد بعد الآخر، ينتبه إليها من الصرير العالى فى لحظات الفتح والإغلاق. النوافذ ذات نقوش بارزة، والزجاج متداخل الألوان، والأسقف مزينة بالنقوش والتهاويل، والأيقونات، واللوحات مثبتة على الحوائط، والتماثيل في الزوايا. خزائن الكتب والمخطوطات تهرأت أوراقها. الحمامات من المرمر والرخام والجرانيت الأسوانى. يعمق الصمت السادر صرير فتح الأبواب وإغلاقها، وقراءة القرآن والابتهالات والأوراد والتسابيح.
فاجأته - في طريقه إلى النوم - طرقة صغيرة، بسطة، صعب في العتمة تمييز الأشياء. تحسست قدماه أرضية الطرقة المظلمة، حتى اصطدم يما حدّس أنه باب مغلق. 
دفع الباب بأصابع مترفقة، فانفتح.
كان الضوء في الداخل شحيحًا، أو هو أقرب إلى الظلمة. مضى وقت قبل أن يعتاد الرؤية. أدرك من التراب على الأثاث والأرفف والجدران أن الحجرة مغلقة من زمن. العزلة والصمت والأتربة المكومة على قطع الأثاث، ونسيج العنكبوت فى زوايا الجدران. 
شاهد أجسامًا طيفية متراقصة، تمضي إلى النافذة الصغيرة، الكوة المطلة على الميدان، ثم تحلق في اتجاه البحر، لا عوائق أمام الأطياف، تحلق فى سماء الحجرة، تخترق الجدران والحوائط والأسقف، تحلق في الفراغ، عشرات الأطياف تخرج من الكوة الصغيرة، تنطلق في الفضاء إلى حيث تتراقص على الكورنيش الحجري في المينا الشرقية.
لم تعد الأطياف كذلك. هو يراها في هيئة البشر، يتحركون بين قاعات البيت وطرقاته وردهاته. يتهامسون بأصوات كالأصداء، يطلون من النوافذ والشرفات.
قال كمن يكلم نفسه:
- ذلك ما يصعب فهمه.
جاوزت الغرفة المغلقة سؤال الفضول، فصارت إلحاحًا. 
تذكر الغرفة التي حكاها له من لا يتذكر في طفولته. هي دومًا موصدة، يحيطها عمق الصمت، وإن خدشه ترامي الأصوات من داخلها، أشبه بالتلاغط الخافت الذي يصعب تمييزه.
عرف أن الحجرة تختلف عن بقية حجرات البيت في خلوها من النوافذ. هي دائمًا موصدة، كأنها ليست من البيت. الجدران – عدا مساحة الباب الحديدي الصغير، والكوة الصغيرة في حجم الوجه – مصمتة. 
همس لنظرته المتحيرة الخادم ذو البشرة السمراء، والرأس المجعد الشعر، والشفتان الممتلئتان: 
- غرفة الشيخ وحيشي. 
استعاد قول شيخ الحارة محفوظ سمك في قعدة المقهى:
- إنها - كما في الحواديت - الحجرة الواحدة والأربعون المغلقة.
ابتسم الخادم ليدارى ارتباكه:
- الحجرة موصدة جيدًا .لا منفذ فيها للدخول أو الخروج.
وهو يغالب الفضول:
- هل رأيت الرجل؟
- كثيرًا. رأيته يخرج، ورأيته يعود.
- هل يعلم الحاج نعمان؟
- علم كل شيء عند الحاج.
وملأت وجهه ابتسامة خائفة:
- لا يخفى على الحاج شيء في داخل البيت وخارجه. يمتلك البصر والبصيرة.
أصغى لروايات الخدم عن الشيخ وحيشي، الرجل الذي أذن له الحاج نعمان بالإقامة في الحجرة. 
تعددت الحكايات عن سيرة الشيخ، أضيفت إليها هوامش وفروع وما لا تصدقه العقول، خلق من مارد من نار. له قدرة عجيبة على التحول، وتقمص مخلوقات ليست من البشر. يهدد – بكلماته الغاضبة على القيود، يثير الشر، يحرض على أفعال الأذى، يحرك النوازع والخلافات.
