أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس المسلمين بتقوى الله عز وجل في السر والعلن ابتغاء مرضاته ورضوانه.
وقال في خطبته التي ألقاها بالمسجد الحرام : في هذهِ الآونَةِ الشَّريفَةِ من الزّمانِ، أناخَتْ أُمَّتُنَا الإِسْلاَمِيَّةُ مُنذُ بِضْعةِ أيَّامٍ مَطَايَاهَا، بَيْنَ يَدَيْ عَشْرٍ عَظِيمَةٍ، مُبَجَّلَةٍ كَرِيمَةٍ، بِالخَيْرَاتِ جَمِيمَةٍ، وَبِالفَضَائِلِ عَمِيمَةٍ، تِلْكُم ياعِبادَ الله العَشْرُ الأواخِر مِن رمضان، سيِّدِ الشُّهور، يغشاكُم فيها بِرحمتِه الربُّ الغفور، وتَفيضُ أيَّامُها بالقُرُباتِ وَالسُّرُورِ، وَتُنِيرُ لَيَالِيهَا بِالآيَاتِ المَتْلُوَّاتِ وَالنُّورِ.
وبين فضيلته أنه من فضْلِ الموْلى الكريمِ سُبحانه على هذِه الأُمَّة المحمَّديَّةِ في هذه الأوْقاتِ الشَّريفات، أنْ فضّلَها على غيرِها من الأُممِ السَّابقاتِ، بليلةٍ شريفةٍ في قدْرِها، عظيمَةٍ في أجْرِها، لاتُشابهُها في الفضْلِ والشَّرفِ والمكانةِ أيُّ ليلةٍ أٌخْرى منْ ليالي الدَّهْر، وتَتَجلَّى هذهِ الَّليلةُ المُباركة ويسْطعُ نورُها في العشْر الأخيرةِ من ليالي رمضَان، وبِها تُباهي العشْرُ غيْرَها من الَّليالي وتُفاخِر، فهيَ غُرَّةُ هذِه الَّليالي وشامَتُها، إنّها ليلةُ القدْر؛ التي أُنْزل فيها القرآن، وفيها تكتب الأرزاقُ والأقدارُ، و الآجال، منْ لدُنِ الملكِ المُتعال، [وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ].
وأضاف : اللَّيْلَةُ الَّتِي تَتَنَزَّلُ فِيهَا المَلاَئِكَةُ حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَ فِي الأَرْضِ مِنْ عَدَدِ الحَصَى، إِنَّهَا اللَّيْلَةُ الَّتِي مَنْ قَامَهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَأَرْجَحُ الأَقْوَالِ - عباد الله - في وقْتِها أَنَّهَا فِي الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ، وَأَنَّهَا تَنْتَقِلُ، وَأَرْجَى أَوْتَارِ العَشْرِ عِنْدَ الجَمْهُورِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله. غَيْرَ أَنَّ القَوْلَ بِتَنَقُّلِهَا بَيْنَ لَيَالِي أَوْتَارِ العَشْرِ هوَ القَوْلُ الرَّاجِحُ إن شاء الله، جَمْعًا بَيْنَ الأَخْبَارِ؛ فَيَنْبَغِي عَلَى المُسْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي هَذِهِ العَشْرِ كُلِّهَا، قَالَ أَهْلُ العِلْمِ:وَإِنَّمَا أَخْفَى اللَّهُ مَوْعِدَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ؛ لِيَجْتَهِدَ العِبَادُ فِي العِبَادَةِ، وَكَيْلاَ يَتَّكِلُوا عَلَى فَضْلِهَا وَيُقَصِّرُوا فِي غَيْرِهَا، فَأَرَادَ مِنْهُمْ الجِدَّ فِي العَمَلِ أَبَدًا. إِنَّهَا عِبادَ الله، لَيْلَةٌ تَجْرِي فِيهَا أَقْلاَمُ القَضَاءِ، بِإِسْعَادِ السُّعَدَاءِ، وَشَقَاءِ الأَشْقِيَاءِ:﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان:4]، فَتَحَرَّوْهَا عِبَادَ اللَّهِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَتين الباقِيَتَيْن مِنَ الأوتارِ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْكُمْ بِقيامهَا إيمانًا واحتِسابًا، فيَغْفِرُ لكم ما تقدّم من ذنوبِكم، ويُعْتِقَكُمْ مِنَ النَّارِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنْها، قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيَّ لَيْلَةٍ هِيَ لَيْلَةُ القَدْرِ، مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ:[قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي]، أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
