هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

"بيت الرمل" رواية الكاتب الكبير محمد جبريل (الجزء الرابع)
الروائي الكبير محمد جبريل
الروائي الكبير محمد جبريل

ملخص مانشر

صار جمعة مخلوف شيخًا لعموم الطريقة.قيل إنه يخفي وراء صلابته الظاهرة وتجهمه، نفسًا طيبة. وتعالت همسات بأنه أسن، ومال إلى القعود والراحة. لم يعد يقدر على الحركة، والانتقال من موضع إلى آخر، إلا وراحته على قبضة العصا، أزمع أن يتخلّى عن هوى النفس، يخلع عن نفسه ما يرتديه من زخرف الحياة وزينتها. اشتغل بنفسه وشهواته، وذهل عن ربه ودينه، وارتكب من الموبقات ما يصعب حصره. عني بأن يمحو ما بقي في ذاكرته من صور لا يريدها.


 

تهامست آراء بأن الولاية لم تعرف عن جمعة مخلوف، ما ينسبه إلى نفسه من الكرامات، إنما هي من أفعال الشياطين. لم يعرف عنه الزهد أو التقشف أو التعبد أو المكاشفات. ما خلفه في الأذهان - بعد رحيل الولي – لا يجعله في موضعه. لاحقته تهم بالفجر والإغراق فى الشهوات، يجيز لنفسه الخروج من الصلاة بالأكل والشرب والجماع عمدًا، ثم البناء عليها. يستحل الخمر والميتة ونكاح المحارم. لا يخشى الموت، ولا يفكر فيه، ولم يشغله بناء قبر. روي عنه قوله: من لم تصلهم النبوة، لا يواجهون حساب الآخرة، جهلي بمعرفة النبوة كان سيتيح لي الفرار من الحساب.
قال شيخ الحارة محفوظ سمك لجلسائه في قهوة فاروق:
- لا أعرف رجلًا تعامل مع الله والشيطان بالهمة نفسها. نهاره في المساجد والأضرحة والمقامات وحلقات الصوفية، وليله - حتى الصبح - في بارات اللبان!
حين زكي محفوظ سمك الشاب حمزة ابن جمعة مخلوف لوراثته، قال الرجل في لهجة مستاءة: 
- أرفض الفتونة بالوراثة. الأولى من يعني بخدمة الناس.
فى أخريات عمره، أصاب المرض محاشمه. لم يكن يقوى من ألمه على الجلوس. هدّه المرض، بدا مستسلمًا لانسحاب الحياة من جسده، قدرته على الحركة ليست كما كانت، لا يستطيع القيام، ولا القعود، ولا حتى مجرد تحريك الذقن أو الشفتين.
بقي من جمعة مخلوف بريق عينيه. لم يكن يبدّل جلسته في قهوة أبو دومة، ينظر إلى ما حوله بعقل غائب. يطيل النظر إلى السماء كأنه يتابع شروق الشمس وغروبها. صار بلا حيلة أمام تلاشى أيامه، لم يعد ينتمي إلى الدنيا التي اعتادها: المنازعات والدسائس والتخويف والمعارك والشوم والسيوف والخناجر والسيطرة، وإن شردت عيناه لحكايات قعدات القهوة عن معاركه القديمة.
لما طالت حشرجاته، قال الشيخ أحمد موافي - خادم مسجد جابر الأنصاري - إن روحه تخشى أن تترك الجسد، لكثرة ذنوبه.
طلب من الرجال الواقفين أن يطلبوا له الرحمة.
إذا لحقت الشيخوخة نسرًا، طار - يعينه جناحاه – إلى بقعة بعيدة داخل البحر، فوق صخور وسط الأمواج. يخلي لجناحيه المنهكين إرادته، فيسقط فوق الصخور. ربما مضى إلى فعل مشابه. يمضي بقارب إلى داخل البحر، لا يتوقف، حتى يصطدم بالصخور.
أعد نفسه للرحيل دون أن ينظر وراءه، أحرق كل مراكبه، فهو يمضي بلا تلفت. شغلته أمور الآخرة. يجلس في وضع التهيؤ لرفع الأذان. يؤذن لنفسه، ثم يبدأ الصلاة. فرض الله الصلاة خمس مرات كل يوم، للعبد أن يزيد على صلاة الفرض ما شاء من السنن والنوافل. يسبل أجفانه طيلة الصلاة، يفتحها بعد القول: إنك حميد مجيد.
أهملت وزارة الأوقاف وصيته أن يدفن - مثل ولي الله ابن الحاجب - بجانب ضريح أبو العباس، وإن أخذت المفاجأة مشيعيه بخلو النعش - عند بلوغ مقابر العامود - من الجثمان. 
استعاد عثمان الجعفري - تاجر المانيفاتورة - قوله - قبل الرحيل بأيام - إنه دعا الله في صلاته كي تنقل الملائكة جثمانه، بالقدرة الإلهية، إلى مقابر البقيع.


الزمن لحظات، كل لحظة تفضي إلى اللحظات التالية. من المهم أن أقتنص اللحظة المناسبة، ما أستطيع أن أصنع فيها شيئًا يتصل بما يشغلني. ربما انتهى اليوم دون أن أكتب كلمة واحدة، يضيع نهار كامل وبضعة من ليل. الأسوأ أني لم أكن قرأت كلمة واحدة، مجرد وقت أنفقته في اللاشيء, لم أحاول حتى أن أعيد ترتيب أشياء، أو أراجع ما ينبغي مراجعته.
عثرت - في درج المكتب السفلي – على كتاب كنت اشتريته من سوق النبي دانيال. ألبوم صور ذي غلاف جلدي أحمر، موشى بخطوط مذهبة. دفعني إلى اقتنائه صور فوتوغرافية لشخصيات وأحداث، في الفترة من أواخر القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين. عدت إليه مرات متقاربة، أتأمل صورًا لمن خلفوا شهرة، ومن غابت أسماؤهم. أتفحص الملامح والزي والجلسة، أو الوقفة. ما إذا كانت يداه خاليتين من الشومة، أم أنه يتكئ عليها.