لزم الناس نصيحة الشيخ موافي خادم سيدي نصر الدين أن يرددوا – إذا جاءت سيرته، أو التقاهم في الأسواق - إلى ترديد سورة يس، أو اللجوء إلى مكاشفات أولياء الله، ومددهم، فلا يخطر لهم في بال، ولا يصادفونه في الطريق.
السكون في الحجرة المغلقة يشي بخلوها من زمن، وإن أتاح الظلام الحركة للعفاريت والجن والأفاعي السامة والعقارب. 
أدرك أن صاحب البيت ليس غافلًا عما يحدث في الحجرة المغلقة، ولعله يرضى عن الأفعال التي تنسب لشاغلها خارج البيت.
تعددت الروايات عن الرجل الذي أذن له الحاج نعمان بالإقامة في الحجرة. قيل إنه أراد أن يمنع أذاه عن الناس، يدرك الحيل التي يترك بها موضعه داخل الحجرة، يمضي إلى حيث لا يدري أحد، ويعود. يجتذبه بالإنشاد والابتهالات والتسابيح، كما تغوي عروس البحر من تصيدهم بغنائها، تعددت الحكايات عن سيرته، أضيفت إليها هوامش وفروع وما لا تصدقه العقول، وإن لزم الناس نصيحة الشيخ زين عبد الحي أن يلجؤوا – إذا جاءت سيرته، أو التقاهم في الأسواق - إلى قرآن الله، ومدد أوليائه، فلا يخطر لهم في بال، ولا يصادفونه في الطريق.
اعتاد النظر من الحجرة الخالية - عبر الكوة - على الميدان، والشوارع المتفرعة عنه، والنخل العالى، وأفق البحر. يكتفى – من موضعه – بمراقبة العاصفة. يحرص فلا تأخذه رياحها، ولا دواماتها، لا يغرق فى أمواجها، لا يشارك فيها على أي نحو.
شغله ما يجرى خارج الميدان، الميادين والشوارع والحارات والأزقة، بعيدًا عن مدى رؤيته. آخر ما تصل إليه الكوة الصغيرة تقاطعات الميدان ومفارقه وجانب من المينا الشرقية. ربما وقف في الشرفة، ينقل نظراته بين الميدان المواجه لباب الجامع الرئيس بدرجاته الرخامية العريضة، والدحديرة المفضية إلى زاوية الست مدورة، ومنها إلى الموازيني والحجاري، ومقامات الأئمة الأربعة عشر، وتفرعات الشوارع الجانبية إلى السيالة والأنفوشي ورأس التين.
سأله محفوظ سمك، للتثبت مما رواه:
- هل رأيت الحاج نعمان بالفعل؟
برقت عيناه بنشوة غامضة:
- اكتفيت بحضور مجلسه.
أعد نفسه لما حدث كمغامرة عابرة، لكنه غادر البيت مثقلًا بالكثير من الأسئلة. 
رأى الحاج نعمان على كرسيه المذهب، الضخم، في صدر القاعة الهائلة، من حوله الخواص والعلماء والأدباء والعرافين والدراويش وقاصدي السبيل، يستغرقهم الوقت في تلاوة القرآن، رواية الأحاديث الشريفة، وشرحها، قراءة الأوراد وأحزاب الشاذلية، والتعاويذ والأدعية والمأثورات والحكم والطرائف والأشعار، والإنشاد الديني. 
الخدم يتنقلون - كأطياف - بأطباق الطعام، الأرز والمرق واللحم، وأكواب الشاى والقهوة والسحلب والعناب والشربات، في القاعات والردهات وداخل الغرف، لا تكاد أقدامهم تلامس الأرض، أو تعلوها، كأنهم في حلم. يتهامسون، أو يكتفون بالإيماء والإشارة.