شهرٌ تَنـزَّلُ أملاك السّماء به إلى صَبِيـحتِه لم تُثْنِهَا العِلَلُ فلَيْلة القدْرِ خيرٌ لو ظَفِرْتَ بها مِن ألفِ شهرٍ وأجْرٌ مالَهُ مَثَلُ الدُّنيا كُلّها كلَمْحةِ برقٍ أوْ غَمْضةِ عَين، فكيف بأيَّامٍ وليالٍ معدودات !، وكيْفَ بالثُّلُثِ الأخيرِ منْها وما بقيَ منْه !، فالوقْتُ قصيرٌ لا يحْتملُ التقْصير، وهذِه الأيَّامُ السَّعيداتُ والَّليالي المباركاتُ، قدْ ذَهَبَ جُلُّها وأسْناها، وبقيَ خَاتِمَتُها وأَرْجَاها، فاتَ مُعْظمُها، وبقيَ أعْظَمُها، وأكْثرُ الشَّهرِ قدْ ذهبَ، وما بقيَ أغْلى من الذّهب، وَقَدْ فازَ وسَعِد - بإذنِ الله - من وُفِّق لِقِيامِها وعَمَلِ الصَّالِحاتِ فِيها والقُرُبات، ومَنْ تثاقَلَ وتَوانَى فَلْيبَادِر فيما بَقي، ولْيُحْيي ليلهُ قائِمًا ُقانِتًا، راكِعًا ساجدًا، لَعَلّه أنْ يلْحق الرّكْبَ الأُلَى، ويفوزَ بالقَبول والرِّضا، فَفي الليل يحمد القومُ السُّرى.
ومضى إمام وخطيب المسجد الحرام قائلًا : إنّ الله عزّ وجلّ كتبَ على هذه الدُّنيا الزَّوالَ والفَناء، وَتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ، أَيَّامٌ تَنْقَضِي وَأَعْوَامٌ تَنْتَهِي إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وما هيَ إلاّ أيَّامٌ قَليلةٌ حتّى نوَدِّع ذَلِكُمُ المَوْسِمَ الكَرِيم، شَهْر رَمَضَانَ المُبَارَكَ، فَقَدْ قُوِّضَتْ خِيَامُهُ، وَتَصَرَّمَتْ أَيَّامُهُ، وَأَزِفَ رَحِيلُهُ، وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ قَلِيلُهُ، وإنَّ قُلوبَ الصالحينَ ونُفوسهُم إلى هذا الشهرِ تَحِنُّ، ومِن أَلَمِ فِراقِهِ تَئِنُّ، وكيفَ لاَ؟! وقَد عاشُوا فِيه أجْملَ الأوقاتِ وأسْعَد الَّلحظاتِ، حَيْثُ تُسْكَبُ العبَراتُ، وتُرْفعُ الدعواتُ إلى ربِّ الأرضِ والسماوات، فتُنَزَّلُ الرَّحمات، وتُمْحى الخطايا وتُبَدَّلُ السَّيئاتُ حسَنات، وتُعْتقُ الرِّقابُ من النيران والدّركات، وتُرفَعُ الدَّرجاتُ في أعالي الجنّات ؟ فكيفَ لاَ تَتأَلَّمُ قلوبُ المُحبِّينَ الْوالهين على فِراقِهِ.
وقال فضيلته : إِنَّ رَبَّكُمُ الجوادُ الكريم، يُفِيضُ مِنْ جُودِهِ وَكَرَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ الصّائمين القائِمين فِي خِتَامِ الشَّهْرِ، فَيُعْتِقُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ مِنَ النَّارِ؛ فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِعِبَادِهِ الصَّائِمِينَ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَعْظَمَ فَضْلَ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ وَمَا أَوْسَعَ رَحْمَتَهُ بِعِبَادِهِ؛ فأروا الله من أنْفُسِكم خيرا، وطوبى ثمّ طوبى لِمَن اغتُفِرتْ زَلَّتُهُ، وتُقُبِّلتْ تَوبَتُه، وأُقِيلَتْ عَثْرَتُهُ، ويا بُؤسَ مُذْنبٍ لمْ تُغفر زلّتُه، ولم تُمْحَ جريرته، فقد رَغِمَ أنْفُه وعَظُمَ جُرْمُه،
اترك تعليق