تناثر الفتوات في الصحف والدوريات والكتب، يعكسون – بتدبيراتهم وتصرفاتهم وخناقاتهم – جانبًا مهمًا من الحياة السكندرية قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعدها.
الاعتراف بالسيطرة شرط أول، مطلوب. النظر الى الغلابة بعين التعاطف جزء من الصورة. الوقوف في وجه الحكومة أجزاء واجبة أخرى: رفض تحذيرات البوليس وتهديداته، تحدي الأوامر ببيع المخدرات، وتعاطيها - ولو للمظهرية - في عز النهار، تمزيق محاضر الضرب، كسب الأتباع والمساعدين خطوة تالية. كلما تزايد العدد، تأكدت السيطرة. حتى أقوال الرجل وتصرفاته، لابد أن تشي بانتمائه إلى دنيا الفتونة.
يسير الفتوة في شوارع بحري، يتبعه أعوانه، حاملين العصي والشوم والأسلحة. موكب له هيبته. كلما كان الأثر طيبًا، سارت خطوات الأيام القادمة في أرض صلبة. المبالغات تنقل تفاصيل التفاصيل إلى الأحياء البعيدة، تصنع أسوار المهابة حول أطراف الحي. يفكر فتوات الأحياء الأخرى قبل أن يحاولوا اجتيازها.
طرف خيط البداية، فى افتعال خناقة. اصطياد الرؤوس الكبيرة، ومرمغتها فى التراب. ما تكاد المعركة تبدأ، حتى تغلق أبواب الدكاكين والبيوت، وتطفأ أنوار النوافذ والشرفات، ويأمر أصخاب المقاهي برفع الكراسي، وإغلاق الأبواب. تخلو الشوارع من الجالسين والمارة حد الزوال. تبدو المساحات متسعة، باقتصارها على المتعاركين. يعمق من الصمت ارتطام الشوم بالشوم، وبالرؤوس والأجسام، والصيحات والتأوهات والصرخات. 
الفتوات - كما ألف الناس لسنوات طويلة - يحيون بينهم، يخالطونهم في الأسواق والشوارع وعلى المقاهي، يزورون الأهل والأصدقاء، يصلّون في مساجد الحى، يعقدون الصفقات، يشاركون في حلقات الذكر وليالي السمر، لا يعتدون على الجيران، أو على النساء، ولا يترددون على كوم بكير، ولا يفرضون الإتاوات، وإن استحلوا سرقة معسكرات الإنجليز، وسياراتهم، وتحدي السلطة. يرفضون السحت والمال الحرام. من خالف ذلك، ينظرون إليه بسخط. ربما توسلوا لجره في خناقة.
غابت الفتونة وفق تقسيم الإسكندرية إلى أحياء، لكل حى فتوته. زاد الفتوات، صاروا بلا قيمة، فتوات أحياء الإسكندرية المحدودين زادت أعدادهم، حتى الشوارع الفرعية والحارات والأزقة، لكل منها فتوة يعلن تحديه، وإن دان لفتوات الأحياء بالطاعة، كما دان تجار المدينة لإرادة فتوات الأحياء، دون اختيار ولا إجبار. 
تكاثر الفتوات كالجراد. زحام يثير الأسئلة: لماذا؟ كيف؟ متى؟
تتوالى الأسماء كالموجات الصغيرة، تلامس الشاطئ، قبل أن يبتلعها البحر.  بدا كل شيء سهلًا، ومتاحًا. كل من لطشه السلك، وأمسى بلا مهنة، أعلن نفسه فتوة، يخوض المعارك، أو يرشو الأقوى لقاء تغاضيه. تداعت الأحداث، بدأت المشاحنات بين فتوات الأحياء، تفاقمت، فقدت الفتونة معناها. من ينسبون نفسهم إليها تردعهم أفعال الفتوات. 
أبدى الخواجة بنايوتي - صاحب مطحنة البن أول شارع السكة الجديدة – غيظه من كثرة استغاثات جرحى المعارك: 
- البن للقهوة وليس لمداواة الجروح!
عاب سلامة - صاحب مسمط الكوارع أسفل جامع تربانة - على الناس رضائهم عن ظلم الفتوات، مشاعر أخرى - غير الخوف - تدفعهم إلى التهليل لرؤيتهم. تعددت حالات الاختفاء، والطعن بسكين، ودس السم، والعثور على جثة طافية في مياه المحمودية، أو في البحر. اعتاد الناس حوادث إشعال الحرائق، سرقة البيوت والوكالات والدكاكين. أُشْعلت النيران في فلايك بمرسى المينا الشرقية، حتى ثلاجة أحمد الصعيدي الخشبية، أسفل بيت المطرب حمامة العطار بشارع فرنسا، نُزع غطاؤها، ومضت ألواح الثلج في ذوبانها، عبر البالوعات، أسفل الأرصفة، إلى البحر.
أرجع الرجل ما حدث إلى أن البوليس يخشى الفتوات. يرفض تحرير محاضر الضرب والتعدي. يبتعد عن الخناقات حتى تنتهي، لا يستجيب إلى استغاثات الناس، ولا يسكت مخاوفهم.
- اختار فتوة لقعداته قهوة عرفة أول شارع صفر باشا.. اختار فتوة آخر قهوة أنح المقابلة. يصرون على إظهار العداء.
قال محفوظ سمك:
- كما أعرف فللفتوات عرف0
قال سلامة:
- القوي يتجاهل ذلك العرف!
واصطنع ابتسامة يخفي بها ضيقه:
- أخشى أننا سنجد ذات يوم فتوة لكل مواطن!