له هيبة تعمقها كلماته التي يعطيها الجميع إصغاءهم. يدير فى يده مسبحة طويلة بها تسع وتسعون حبة. عرف أنه لا يرد طالب إحسان. من الصعب قراءة تعبيرات وجهه، لكنه يجيد قراءة السحنة، ويمتلك قدرة مذهلة على الحدس. يتصرف وفق ما يمليه حدسه وتخمينه، وما يراه من تصرفات الناس. لا يميل إلى إطلاق أحكام النهي والتحريم. دائم النحنحة كمن يغالب حشرجة في حلقه. 
استعاد روايات الإمام زاهر العليمي عن جلوسه في حضرة المرسي أبو العباس، الهيبة والجلال والكلمات التي تقطر بالصفاء والمحبة والرضا والألفة والائتناس.
قال محفوظ سمك:
- أعرف أن الحاج بعيد عن البيت منذ سنوات بعيدة.
- التقيته، وأصغيت إلى كلامه.
- ماذا قال؟
- لم يبق في رأسي إلّا راحة مطلقة.
ظل على صمته. لم يشر حتى إلى إخفاض عينيه أمام حدة نظرات الحاج. أخذته هيبة الحاج وكلماته. شعر - في حضرته - بمتعة لا حدود لها.
أحس أنه لابد أن تتغير أحواله - بعد مغادرة البيت - عما كانت عليه قبل أن تضمه حوائطه، لكن الهاتف همس في داخله: 
- كن كما أنت، عامل الناس بما اعتادوه من التواضع والاحترام.لكل شئ أوان,

كما تعلم، فإن لكل شيء أوان، الليل يسبق الفجر، الهلال يسبق البدر، الطفولة تسبق الكهولة، الدروشة تسبق الجنون.
المجذوب يختلف عن المجنون فى خصائص كثيرة، المجنون فاقد العقل، أما المجذوب فهو من يتجه إلى الله فى نفسه وعباداته وتأملاته. 
لا أحد يعرف من أين جاء أبو كيفو، ولا إلى أين يذهب.
قال عويس الداكر فتوة الشاطبي:
- لعل ربيع أبو العزم يسلك طريق هلال الأحمدي.
واصطنع ابتسامة كشفت عن تسوس أسنانه:
- أبو العزم شبيه للأحمدي، وإن اختلفت ظروف كل منهما.
أبو كيفو هو اسمه، لكنه لم يعرف عنه تعاطى المكيفات، ولا المسكرات، ولا ارتكاب الفواحش. 
أميز ملامحه: رأس ضخم بالنسبة إلى الجسد النحيل، والصدر الضامر، عينان ضيقتان كخرزتين. شفة سفلى متدلية، يعاني لحمية في أنفه، فيتنفس من فمه، تتدلى من رقبته تعاويذ وتمائم وأحجبة، أو تغطّي صدره  كيزان من الصفيح، تصدر – في تحركه – صخبًا عاليًا. يخترق الشوارع، عيناه الصغيرتان لا تتوقفان عن الحركة، يتمتم بآيات من القرآن وأدعية، وبيده وعاء البخور المتدلي من سلسلة معدنية. ربما أمسك سيفًا خشبيًا، يطوحه، كأنه يقاتل أطيافًا لا ترى. له صوت مجوف، يصعب تبين ما يقول.
هي أحوال تملكه. لا يعرف معنى الصمت، ولا إن كان لديه كلام ذا جدوى يقوله، أو يتاح له التأمل، إذا رفع صوته فإن محدثه يعاني صعوبة فى إبداء وجهة نظره، يبدأ فى الكلام فلا يتوقف، يروي حكايات لا معنى لها، وقائع غير مترابطة، يظل يتكلم، حتى لو قاطعته ملاحظات أو أسئلة، يتكوم الزبد الأبيض فى جانبى فمه. ألف الناس هيئته وتصرفاته، لم يعودوا يعيرونه اهتمامًا، حتى عندما ارتدى بذلة عسكرية متسخة، وانتعل حذاء برقبة.
سمّى الأحمدي – في روايات أتباعه - لعلو مقامه، ولأنه من الواصلين، وله كرامات. خصّه الله – كما يخصّ الأولياء – بالمكاشفات، والمناقب، والخوارق، عرف عنه القدرة على إخضاع العوالم السفلية لإرادته، تسخير الجان، والسيطرة عليه، وتعذيبه، وأنه يمتلك الكثير من القدرات العجيبة، ونسب إليه الطيران في الهواء، والمشي على مياه البحر، ومخاطبة من لا يراهم سواه.
