كان عبادة بن الصامت من أوائل الذين أسلموا من الأنصار، وذلك في السنة العاشرة من بعثة الرسول، أي قبل الهجرة بثلاث سنوات. ومنذ أن أسلم عبادة بن الصامت ارتبط برسول الله ارتباطًا وثيقًا، وتعلق به تعلقًا شديدًا، فلم يكن من مشهد من مشاهد الإسلام إلا وحضره، ولم يغزُ رسول الله غزوةً، ولم يسر إلى مكان إلا وكان معه، وقد رُوِي له عن رسول الله مائة وواحد وثمانون حديثًا.
أجل لقد أصبح عبادة بن الصامت نقيب عشيرته من الخزرج، رائدا من روّاد الاسلام، وامام من أئمة المسلمين يخفق اسمه كالراية في معظم أقطار الأرض لا في جبل، ولا في جبلين، أو ثلاثة بل الى ما شاء الله من أجيال ومن أزمان .. ومن آماد !! حتى سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يتحدث عن مسؤلية الأمراء والولاة سمعه يتحدث عليه الصلاة والسلام، عن المصير الذي ينتظر من يفرّط منهم في الحق، أو تعبث ذمته بمال، فزلزل زلزالا، وأقسم بالله ألا يكون أميرا على أثنين أبدا .. ولقد برّ بقسمه ..
ونقرأ فى كتاب مصابيح الدجى رجال حول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في خلافة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، لم يستطع الفاروق أن يحمله على قبول منصب ما، الا تعليم الناس وتفقيههم في الدين أجل هذا هو العمل الوحيد الذي آثره عبادة، مبتعدا بنفسه عن الأعمال الأخرى، المحفوفة بالزهو وبالسلطان وبالثراء، والمحفوفة أيضا بالأخطار التي يخشاها على مصيره ودينه ،وهكذا سافر الى الشام ثالث ثلاثة : هو ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء .. حيث ملؤا البلاد علما وفقها ونورا ...
وسافر عبادة الى فلسطين حيث ولي قضائها بعض الوقت وكان يحكمها باسم الخليفة آنذاك، معاوية حيث كان عبادة بن الصامت وهو مقيم في الشام يرنو ببصره الى ما وراء الحدود الى المدينة المنورة عاصمة السلام ودار الخلافة، فيرى فيها عمر ابن الخطاب رجل لم يخلق من طرازه سواه .. !!
ثم يرتد بصره الى حيث يقيم، في فلسطين فيرى معاوية بن أبي سفيان رجل يحب الدنيا، ويعشق السلطان وعبادة من الرعيل الأول الذي عاش خير حياته وأعظمها وأثراها مع الرسول الكريم ذلك الرّعيل الذي صهره النضال وصقلته التضحية، وعانق الاسلام رغبا لا رهبا وباع نفسه وماله عبادة من الرعيل الذي رباه محمد بيديه، وأفرغ عليه من روحه ونوره وعظمته .
واذا كان هناك من الأحياء مثل أعلى للحاكم يملأ نفس عبادة روعة، وقلبه ثقة، فهو ذلك الرجل الشاهق الرابض هناك في المدينة .. عمر بن الخطاب ..
فاذا مضى عبادة يقيس تصرّفات معاوية بهذا المقياس، فستكون الشقة بين الاثنين واسعة، وسيكون الصراع محتوما .. وقد كان .. !!
يقول عبادة رضي الله عنه : " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا نخاف في الله لومة لائم " .. وعبادة خير من يفي بالبيعة، واذن فهو لن يخشى معاوية بكل سلطانه، وسيقف بالمرصاد لكل أخطائه ..
ولقد شهد أهل فلسطين يومئذ عجبا وترامت أنباء المعارضة الجسورة التي يشنّها عبادة على معاوية الى أقطار كثيرة من بلاد الاسلام فكانت قدوة ونبراسا وعلى الرغم من الحلم الواسع الرحيب الذي اشتهر به معاوية فقد ضاق صدره بمواقف عبادة ورأى فيها تهديدا مباشرا لهيبة سلطانه ..
ورأى عبادة من جانبه أن مسافة الخلف بينه وبين معاوية تزداد وتتسع، فقال لمعاوية : " والله لا أساكنك أرضا واحدة أبدا ".. وغادر فلسطين الى المدينة ..
كان أمير المؤمنين عمر، عظيم الفطنة، بعيد النظر .. وكان حريصا على ألا يدع أمثال معاوية من الولاة الذين يعتمدون على ذكائهم ويستعملونه بغير حساب دون أن يحيطهم بنفر من الصحابة الورعين الزاهدين والنصحاء المخلصين، كي يكبحوا جماح الطموح والرغبة لدى أولئك الولاة، وكي يكونوا لهم وللناس تذكرة دائمة بأيام الرسول وعهده ..
من أجل هذا لم يكد أمير المؤمنين يبصر عبادة بن الصامت وقد عاد الى المدينة حتى ساله : " ما الذي جاء بك يا عبادة" ... ؟؟ ولما قصّ عليه ما كان بينه وبين معاوية قال له عمر : " ارجع الى مكانك، فقبّح الله أرضا ليس فيها مثلك .. !! ثم أرسل عمر الى معاوية كتابا يقول فيه : " لا امرة لك على عبادة " .. !!أجل ان عبادة أمير نفسه ..وحين يكرّم عمر الفاروق رجلا مثل هذا التكريم، فانه يكون عظيما ..
وقد كان عبادة عظيما في ايمانه، وفي استقامة ضميره وحياته ...
وفي العام الهجري الرابع والثلاثين، توفي بالرملة في أرض فلسطين هذا النقيب الراشد من نقباء الأنصار والاسلام، تاركا في الحياة عبيره وشذاه ....
اترك تعليق