تعدد ارتفاع الصراخ والعويل واللطم والنشيج والبكاء. تحولت أفراح إلى مآتم، انشغل الناس، كل بنفسه، يتوجسون من أذى الفتوات، يتوقعونه، يضعون الاحتمالات التي تضرهم، في غيبة من تأثيرها على سواهم. لاذوا بالمساجد، فروا من فتوات شوارع وأحياء إلى أماكن بعيدة، طلبًا للطمأنينة والأمان. فاجأتهم سطوة فتوات آخرين. كتب عرضحالجية المحاكم والحقانية وكتبة المحامين مئات الشكاوى والبلاغات والالتماسات، تشرح الأحوال، وتأمل إزالة الغمة، ودعا الشيخ زين عبد الحي - في خطبه - حتى يفرج الله الكروب.


ترامى صوت. التفت ربيع أبو العزم ناحيته. لمح – من النافذة المواربة – تلويحة اليد. هم برفع يده محييًا، ثم أبقاها إلى جانبه لغياب اليد الملوحة داخل الشقة.
حسب الناس ربيع أبو العزم فتوة، وإن أنكر هو الصفة. استغنى – بفتوته – عن لمة المساعدين من حوله. تكفيه عافيته.
أشار إلى كلمات على جدار بشارع فرنسا: نريد الخبز بدل السلاح.
 لوى فمه في استغراب: ما قيمة الخبز بلا سلاح؟!. وقال: بدون السلاح لن نحصل على الخبز، ولا على أي شيء. وقال: العدل هو ما نحتاجه. وقال: إذا تحقق العدل فستتلوه ضرورات حياتنا. وقال: لا موضع للعدل في ظل الفتونة!. وقال: لم تعد الأوضاع تطيق معارك الفتوات. هذه أيام الحرب والغارات والغلاء والظروف القاسية.
كان صندوقًا مغلقًا، مغاليقه عصيّة الفتح، فمن الصعب أن ينفذ محدثه إلى داخل نفسه. لا أحد يعرف ما يدور في ذهنه، ولا ماذا يخفيه. يضع على وجهه قناعًا من الصمت، فمن الصعب قراءة مشاعره. في داخله الكثير من المشاعر التي لا يفصح عنها، لا يتكلم إلّا بما هو ضروري. شفتاه مطبقتان، يفتحهما للتعقيب، أو للرد على سؤال، ثم تعود الشفتان إلى انطباقهما. يرفض التوعد والتهديد. الكلام الهادئ أيسر من الزعيق في دخول القلب. يأخذ مع الناس، ويعطي، يشعر من يحدثه بأنه ينصت جيدًا، يأخذهما الكلام، كأنهما على معرفة قديمة، قد يميل إلى البسط والمداعبة بالنكتة والقافية والعبارات الملمزة، وإن وضع حاجزًا غير مرئي يرد رفع الكلفة. لا يخفي أمرًا ما لم يعرف الشر فيه. يغفل الأسئلة التى تتعلق بحياته الخاصة. يشتري ولا يبيع، يحرص أن يحتفظ بهمومه، يكتمها، لا يبوح بها لأحد. يختزن في صدره ما لو أعلنه فسيلقي الخوف في نفوس مناوئيه، وعرف الناس ما حرص على كتمه. إذا غضب ارتعش أنفه، وإن ظلت ملامح وجهه ساكنة. عيناه لا تطرفان، يحزن، وينفعل، فتظل عيناه ثابتتين. لا يتكلم إلا ردًا عن سؤال، بضع كلمات تؤدى المعنى.
قربه جمعة مخلوف منه، وخصّه بأسراره. أتاح له معرفة ما لا يعرفه أحد. حذره أن يكشف ما عرفه من أسرار. يحرص على ما يرويه له، ما أتمنه عليه. هو سر، إذا عرفه ثالث فلن يكون سرًا. السر – إن خرج من اثنين – لم يعد كذلك.
- إذا تخليت عن الأسرار، فأنت تتخلى عن حياتك!
وبنبرة هامسة:
- لا تأمن حتى لنفسك!
صمت أمام القول الشائعة أنه ابن صوفة لا يعرف له الناس أبًا!
هل يكون الشيخ أحمد موافي خادم سيدي جابر الأنصاري هو الأب؟
زمنه – في قراءاتي – قبل أن يظهر زاهر العليمي في حياة الناس. عرف بتردد النساء على حجرته المجاورة للمسجد، يضوع البخور، يردد الأدعية والتعاويذ، يعطي المرأة صوفة تدسها في الرحم العقيم، فتحمل بإذن الله.
هل نطفة الصوفة من الشيخ أحمد موافي؟ هل هو والد ربيع أبو العزم؟
رآه الناس فى صباه يفتش فى بقايا الطعام الملقاة جانب الطريق: بقايا بطيخ وكسرات خبز وثمار فاكهة أصابها العطن. أهملوا – بالخوف - أصله، ونسبه، وسيرته. أتاح له المعلم الزردوني قضاء الليل في قهوته لقاء تنظيف القهوة، وغسل الأكواب، وتجهيز النارجيلات. فرش منديلًا على رصيف أبو العباس، إلى جوار الباب الكبير، وضع عليه ما يشتريه المصلون: مسابح، شموع، أعواد كبريت، علب عنبر، قراطيس بخور، كتب أيام العرب، قصص الجاهلية اليمنية، قصص القرآن، السير الإسلامية، المقامات، أسجاع الكهان، ألف ليلة وليلة، الزير سالم، سيرة عنترة، السيرة الهلالية. وثمة آيات قرآنية تتعالى من الفونوغراف الصغير، وسط تناثر البضاعة.