عهدت به أمه إلى شيخ كتاب في شارع الشمرلي، علمه مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ على يديه سورًا من القرآن، والكثير من الأوراد والأدعية.
ظل إلى احترافه الفتونة، يتكسب بحمل الطرود داخل الميناء، تعلم الرطانة بلغات كثيرة. اشتهر بحدة المزاج، وسرعة الغضب، والميل إلى افتعال المعارك، يتحسس – بعفوية - أثر ندبة سكين تمتد من أسفل الأذن إلى الذقن، يجيد ضرب المقص، والروسية، ينهي المشاجرة بضربة من رأسه في رأس الخصم، يشجها(عدد الناس جراحات التربنة التي أجريت لمن نطحهم برأسه)، يتكلم بما يجيده من اللغات، وإن لم لم يحسن القراءة بها، أو كتابتها. تمتلئ كلماته بالإشارات والتلميحات والتهديدات المضمرة، وبلغة يصعب فهمها. 
لم يكن يتيح علاقة صداقة، يبقى علاقاته فى حدود لا تجاوزها، يحرص على اللهجة الآمرة، وإظهار الشعور  بالاستعلاء. لا يصدق كل ما يصغي إليه. يرمق محدثه بارتياب، يخشى أنه يكتم ما لم يقله. 
نسب إلى نفسه إغلاق معظم شوارع الإسكندرية. أذاع صبيانه أنه صار متحكمًا فى بحرى، فى ناسه وصياديه وقهاويه وزواياه، يقرر المصائر والعقوبات. 
اختار قهوة أنّح فى طريق الكورنيش، بديلًا لقهوة الزردونى، يعرفه الناس كما يعرفون ربيع أبو العزم فى قهوة عرفة المقابلة لها. 
روى أنه كان مساعدًا لفتحي الويشي فتوة اللبان، يتلقى عنه الضربات، حتى لا تصل إلى جسد الفتوة، ثم استقل بنفسه، وعمل لحساب تجار فى الميناء، يحمل الطرود، ويخوض المعارك لصالحهم.
أقدم  - ذات عصر - على ما لم يتصور أنه يفعله. امرأة تطوف حول مقام المرسي. صرخت - متأوهة - لقرصة ثديها بإصبعيه. أخذ عليه الناس - في الأيام التالية - فقدان الاتزان والتصرفات العابثة، يقرص البنات في أثدائهن، يقذف المارة بالشتائم، يعطي ظهره إلى جدار، ويبول. 
روي أن امرأة مستلقية على رمال سيدي بشر أثارته بظهرها العاري، وصدرها المدفوس في الرمل، ألقى بنفسه فوقها. 
قيل إن القطب راعه ما حدث، فتوعد الرجل بما لن يستطيع تحمله.
تبدل - من يومها - حال الأحمدي. 
خرج إلى الناس من بيته متغير السلوك والكلمات، قال إنه تاب عما سلف من حياته، وأزمع سلوك سبيل الاستقامة.
- لا أحب لأحد أن يدخل النار جزاء ظلمه لى، لا ترضى نفسى أن أكون سببًا فى عقاب السماء لمن أذنبوا فى حقى!
استغرق في عالم من الروحية وشرود الذهن. لم يعد فى الحال التى ألف الناس رؤيته عليها، هو يميل إلى شدة الانشغال، والذهول عما حوله. يسير في الشارع دون أن يلتفت. نظراته صامتة، تتجه إلى الشرود. إذا لمح امرأة في الطريق فإنه يتجه بعينيه إلى الناحية المقابلة، لأن النظرة الثانية عليه. حتى السلام لم يكن يرده. يعيش حالة من التأمل: يحدق فى أفق البحر، يرنو إلى القمر، يلوذ بدفء الشمس، يحصى النجوم. يتأمل ما سيكون عليه أهل الجنة. أريد رضا رب الجنة، ولا أريد الجنة نفسها. 
