المقداد بن عمرو .. رضي الله عنه من أسبق السابقين إلى الإسلام والايمان. فكان من أول سبعة نطقوا بشهادة الحق، كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الفضلاء النجباء الكبار الخيار. هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية ثم عاد إلى مكة وظل بها بعض الوقت ثم هاجر إلى المدينة المنورة، وشهد بدراً الكبرى وجميع الغزوات التي بعدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان المقداد بن عمرو رضي الله عنه من فرسان الإسلام الشجعان، وهو من الرماة المعدودين بين صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو أول من قاتل في سبيل الله وهو يركب على ظهر فرس، ولم يحارب على فرس يوم بدر غيره وبعد انتهاء الغزوة أعطاه النبي محمد -صلى الله عليه وسلم سهماً له وسهماً لفرسه. كما كان شجاعاً سريع الاستجابة لداعي الجهاد حتى حينما تقدمت به سنه، وواصل جهاده حتى شارك في فتح مصر والشام. قال عنه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه (انه رجل بألف فارس). وتوفي رضي الله عنه عام 33 هجرية.
وكان المقداد بن عمرو رضي الله عنه إلى جانب شجاعته واقدامه وفروسيته عالي الهمة، طويل الأناة، طيباً زاهداً مهاجراً، رفيع الخلق. كما كان رجلًا طويلًا كثير الشعر، واسع العينين، عظيم البطن، له لحية ليست بالخيفة ولا بالكثيفة، له حاجبين مهيبين، لطالما أحبه النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب من المسلمين حب المقداد، فقد روى الترمذي مرفوعاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن الله عزّ وجل أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم والمقداد وأبو ذر وسلمان".
وعن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَمْ يكن نبي إلا أعطي سبعة نجباء وزراء ورفقاء، وَإِني أعطيت أربعة عشر: حَمْزَة، وجعفر، وَأَبُو بكر، وعمر، وَعَليّ، والحسن، والحسين، وابن مسعود، وسلمان، وعمار، وحذيفة، وَأَبُو ذر، والمقداد، وبلال ".
هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن عامر بن مطرود البهراني الحميري، من قبيلة بهراء بن عمرو بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن عمرو بن مُرّة بن زيد بن مالك بن حمير بن سباء. ولكنه اشتهر باسم آخر، وهو "المقداد بن الأسود الكندي". وكان يكنى أبا الأسود، وقيل: أبو عمرو، وأبو سعيد، وأبو معبد. ومن أهم ألقابه: "حارس رسول الله".
كان والده عمرو بن ثعلبة من شجعان بني قومه، يتمتع بجرأة عالية دفعته إلى قتل بعض أفراد بني قومه، فاضطر إلى الجلاء عنهم حفاظاً على نفسه من طلب الثأر، فلحق بحضرموت، وحالف قبيلة كندة التي كانت تحتل مكانة مرموقة بين القبائل، فكان يقال له: الكندي. وتزوج هناك امرأة ولدت له المقداد رضي الله عنه.
ولما كبر المقداد بن عمرو رضي الله عنه وقع بينه وبين أبي شمر بن حجر الكندي خلاف، فضرب رجله بالسيف وهرب إلى مكة، فحالف الأسْود بن عبد يغوث الزهري، وكتب إلى أبيه، فقدم عليه، فتبنى الأسود المقداد، فصار يقال: المقداد بن الأسود، واشتهر بذلك، وعندما أسلم ونزلت الآية القرآنية: «ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ» قيل له: المقداد بن عمرو.
ويروى عن إسلام المقداد بن عمرو رضي الله عنه أنه كان من المبادرين الأوائل باعتناق الإسلام، فقد ذكر ابن مسعود أن أول من أظهر إسلامه سبعة، واحدهم كان المقداد بن عمرو، ولكنه كان يكتم إسلامه عن سيده الأسود خوفاً منه على دمه، وخاصة أن الأسود كان أحد طواغيت قريش، وأحد المعاندين لرسول الله، ولكنه كان يتحيّن الفرص للتخلّص من ربقة "الحلف" الذي أصبح يشكل بالنسبة له ضرباً من العبودية، وشارك في الهجرة الثانية إلى الحبشة، ثم عاد إلى مكة وظل بها يتحين الفرصة للانضمام للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة.
وفي السنة الأولى للهجرة، جاءت الفرصة للصحابي الجليل المقداد بن عمرو رضي الله عنه في ان يلحق بركب الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يكون واحداً من الصحابة المجاهدين المخلصين. بعث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبيدة بْن الحارث فِي سرية، فلقوا جمعا من المشركين عليهم عكرمة بْن أَبِي جهل، وَكَانَ المقداد وعتبة بْن غزوان قد خرجا مع المشركين ليتوصلا إِلَى المسلمين، فتواقفت الطائفتان، ولم يكن قتال، فانحاز المقداد وعتبة إِلَى المسلمين. وذهبا إلى المدينة للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبدأ رحلته في الجهاد وآخى الرسول بينه بين الصحابي عبدالله بن رواحة رضي الله عنهما.