عمل - بعد أشهر - حمالًا فى الدائرة الجمركية، وشارك فى عمليات تهريب البضائع والنقود، وفى البيع والشراء، والمشاركة والمضاربة والمقايضة. اشترى مزرعة دواجن في كفر الدوار، ومعمل ألبان في السيوف، ثم اتجه لشراء البيوت القديمة، يجرى عليها ما تطلبه من ترميمات وتحسينات، تبدو كالجديدة، فيعرضها للبيع. عمل في سمسرة العقارات، وتأجير الشقق. اشترى سيارة نقل ضخمة، ينقل عليها الخضر والفاكهة بالجملة من عزبة خورشيد والسيوف والحضرة إلى شارع الميدان.
أول ذكره لقيام الحرب قوله في قهوة فاروق:
- قيل إن هتلر دخل بولندة.
حدجه شيخ الصيادين عيد الناري بنظرة متسائلة:
- من هتلر؟ ومن بولندة؟
- غيّبك المزاج عن الأخبار التي تطاردنا في الصحو والنوم.
تلتقط عيناه وأذناه وأنفه ما يشي بالحرب: المخابئ، سواتر الطوب، أكياس الرمل والإسمنت، قيود الإضاءة، غلبة اللون الأزرق على النوافذ ومصابيح الطرق، تناثر عربات الكشاف على امتداد الكورنيش تمسح السماء بقدوم الليل، جماعات عساكر الإنجليز والهنود والأستراليين والأفارقة، أخبار الانتصارات والهزائم، سقوط باريس، معارك ستالينجراد، اختلاط أسماء هتلر وموسوليني وبيتان وتشرشل وستالين وديجول ووارسو وبروكسل وباريس، صراعات الأحزاب. شح البضائع والاحتكار والغش وغلاء الأسعار. 
قصر نشاطه على تجارة السوق السوداء. عمل في بيع المواد التموينية: السكر والشاي والزيت والدقيق والأرز. حتى أكفنة الموتى تاجر فيها خارج بطاقات التموين. 
عرفه الحي مالك وكالة، وثلاثة أروقة، وعشرة دكاكين، وحاصل، وربع فى ناحية المعمورة، بالإضافة إلى اسطبل السيالة. بنى بيتًا يطل على خليج الأنفوشى، أقرب إلى الفيلا، أو القصر الصغير.
من حق الفتوة - في رؤيته - أن يتنعم بالحياة، يتمتع بأطايبها، يميل إلى الترف فى مأكله ومشربه، يحرص على ارتداء فاخر الثياب. في أحيان كثيرة يهمل السيالة الفضفاضة والصديري، يفصل بدله على أحدث الموضات عند ترزي في لوران. عدا أشهر الصيف لا يبدل حرصه على ارتداء البدلة الكاملة والكرافتة، يطل من جيب الجاكت العلوى طرف منديل حريرى، ربما استبدل به زهرة قرنفل في العروة، محاكاة لملك القطن أحمد فرغلي. يميل  طربوشه على حاجبه. المنشة ذات المقبض العاجي في يده يذب بها الذباب. يضيف إلى مظهره جسد ممتلئ، عملاق، وعينان بنيتان، نفاذتان، وشارب غطى فمه. يعتز بأنه لم يخلع ضرسًا فى حياته. 
اقتداء بالشيخ يونس الكحكي إمام جامع ياقوت العرش، ربى مساعده فصادة ذقنه، وحفا شاربه على السنة. 
تفحصه ربيع أبو العزم بعين رافضة: 
- إطلاق اللحية ليس شرطاً للإقناع.
ربما استبدلت أصابعه بالمنشة عصا رفيعة من الأبنوس، لها مقبض ذهبي، وابتسامة لا تفارق وجهه. يبدو – من البنطلون – تقوس ساقيه. حدس شيخ الصيادين عاشور حميدة أنه يلعب كرة القدم. وجد في تسمية الأبو أحمد قيمة أجمل من تسمية الفتوة. فتوات هذا الزمان بلطجية، يأخذ عليهم التعامل بوازع من الغيرة والحسد، وامتلاء قلوبهم بالغل والكبر. كما استغنى عن تسمية المعلم، استبدل بها تسمية رجل الأعمال، هو رجل الأعمال ربيع أبو العزم.
مفردات عالمه الشمس والقمر والبحر والرمل والهواء والسماء والسحب والمساجد وحلقة الذكر والمطاعم والمقاهي والدكاكين ودور السينما والمسارح والنافورات والحدائق واللافتات والحكايات والذكريات والشوق إلى الليالى البعيدة. أحب رؤية المناظر الجميلة، ومجالسة النساء الجميلات، وإن عزف أن تنشأ بينهن وبينه علاقة حسية، ورفض أن تتردد الخواطى على بيته.
عز شغله في مواكب الحملات الانتخابية وحفلات الختان والزفاف. حتى سرادقات العزاء يطفئ أتباعه أنوارها.
حين عرض عليه مناصرة مرشح الوفد في الانتخابات، هز رأسه وكتفيه: 
- لا وقت عندي أضيعه في السياسة.
وأكمل بالقول:
- السياسة مجرد خطب وثرثرات كلامية.
وران على صوته تراخ:
- لذلك أرفض الجلوس على القهوة التجارية. خناقات بالكلام!
حفزه انتخاب المحامي أحمد الأجهوري عن دائرة الجمرك على التفكير في خوض الانتخابات  القادمة. لا شيء يمنعه من دخول مجلس النواب، وربما اختياره وزيرًا.