فاجأه قول مرعي بيبي إن الخمر هي العصير الذي تناوله. تملكته ارتعاشة، ومد إصبعه داخل حلقه، حتى يتقيأ. 
بدا هلال الأحمدي آخر لم يعرفه أهل بحري من قبل. اختل ذهنه وتصرفاته. إذا بدأ فى الكلام فإنه لا يتوقف، حتى لو قاطعته ملاحظات أو أسئلة. لا يعود ذلك الرجل الهادئ الساكن الملامح، الخفيض الصوت. لم يعد يعرف معنى الصمت، ولا إن كان لديه كلام ذا جدوى يقوله، أو يتاح له التأمل، يرفع صوته، فيعانى محدثه صعوبة فى إبداء وجهة نظره، يظل يتكلم حتى يتكوم الزبد الأبيض فى جانبى فمه. وصف شيخ الصيادين محسب الدردير صوته بأنه مثل قصف الرعد، يخيف لكن صاحبه لا يؤذي أحدًا.
ألف الناس رؤيته في شوارع بحري، يرتدى بذلة عسكرية متسخة، وينتعل حذاء برقبة. ربما سار حافيًا، مكشوف الرأس، يردد الأدعية في وقت السحر من ساعات الليل، يكلم نفسه، يشير بيديه، يقلص ملامح وجهه، يخاطب مجهولًا، يتمتم بعبارات بطيئة، ومتعثرة، يفقد السيطرة على نفسه، فيهذي بكلمات متقطعة، وغير مفهومة، يعلو صوته بالصراخ والزعيق وعبارات الجذب. 
فاجأ سعدية في زحام شارع الميدان، بالصفع على كفلها. التفتت بصفعة على وجهه، وواصلت سيرها.
رويت عنه أحوال غريبة، وشطحات. ظل مرتديَا السترة العسكرية باهتة الصفرة. ثم ارتدى خرقة التصوف ومرقعة الدراويش، واستبدل بالحذاء قبقابًا، وساح فى الأرض. غلب عليه الجذب والاستغراق، ومخاطبة مجهولين، والتحديق في ما لا يراه الناس. انجذب بما لم يخطر في بال أحد، فهو ينام على طاولة مغطاة بأسنة المسامير، أو بالزجاج المكسور. ربما امتنع عن تناول الطعام أيامًا متتالية، أو وضع جسده – ساعات طويلة – في وضع اليوجا. 
اعتاد الناس منه سماع غريب القول، يتواجد، ويصيح، ويضرب صدره، حتى يسقط مغشيًا عليه. ثم اعتادوا سيره عارياً إلا من خرقة تستر ما تحت بطنه. انتهى أمره إلى نوع من الذهول والخبل. تكررت تصرفاته وأقواله، فنسبه الناس إلى مريدي المذهب الرفاعي: يحملون الهراوات والشوم والسيوف الخشبية، يأكلون الثعابين والحيات، يثقبون الوجنات بالمسامير الطويلة، يضربون الصدور بالسلاسل الحديدية. يرقدون على أسنة المسامير والزجاج المتكسر، يمشون على جمرات النار وأطراف السيوف.
لم يعد يستحم، ولا يبدَل، أو يغسل، ما يرتديه في سنوات. يتحسس صدره بإصبعه، ثم يمسك حشرة، يتأملها، يفعصها بين إبهامه وسبابته. يتخلل شعره بأصابعه، تسقط حشرات صغيرة، آلاف من الحشرات التي لا يحاول تبين شكلها. يتعالى الصياح والصراخ وهي تجري على الأرض الرملية إلى داخل البيوت.
أحب الناس انجذابه، لأنه قرب من الله. ألفوا تصرفاته، لم يعودوا يعيرونه اهتمامًا، سكنوا إلى قول منجد خادم مسجد الواسطي إن الرجل مبروك، رفع عنه التكليف، لا قيد على تصرفاته، أو أقواله، له أن يفعل ما يشاء. ألفوا كثرة هذيانه، والكلمات الغريبة، أو التي لا رابط لها. يخاطب كائنات يراها ولا يرونها، يأخذ منها ويعطي، يسأل، يناقش، يوضح، يهرول، يضحك، يصفق بيديه، يشتم. تعيده إلى نفسه قذفة حجر. 
