كتبها/ أحمد الشدوي
- ندرك أن الرواية أي رواية تعتمد في الأساس على إيجاد المفارقات بين أحداثها ، وبين معرفتنا العقلية ( أي الممكن) ، وقد ورد ذلك تفصيلا في معجم ماريو للفلسفة ، غير أن الإمساك بهذا الخيط في عالم تكون أساساً للرواية كما هو عالم الدانة لدي صباح فارسي ، فإن الاشتغال سيظل على حرفية التقنية ليبقى هذا الخيط الخفي متماسكا حتي النهاية ، وهذا ما أثار إعجابي بهذا العمل الروائي ، حتى أني اطلقت عليها رواية التقنيات السردية المتماسكة ، في قاع البحر وسطحه .
- أول هذة المفارقات في العنوان ، فهو إشتغال احترافي لعمل يتشابك بغرائبية بين ما ترسله الرواية من إشارات خلاقة ، خلقها قلم يدرك الفنار ، وبين عقلية معرفية يكتسبها سكان المناطق الساحلية في كل مكان "فالهمهمة" لغة جديدة تسجلها الكاتبة كإدراك تراتبي ، وتضع له شروطه التي أخضعتها للفحص طوال العمل ، فالعنوان لوحده تعدى مفاهيم كبار الكتاب ، خد مثلا شذرة أميل سيورات تغريدة ( المياه كلها بلون الغرق) .
- إنما همهمة المحار خلق جديد وعبقري لهذا الغرق ، والإهداء رسالة تربط الرواية بواقع عالم الظل المتربع في قواقعه ، على إن العمل حصل على مساندة بتدخل شخصي من الكاتبة ، وهو من الأعمال القليلة في عالم السرد أن يحظى به الداخلون إلى متخيّل المتخيّل ، وحين وضعت إستهلالاً للعمل بالتعريف بالقواقع بما يتناسق مع النص ، لتضع أسئلة لا لكي يجيب عليها النص ، " مع أنه اجاب" لتفتح جناحين يطير بهما السؤال كما يقول "عبده خال" ( السؤال له جناحان يطير بهما ) .
- منذ البداية تُوقِف الأحداث لتضع الوصف وهي تقنية خطيرة ، قد تجعل قارئ السرد لا يتنامى قراءة للعمل ، ولكنها وبحرفية فائقة طعمتها بإحداث تدخلنا في عالم السرد ( تدار الصفقات قبيل الموسم الكبير للغوص) .
- والدانة المكان المتخيل لرواية همهمة المحار، مكان قد ينجح أو لا ينجح لدى كتاب السرد ، حيث التراتبة يقول تارجان مولينو ( إن الانزياح الذي يقوم عليه المجاز المرسل ، يتم تجاوزه واختزاله لوجوده أساساً في التراث الكلاسيكي ) فهل نجح هنا في هذا النص ؟ والاجابة على هذا السؤال في النجاح الكبير للربط بين زمن متخيل في مكان متخيل ، وكلاهما الزمن والمكان نعرف جيدا بعد قدرتنا على الامساك بهما ، لكنهما هنا شكلا ملمحا ل " هناك" كما يصفه كامل العامري ، - ولذا فإن النص نجح بمهارة فائقة في جعلنا نمسك بالمكان والزمان والوصف والحدث ، ذلك لسبب واضح ، فقد رسمت الشخصيات بطريقة " ربط الهوية بسلوك التلفظ " المعتمد أساساً بعلاقات القوة أو التضامن أو التضاد بين أبطال العمل، ولهذا تربعت رسائل الغرام المهدور على أجزاء كثيرة من الرواية ، وقد نتفق أو نختلف حول هذة التقنية ، حيث يعتبرها البعض أنها تؤثر سلبا على السرد لمباشرتها ، بينما يعتبرها البعض الآخر مصدر قوة ، حينما تكون موظفة في مكانها كما هو في هذا النص .
- ويمكن التوسع في قراءات اللغة والخطاب للباحث الجزائري "محمد لطفي الزليطي" ، على أننا ندرك جيدا أن الرواية اعتمدت ثنائيات كثيرة ليتم صنع المفارقات ، كثنائية الفقر والغنى ، وثنائية الجمال والقبح ، وثنائية الأخلاق العالية وتمثلها في ذروتها " جدة دره" والأخلاق الفاسدة ويمثلها في ذروتها صاحب المتجر ، غير أن أهم ثنائية وردت هي ثنائية الحب والكره .