يبدأ يومه بشرب الماء من القلة التى برّدها هواء الليل. اعتاد الناس نزوله البحر عقب صلاة الفجر، تغمره أنفاس البحر، لا صلة لاستحمامه بالجنابة أو الاحتلام. النظر إلى المرآة عادته اليومية، يتأمل – كل صباح – ما طرأ على ملامحه من تغيرات، يتأكد من تسريحة شعره، يجرى بإصبعه على شاربه، يعدل من فتحة القميص، أو الجلباب. يجلس – ضحى كل يوم – على باب البيت، يستقبل أشعة شمس الشتاء، تقوى البدن، تيسر الحركة، ثم يخلو إلى نفسه في الحديقة المقابلة لسراي رأس التين، يؤدي حركات لتليين العضلات. يقضي وقت العصر في سطح البيت المطل على خليج الأنفوشي. يستلقي على الكنبة البامبو، يستطيع – من موضعه – رؤية كل ما فى مساحة الخليج إلى نهاية الأفق. يقرأ جريدة" السفير"، يهمه متابعة سباق الخيل في سبورتنج. تنطلق أسراب الحمام من البنيات. سماء بحري ساحة طيرانها، يتابع تحليقها، تمضي إلى أبعد من الخليج، أو فوق البنايات إلى ما بعد أبو قير. تعود كما كانت، أو بما صحبته من أسراب أخرى. لا يخشى فقدها، فلابد من العودة. يضع إصبعيه في فمه. يطلق صفيرًا يستعيد به حمائم البنية، وما ولفه من حمائم البنيات الأخرى. حتى لو أحب الذكر أنثى من بنية بعيدة، فإنه يصحبها إلى البنية، أو يعود بمفرده. يطير فرد الحمام وراء الوليف، لكن الحياة التي اعتادها في بحري تعيده. 
بحري أجمل ما يكون في أوقات العصاري. يترك بنية الحمام لأكبر أبنائه، يطلق أسراب الحمام، ينتظر أوبته، كاملًا، أو بزيادة حمائم من بنيات أخرى. يسير – بطول الشاطئ – من مرسى القوارب إلى سلسلة الشاطبي. يثق أن البخار الصاعد من مياه البحر يغسل هواء الإسكندرية. يرنو إلى شمس الأصيل الغاربة، والمآذن وأسطح البنايات والأدوار العليا. أضواء الشارع والبيوت في امتداد الطريق تنعكس على مياه البحر، أشرعة القوارب تلوح في مدى الأفق. ضوء الفنار يشق ظلمة السماء. ربما تظاهر بالتحديق فى أفق البحر، حتى لا يطيل الوقوف أمامه باعة الفريسكا والساعات والسبح والأقلام والنظارات الشمسية. يواصل السير، أو يعود. 
الإسكندرية ما بين رأس التين والمنتزة محندقة، لا حاجة لمن يسير فيها بوسيلة مواصلات. يتردد على دور السينما والمسارح والكازينوهات، تستهويه الأفلام الإيطالية في سينما ريالتو. ردد مع المغنية نعيمة الصغير أغنياتها المتغزلة بالعسكري الإنجليزي جوني، أحرق عشرة جنيهات نقطة للراقصة تحية كاريوكا في كازينو ستانلي، أخذه الانبساط، فأزاح الطبال من كرسيه، وجلس مكانه. رافق أداء الراقصة بدقات الطبلة ( لاحظ الفنان أحمد المسيري وجوده بين مشاهدي عرضه في موضع شادر البطيخ بالمينا الشرقية. أمر الفرقة الموسيقية بعزف السلام، تحية له )، يجيد العزف على عدة آلات: الكمان والكلارنيت والهارمونيكا والآلات النحاسية. يشاهد مباريات كرة القدم في الخلاء المواجه لقصر رأس التين، وأيمن خليج الأنفوشي. يستقل لنشًا من مرسى القوارب، يدور به في مساحة المينا الشرقية، ما بين المرسى وانحناءة الشاطبي. تأخذه الرغبة في المشاركة، يترك التسلي بصيد السنارة، يصاحب الصيادين - بالتعاطف - في إلقاء الجرافة، وسحبها - بعد أن تمتلئ - إلى الشاطئ. 
قد يستقل الترام من الميدان، قبالة مستشفى الملكة نازلي. ينزل فى المنشية، يتردد على سوق الجمعة لمعاينة أنواع الحمام. يفضل السير في شارع سعد زغلول إلى ميدان محطة الرمل، يتأمل الفاترينات واللافتات والواقفين على ساحة محطة الترام. يشتري من " جوجو" كيس فشار، أو آيس كريم. ربما احتسى الشاي على قهوة جانبية، ثم يعود إلى بحري. يرنو إلى المآذن والقباب والأبراج والطوابق العليا وأشجار النخيل، يري مئذنة المرسي مضاءة  فيعلم أن الذكر قائم.
يرحل - في أوقات متباعدة - خارج الإسكندرية، يصيد البط في كينجي مريوط. الأمن والطمأنينة والرضا واللامبالاة والعيش في جزر يصنعها الخيال.
كون صداقات مع تجار وأصحاب وكالات ورجال أعمال في أحياء الإسكندرية، هم غوثه إن واجه مشكلات، أو ظروفًا قاسية. له أصدقاء كثر يؤانسهم في البيوت والمقاهي والخلاء وشاطئ البحر. يقدر الصنيع. يحرص في نفسه على حسن النية، لا تتغير إلا إذا تبين فى المرء خسة ولؤمًا.
عني بقضاء حوائج الخلق. يهب المنح والهدايا، ويرعى الأسر، يعلو الانبساط ملامح وجهه حين يلجأ إليه الناس يطلبون رأيه وعونه، يحرص أن يفي بما وعد. إذا عرضت عليه مشكلة، فإنه يحاول التوصل إلى جذورها، ليتمكن - بتقصي الأسباب - من احتوائها. يؤلمه أن كثرة المشكلات التى يعانيها الناس تحول دون حلها بما يطمئن إليه.
ألف موظفو الميناء تردده على مكاتبهم، لا يطرق الأبواب، ولا يستأذن، يحمل أوراق قاصديه لحل مشكلاتهم في إدارات الميناء، يستحث، يغري، يلوم، يحرص أن يكون كل شيء في موضعه تمامًا. بطء الساقية لكسل الجاموسة التي تديرها.