رويت عنه أحوال غريبة، وشطحات. تعروه حالات من الجذب. إذا غلبه الوجد، تكثف الزبد في جانبي فمه، وصدرت من شفتيه أصوات مدغمة، وعلا صراخه، وضرب صدره، ومزق ملابسه، واشتد بكاؤه، حتى يفقد الوعى. طوى شوال الخيش المفكوك، وفتح - فى أعلى الناحية المغلقة - ما يسمح بإدخال رأسه، وترك قدميه عاريتين، وكان يرسل همهمات مختلطة لا تقول شيئًا. 
تعددت الشروح والتفسيرات. 
عاب مريدو الشيخ زاهر العليمي على الناس أنهم ينكرون ظاهر ما يصدر عن الشيخ الأحمدي، دون أن يتبينوا حقيقة باطنه. قالوا إن هلال الأحمدي من أهل الأسرار، أهل الخطوة والوجد والغيبة والفناء، أولياء الله، نسبوا إليه مكاشفات وكرامات وخوارق ومناقب لا حصر لها. انبثقت منه – في أعينهم - أنوار الولاية، يلبس المرقعة، يتواجد بالصيحات. يعلو في رأسه دق الطبول، يتضوع البخور، تنثال الرؤي. يرى أشياء يصعب على الناس رؤيتها، يطوي الأراضي والبحار والمحيطات والجبال والصحارى، يطير في الهواء. يمتلك القدرة على التواجد فى كل مكان، وذاعت رواية، نسبت إلى الشربيني مصطفى خادم مسجد ياقوت العرش، أن الرجل اطلع على اللوح المحفوظ، ولا يتكلم عن الهوى، فهو يأخذ عن الله. وقيل إن الجذبة أخذته، فادعى التصرف في الكون، وأن الله خصه بحق القبض والبسط والخفض والرفع. 
رويت حكايات عن مؤاخاته لعفريت من الجن، أو أن العفريت ركبه، وقيل إن روحًا شيطانية ركبته، فأفعاله وكلماته مردها إلى السحر، أو أفعال الشيطان.
اعتاد الناس اختلال اللحظات، يميل إلى الحدة، ثم إلى المباسطة، يتداخل البكاء فى ضحكاته، يتلاشى انبساط ملامحه في التوتر. يتحول - فى لحظة - من الهدوء إلى الانفعال، يضحك على شيء، ويتألم منه في اللحظة التالية، وملاحظاته وأوامره متناقضة، لا تشغله ردود الأفعال في أقواله وتصرفاته.
شكك المعلم سعدون جادو أن الرجل يتصنع غرابة الأطوار. وعلا صوت عويس الداكر بنبرة غاضبة: 
        - إن كان الرجل مجذوبًا فلماذا ملابس البلياتشو؟ 
حصل له - في نهايات أيامه - ما ينسبه إلى دنيا أخرى. يمشي – غالب أوقاته – مكشوف العورة، ولا يصلّي. 
قيل إن أمره انتهى إلى نوع من الذهول والخبل، فصعب التنبؤ بأفعاله، وحل الغم بتحذير الشيخ عصام نويشي، مؤذن جامع تربانة، أن الرجل ركبه عفريت، فلابد من إزاحته وطرده.
مال - في نهايات اختلاطه بالناس - إلى الهدوء وثبات الحركة، يجلس على درجات الباب الرئيس لجامع أبو العباس، يكثر من التلفت، وإن أهملته نظرات الناس، يسدل على كتفيه عباءة بنية أقرب إلى البشت، أهداها له الحاج نعمان القاضي، لا يبدلها بتغير الجو.
ترك موضعه - ذات ليلة - ولم يعد.
لما انقطع خبره، وطال غيابه، تردد أهله على أقسام البوليس والمستشفيات ومشرحة كوم الدكة. 
ثم نسيه الناس.
يتبع





تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي

تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي جوجل نيوز جوجل نيوز

يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل

اترك تعليق