- وتم إختراع الكثير من الحيل السردية لتسير هذة الثنائية بكشف المستور ، داخل بيوت الدانة ، وهمهمات محارها ومن الحيل السردية ، إختراع الشذرات ، التذكير بالأحداث والوصف بالظلال ، التي تجعل الدانة وأبطالها يسيرون في هذا القالب المرسوم لهم من الضباع ، ومن أهم الحيل السردية في هذا النص هو اطفاء المحيط ليظل العمل عالما قائما بذاته ، عدا بعض التسريبات الخاضعة لنفس الحيلة ، كذهاب دره إلى لوس أنجلوس ، واعتزالها ليس فقط في داخل شقتها أو حجرتها ، بل في سريرها مع جدتها وخضر ذاك المطر الذي أغرقها ، وخلق تلك الثنائية العجيبة بين همهمة درة داخل مكتب العجوز وانطفاء بريق عينيها، وما بنته في داخلها من طهارة للمطر وخضر وهو ثنائي لا يجيده إلا كاتب مميز ، وخضر من الخضرة التي تعقب المطر ، ولذا فإن التركيز هنا على هذة المفارقة ، جعلت النتيجة صادمة رغم أنها متوقعة ، حيث البناء المتماسك الذى بنياه الجدة وخضر داخل درة ، اصطدم بتداخل الأفكار الشريرة للأب والعجوز ، ليست هذة الثنائية الوحيدة ، بل هي الثنائية بين لؤلؤة والبقال ، وكل المحار داخل الدانة لم تتمكن من الحب رغم استمرارية البحث عنه ( كل ضوء ينشر خلفه ظلا لمنطقة مظلمة أو أحلام عالقة بين بين ).
- حتى الموسيقي ظلت بين بين لم تتمكن من الانطلاق ، فتراكمت الكوارث للمحار ، رغم ما ينثره ذَكَر المحار من مليارات الحيوانات لتلقيح بويضة ملتصقة بصخرة ، وضعتها محارة أخرى قبل أن يغتال روحها ، ولهذا فإن هذة الملامح المرسومة بعناية من الروائية تذكرني بما قاله دويستوفسكي ( أن الجحيم هو المعاناة من عدم القدرة على الحب).
- فإذا ماتت الرغبة في إيجاد الحب انتهت سعادة الحياة ، فالحب هو تلك الرغبة في إيجاد النصف الآخر المفقود من أنفسنا .
حتى محمد رغم رمزية الإسم لم يتمكن من إظهار صورة مشرقة عن الحب .
- تبقى العبقرية التي لا يشابهها عمل سابق ، ذلك التماثل الذي فرضه النص على القارئ وهو ( أي القارئ ) مستمتعا . - ذلك الترابط النسبي بين الزمان المفترض والمكان المفترض ، حتى كأنك تذاكر التطبيق العملي لنظرية " اينشتاين النسبية" القائمة على الافتراض الثوري للجاذبية ، بمعنى الزمان في علاقته بالمكان .
- الزمان هنا عصر " السوشيال ميديا" بما يعنيه من زمن افتراضي والمكان الدانة بما تعنيه من مكان افتراضي ، وأن كل ما يسير فيها يخضع للقانون ذاته أى ( ليس مستويا).
- فوسط هذا التقدم التكنولوجي الهائل ، تبقى الدانة ببحارتها ومحاراتها في همهمة طول العمل دون أن تشعر باستحالة ذلك ، كون أن الدانة أريد لها أن تكون ، وأن التزام المكان بالزمان ليس مستويا على الأطلاق مثل الكون كله الذي بدأت به الكاتبة من صفحات الرواية الأولى ( يمكن التفصيل في مراجعة ليونرد ملوندينوف" في عالم نيوتن ) .
- على أني أوضح أن الرواية برغم ذلك اعتمدت منهج بارث الذي يذهب أبعد من نسبية الزمن حينما يرى أن الزمن الحقيقي وهم مرجعي واقعي بعكس الزمن الديكارتي تماما.
- والجديد هنا في ربط الزمن بهذة التصورات مع المكان في رسائل موجهة لمحاولة المواءمة الحقيقية بينهما حتى لا تكون النهاية ما حدث لدّرة بالقاء نفسها من بناية في لوس انجلوس، أو لؤلؤة المنتهية بالجنون ، أو الثالثة المنتهية بالاستسلام إلى اللاحياة كما ذهبت إليه المقدمة في الرواية " لكن ليست كل نفس ذائقة الحياة".
- وختاما يقول كونديرا " يتزوج الناس وينجبون ويختارون مهنتهم ، وذات يوم يعرفون ويفهمون أشياء كثيرة ، لكن يكون الوقت قد تأخر كثيرا ، لأن حياتهم تكون قد اتخذت شكلا ما في مرحلة لا يعرفون فيها شيئا على الأطلاق .
- بينما تقول " همهمة المحار" أن الناس يفهمون أشياء كثيرة لكن الضباع لا يتركون الفرصة ، كي يختاروا أشياءهم الكثيرة ، وأدواتهم التي يملكونها ، ومواهبهم التي تُحّفهم، فيذهبون للسماء إما من اختناق الرئة في الماء بجوار المحار أو من اختناق الرئة من الهواء.
اترك تعليق