لجأ إليه أهل بحري لحمايتهم من اعتداءات أتباع الفتوات الآخرين. لفتوته في أذهانهم تصورات متباينة. تعددت الشروح والتفسيرات. طبيعى أن يغلب القوى الضعفاء، لكنه لم يعتمد فى علاقاته بالناس على قوته، ولا على التخويف، لم يبتز، ولا فرض إتاوات، الإحساس بالطمأنينة ينبع من داخل الإنسان، هو الذي يرضي بما يحياه، أو يجده محملًا بالقلق والخوف. لا يجول في شوارع بحري وحاراته وأزقته كي يظهر فتوته. 
ذلك آخر ما يشغله.
التمشي – بلا هدف – متعة يريدها، يترك شومته في أيدي اتباعه، يكتفي بالعصا ذات المقبض العاجي، على شكل رأس حصان. يخالط الناس, يلقي التحية على القعود في المقاهي والدكاكين والخارجين من المساجد. يخطف نظرة على شبان حمر الوجوه، يرتدون زي البحارة، يتلاصقون - وقوفًا - داخل عربة حنطور في طريق البحر. تعلو نظرته، فيبادر بالتحية للوجوه المطلة من النوافذ والشرفات. على وجهه ابتسامة ثابتة، لا يبدلها. اختبر في نفسه كل المشاعر، قلما يبدو عليه انفعال، تتساوى اللحظات. 
يجيد خلق الصداقات، والاحتفاظ بها. بداية الكلام مع شخص يلتقيه للمرة الأولى، هي بداية معرفة تؤكدها المخاطبة بالاسم الأول. اعتاد المباسطة مع أتباعه، والإصغاء إلى أسئلتهم، وما يشغلهم من ملاحظات. يمتلك رصيدًا من الأمثال الشعبية والأقوال المأثورة والحكم. لا يفلت طرف خيط الممازحة. في حوزته حكايات وحواديت كثيرة، وحصيلة لا تنفد من النكات والقفشات والتعبيرات الملمزة، ينسى الخصومة، يعود إلى من اختلف معه، كأن شيئًا لم يكن. إلى جواره نوع مفتخر من العطور، يرشه الخادم على ثيابه فور أن يخلو مجلسه من الزوار.
وبخ مساعده سمانة لإقدامه على دفع الناس من طريقه:
- هل تحسبني الملك؟
رأى زحامًا أمام دكان يوسف خليل البقال بشارع الميدان. مال يتبين الأمر. مساعده راضي دعبس يرمق يوسف خليل بنظرة مشتعلة، ويضرب الأرض بالشومة، والناس من حوله يرجون، ويستعطفون.
- ماذا يحدث؟
قال راضي دعبس:
- يرفض دفع الإتاوة.
قال يوسف خليل:
- لم أرفض. الظروف قاسية.
سحب أبو العزم شومة مساعده كابوريا من يده، ألقى بها في الطريق:
- باسم من تطلب الإتاوة؟!
وفاضت عيناه بالأسى.
-  مساعد الفتوة لخدمة الناس لا لترويعهم.
ثم وهو يطوح بعصاه ذات المقبض العاجي: 
- كابوريا بلطجي وليس مساعد فتوة. الفتوة يحمي الغلابة. 

ولانت تعبيرات وجهه، وإن ظل صوته على خشونته:
- خليفتي واحد من أتباعي. أرفض أن يكون خليفتي بلطجيًا.
الحياة قاسية. لماذا نزيد من قسوتها؟
طرد مساعده ضيف البيلي لانتزاعه سلسلة ذهبية من عنق سيدة في شارع الميدان:
- اذهب، فلا أراك أمامي بعد الآن.
والتمعت عيناه بالتأثر:
- المرأة فقيرة، السلسة قشرة.. من مصوغات الجمل.
واستطرد فيما يشبه الاستنكار:
- لا موضع بيننا لنشال!.
ورشق البيلي بنظرة غاضبة:
- نحن نحتاج إلى الناس لكي نعيش. الناس ليسوا في حاجة إلينا.
أجاد ربيع أبو العزم التحطيب شأن القادمين من الصعيد. يمسك العصا، يرفعها، يخفضها، يطوّحها، يدور حول نفسه، تتحرك القدمان بينما الجسد ساكن، يتقدم، يتراجع، يقفز في حركة الانقضاض، يسدد ضربة في جانب الخصر، ينكفئ الخصم محنيًا، ينكشف رأسه للضربة التالية، تعلق عصاه في الهواء، ثم يرخيها.
في باله قول المعلم مخلوف: 
- الشومة وحدها لا تجعل حلم الفتونة حقيقة.
ثم وهو يطوح بالعصا في الفراغ:
- الفتوة يضرب بالشومة، لا يكتفي بإمساكها.
الشومة ليست في خفة العصا، لكنه يجيد التلاعب بها.
يطيل مجالسة عم مكيوي على كرسي القش المجدول داخل كشك حنفية المياه العمومية المواجهة لجامع الموازيني. اتخذه سميرًا، يؤانسه. لا يأذن بفتح الحنفية إلّا لمن تدفع مليمًا. أشيب الشعر، رأسه مدفوس فى جسده، كأن عنقه اختفى، عيناه يغشاهما العماص، الغضون والدوائر الرقيقة تحيط بجانبى عينيه وفمه، وجنتاه غائرتان. يطل من منخاريه الواسعين شعر كثيف،  فمه خلا من الأسنان، عدا السنتين العلويتين الأماميتين، يرتدى جاكتة فوق جلباب من الكستور المقلم، ويدس قدميه في قبقاب. يضع الدخان الفرط فى ورقة البفرة، يلعق طرف الورقة، ثم يديرها فيصنع سيجارة، يحملها بين إصبعيه، ويقربها من فمه. 
اطمأن أبو العزم إلى ثقة أهل بحري فى حمايته لهم، تسعده لمة الأولاد، يحيطون به، ينادونه باسمه، يتعمدون ملامسته، يربت رؤوسهم، يوزع عليهم قطع العسلية. يلتفت - بأعين ملتمعة – إلى دوائر الناس من حوله.
أعاد لتسمية الفتوة اعتبارها، بعد أن ابتذلها المحسوبون على الفتونة في أحياء الإسكندرية. يمتلك بساطة، تتباين مع ما عليه الفتوات من حدة التصرف. الضرب بالشومة ليس هدفًا، نستغنى عنه إن استبدلنا به الإقناع، الفتوة الحقيقي يرفض الغدر، لا يفاجئ المتعارك، يهمه التكافؤ قبل أن يرفع شومته. يجيد السيطرة على مشاعره، والتظاهر باللامبالاة. الحب جسر علاقاته فى بحري، وإن رفض أن تكون طيبة قلبه مطمعًا، فيخفت صوته فى غابة الفتوات. نحصل على حقنا، ولا نطمع في حقوق الآخرين. لا يميل إلى إظهار قوته، ويلجأ إلى العنف لحظات الضرورة، لكنه يرفض الضعف، الاستكانة والتخاذل. يعرف ما في داخله من قدرات. الغلبة لا تتحقق بالقوة الجسدية وحدها، تساعده قوى أخرى مثل المهارة والحيلة والدهاء. عاقبوا بلا إراقة دم!. القوة منحة إلهية، حرام أن يهدرها في أذية الخلق. ينعي حتى هم المساعدين الذين أحسنوا به الظن، واطمأنوا إلى حمايته. عندما تواجه آراء مخالفيك بالقوة، فهذا دليل على إنك لا تملك تبريرًا لأفعالك.
ثم وهو يكور قبضته، ويهزها فى الهواء:
- الفتونة اختيار، إما أن يفرض المرء مكانته أو يحاول النجاة بحياته.
استطرد وهو يعدل من وضع النظارة الشمسية فوق أنفه:
- أن تفرض مكانتك أهم من أن تملأ معدتك. المكانة تراها في أعين الناس.
ألف الناس رؤيته في أوقات النهار، يبادلهم السلام والتحية والكلمات الطيبة، يجالسهم في المقاهي، وأمام الدكاكين، وأبواب البيوت. ينادى الشخص باسمه الأول، بمجرد أن يتعرف إليه. يكلمه، كأنه يعرفه من زمن. ربما ابتسم لتلويحة يد من نافذة أو شرفة، يطول تنقله بين الأماكن، والدخول مع الناس في مناقشات لا تنتهي، يكرر الرواية - يقسم أنها حدثت بالفعل - أنه شاهد يد ولي الله أبى الدرداء تلقي طوربيد الألمان في غيط الصعيدي المطل على ترعة المحمودية. التقطه الولي في سقوطه، حول مساره قبل أن يدمر الإسكندرية. يطبطب على طربوشه، يتأكد من موضعه في رأسه. إغماض العين يفصله عن كل ما حوله. يتنقل بين أمكنة تستدعيها الذاكرة، أو تتخيلها. إذا تكلم، أو أنصت، فإن عينيه تتسعان بما يشبه الدهشة تلتمع عيناه بالدمع للمواقف الحزينة. إن أخذه الضحك، انطلقت من حلقه شخرة عالية لم يتوقعها، ويغالبه الارتباك لتأثيرها فى النظرات الداهشة.
بادره الشيخ المنجي عبد المطلب في جلسته على قهوة قصر الباشا:
- أهلًا بالرجل المنقذ!
هي التسمية التي يطلقها على ربيع أبو العزم، منذ دارى نومه، وقت رفع أذان الفجر في أبو العباس.
فوجئ أن الأذان يرفع من مساجد قريبة: البوصيري، ياقوت العرش، نصر الدين. يعرف أن الشيخ المنجي أسبق الجميع في رفع الأذان. صعد السلم الحلزوني حتى البسطة النهائية للمئذنة.
أدرك ما حدث.
صعد الشيخ إلى المئذنة لرفع أذان االفجر. ردد التسابيح والابتهالات، شعر أن الكسل يتمدد فى خلاياه، وأنه يميل إلى النوم، أسند ظهره - في انتظار موعد الأذان - إلى جدار المئذنة. أخذته نومة في جلسته المسترخية، في بسطة السلم. يشي صوت شخيره، أنه قد استغرق فى النوم.
الصلاة في المسجد، والأذان يسبق الصلاة، يرفعه الشيخ، إيذانًا بموعد أداء الفريضة. يردد الأدعية فى وقت السحر من ساعات الليل. يؤدي تسابيح ما قبل صلاة الفجر. ينسى كل ما حوله، يتجه بتسبيحاته إلى السماء وعباد الرحمن. تعقب التسابيح رفع الأذان، تصنعها الكلمات والأوتار الصوتية والطبقات والمد والتطويل والعلو والخفوت والتنغيم والإرسال والترجيع. تنطلق في ظلمة الليل والسكون والآفاق المترامية ونسائم السحر.
تثاؤب الشيخ المنجي دل على مغالبته النوم، صوته كالحشرجة، وكلماته متقطعة.
أزاح الشيخ إلى جانب البسطة الصغيرة، مال على شرفة المئذنة، وضع راحتيه حول وجهه، وعلا صوته برفع الأذان.
جال الشيخ المنجي فيما حوله بنظرة ممتنة: 
- تصرف رجل وليس شقاوة عيال!
كتم أبو العزم ضحكة لاستعادة ما ألمح إليه الشيخ. 
صحا الشيخ المنجي من جلسته النائمة في القهوة على نظرة مبحلقة. تحسس شاربه. عرف أن نومه أغرى من لا يعرفه، فقص شاربه. انتتر بالزعيق والصراخ والشتائم والنظرات المشتعلة.
اعتاد السير فى الشوارع بلا هدف، يميل فى المفارق والتقاطعات والمنحنيات. يطيل الوقوف أمام فرشة بائع الصحف على ناصية ميدان المنشية، ثم يواصل السير دون أن يشترى. لا يعرف ماذا يفعل، ولا إلى أين يذهب. يمضي في الشوارع المتوازية، والمتشابكة، والمتجهة - فى تلاحقها - إلى طريق الكورنيش. كل الشوارع تمضى إلى البحر، قد تتقاطع أو تتشابك، لكن البحر هو الوجهة النهائية. يتشاغل بعد الأشياء: بلاطات الأرصفة، الأشجار، أبواب البيوت، النوافذ المفتوحة، أو المغلقة، أعمدة النور. 
- لو خيرت بين العيش في شارع البنوك والعيش في بحري، فسأختار بحري.
ساحة بيته تمتلئ بالصيادين فى أوقات النوات، وعدم استطاعة نزول البحر. يشعرون فى وجوده بالطمأنينة والأمن، يقتص من الظالم، ويظهر الحق. يؤاخي حتى بين كلاب الحي وقططه، وبين القطط والفئران. الكل يخضع لحمايته، يتردد على أسواق الجمعة والباب الجديد وباب عمر باشا وغربال وعداية وشارع الميدان وشيديا ووكالة الخضر والفاكهة بالحضرة، يقتنى ما يستلفت نظره: أثر قديم، مسبحة شحب لونها، ساعة بكتينة، حجاب، نسخة من القرآن الكريم، مكتوبة بالخط القديم. خرزات مختلفة الألوان، عملات معدنية قديمة، ثياب مستعملة، قلادات وأقراط من الذهب. إذا تناول نقودًا فإنه يدسها فى جيبه دون أن يعدها.
- الحمد الله على عطاياه، والحمد على ما قد يلحقنا من أرزاء.
يمشي في شوارع بحري بإحساس المالك، الأب الذي بخالط أبناءه، يعرفهم، يناديهم بالاسم، يناقشهم، يسأل، يجيب عن الأسئلة. يده تعلو بالتحية، وتمتد بالمصافحة، حتى لغير الأصدقاء والمعارف.
عبر صبية في الساحة الصغيرة، أمام مقام مكين الدين الأسمر، ( جوار ياقوت العرش، وأمام المرسي ) يقرعون الكيزان والأوعية، يتوسلون: 
يا بنات الحور.. خلوا القمر ينور. 
رنت نظرته – بعفوية – إلى السماء، وأنزلها، دون أن يلحظ القمر وما أصابه. 
يرضى عن محاكاة الأولاد معاركه مع فتوات الأحياء: الضرب بالقبضة، الركل بالقدم، المقص. يرفض الجلوس على المقاهي، ويقصر ما يشربه على الشاى بالحليب، ويعتز بأنه لا يعرف القهوة أو السجاير.
يقضي وقتًا في اسطبل السيالة، أو في سطح البيت المطل على خليج الأنفوشي، يطلق أسراب الحمام، ويستعيدها. أسعد أيامه لما عادت أسراب الحمام، بصحبتها فرد عرف أنه من بنية فتحي الويشي فتوة اللبان.
يحرص أن يدخل أى مكان بالقدم اليمنى، يخشى أن يحسبه الله من أهل الشمال. يكثر من ترديد المعوذتين لكتم الشيطان فى داخله. رفض دعوة حسين دغيدي، عضو مجلس النواب، لتناول الطعام بالشوكة والسكين. الأكل بغير أصابع اليد من فعل الشيطان. أكله لقيمات، يطمئن إلى أن إن قلة طعام المرء تقلل الفضلات في جسده، وتقلل إمكانات المرض.
يكثر من الدعوات بأن يزيل الله البلاء، وتعم البركة حياة الناس. يحث مساعديه على أن يسيروا فى أمور الناس على الطريق المستقيم.
- أهل بحري عاشوا قبلنا بلا فتوات. وسيحيون بعدنا بلا فتوات.
علاقاته طيبة بناس بحري. لا يتيح لأي قول، أو تصرف، أن يخرجه عن هدوئه. لا يقطع أحدًا إلّا من أمر الله بقطعه، ويميل إلى الصفح والتغافل، وإن قطع، فذلك ما يفعله مع الصفة، وليس مع الذات. إذا حدث ما يقلقه، يضايقه، يغيظه، فإنه يهمل التفكير فيه، كأنه لم يقع. دنياه الأمن والطمأنينة والرضا واللامبالاة والعيش في جزر يصنعها الخيال.
يمتلك قدرة على قراءة الوجوه، واستكناه المضمر، يطمئن إلى حدسه دون أن يأخذ، أو يعطي، يشعر تجاه من يلتقيه للمرة الأولى بالألفة، كأن صداقتهما من زمن. يكثر من إبداء اعتزازه بأنه بلا أعداء، ولا يعانى ميولًا شاذة، ولا يتردد على الأماكن المشبوهة، معظم أوقاته خارج البيت يمضيها فى جامع نصر الدين، أول السيالة، يحافظ على الصلوات في أوقاتها. يفرغ لتلاوة القرآن، أو يقرأ فى الكتب الدينية. إن آوى إلى فراشه ظل يذكر الله حتى يغلبه النوم. يؤدي صلاة الجمعة في مسجد أبو العباس. يحرص على الصف الأول، خلف الإمام.
يسحب من تحت الوسادة – قبل أن يترك السرير – مصحفًا صغيرًا، إذا داخله حزن، خلا إلى المصحف، يتلو آيات من القرآن الكريم يقرأ – بنصيحة الشيخ زين عبد الحي – آيات محذرة من أذى المخلوقات الشريرة. يستعيد ما يتذكره من الأوراد والأذكار.
 





تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي

تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي جوجل نيوز جوجل نيوز

يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل

اترك تعليق