وجاءت غزوة بدر الكبرى لتشهد ميلاد أحد فرسان الإسلام الشجعان الذين يتقدمون الصفوف ليقدوا ارواحهم لنصرة الحق، ويروىعن ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَارَ إِلَى بَدْرٍ الْخَبَرُ عن قُرَيْشٍ بِمَسِيرِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ، فَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فَأَحْسَنَ، وَقَالَ عُمَرُ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ} ، وَلَكِنِ: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بِرَكِ الْغِمَادِ لَجَالَدْنَا مَعَكَ مَنْ دُونَهُ، حَتَّى تَبْلُغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ.
وثبت في صحيح البخاري، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (شَهِدْتُ مِنَ المِقْدَادِ بنِ الأسْوَدِ مَشْهَدًا، لَأَنْ أكُونَ صَاحِبَهُ أحَبُّ إلَيَّ ممَّا عُدِلَ به؛ أتَى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو يَدْعُو علَى المُشْرِكِينَ، فَقَالَ: لا نَقُولُ كما قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقَاتِلَا، ولَكِنَّا نُقَاتِلُ عن يَمِينِكَ، وعَنْ شِمَالِكَ، وبيْنَ يَدَيْكَ وخَلْفَكَ، فَرَأَيْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أشْرَقَ وجْهُهُ وسَرَّهُ).
وتمتع الصحابي الجليل المقداد بن عمرو بمكانة عظيمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويروي عبدالرحمن بن أبي ليلى عن المقداد بن الأسود قال: قدمت المدينة أنا وصاحبان فتعرضنا للناس فلم يضفنا أحد فأتينا إلى النبي فذكرنا له فذهب بنا إلى منزله وعنده أربعة أعنز، فقال: «احلبهن يا مقداد وجزئهن أربعة أجزاء وأعط كل إنسان جزءاً»، فكنت أفعل ذلك فرفعت للنبي ذات ليلة فاحتبس واضطجعت على فراشي، فقالت لي نفسي إن النبي قد أتى أهل بيت من الأنصار، فلو قمت فشربت هذه الشربة فلم تزل بي حتى قمت فشربت جزءاً، فلما دخل في بطني ومعائي أخذني ما قدم وما حدث، فقلت يجيء الآن النبي جائعًا ظمآناً فلا يرى في القدح شيئًا فسجيت ثوباً على وجهي، وجاء النبي فسلم تسليمة تسمع اليقظان ولا توقظ النائم. فكشف عنه فلم ير شيئاً فرفع رأسه إلى السماء، فقال: «اللهم اسق من سقاني وأطعم من أطعمني»، فاغتنمت دعوته وقمت فأخذت الشفرة فدنوت إلى الأعنز، فجعلت أجسهن أيتهن أسمن لأذبحها فوقعت يدي على ضرع إحداهن، فإذا هي حافل ونظرت إلى الأخرى، فإذا هي حافل فنظرت، فإذا هن كلهن حفل، فحلبت في الإناء فأتيته به
فقلت: اشرب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما الخبر يا مقداد»
فقلت: اشرب ثم الخبر
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعض سوآتك يا مقداد»، فشرب ثم قال: «اشرب».
فقلت: اشرب يا نبي الله فشرب حتى تضلع ثم أخذته فشربته ثم أخبرته الخبر
فقال النبي: «هيه»، فقلت كان كذا وكذا، فقال النبي: «هذه بركة منزلة من السماء أفلا أخبرتني حتى أسقي صاحبيك»، فقلت: إذا شربت البركة أنا وأنت فلا أبالي من أخطأت.
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتزويج المقداد بن عمرو رضي الله عنه من ابنة عمه ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب. ويروى أن الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف، كان يجلس مع المقداد بن رضي الله عنهما بعضهما يتحدثان
فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه للمقداد بن عمرو رضي الله عنه: ما منعك أن تتزوج.
فأجاب المقداد بن عمرو -: زوجني ابنتك.
وغضب عبد الرحمن بن عوف وأغلظ عليه في القول فذهب المقداد بن عمرو رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فرأى في وجهه الهمّ، فقال له: ما بك؟، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم بما قاله عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
فقال له النبي الكريم: "سأزوجك ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب".
وكان المقداد رضي الله عنه زاهداً تقياً ورعاً محباً للجهاد. فقد حدث ان ولاّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى الإمارات يوماً، فلما رجع سأله النبي عليه الصلاة والسلام: «كيف وجدت الإمارة؟»، فأجاب: لقد جَعَلتني أنظر إلى نفسي كما لو كنت فوق الناس، وهم جميعًا دوني، والذي بعثك بالحق، لا أتأمرن على اثنين بعد اليوم أبداً. وصد المقداد في يمينه وظل مجاهداً حتى وفاته رضوان الله عليه.
حاز الصحابي الجليل المقداد بن عمرو رضي الله عنه لقب حارس رسول الله، وذلك بسبب حبه الجم للإسلام ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان حريصاً على سلامة النبي عليه الصلاة والسلام، فكان سريع الاستجابة لأي خطب مستعداً لاي حدث يهدد الإسلام او رسول الإسلام ولم يكن تسمع في المدينة فزعة، إلا ويكون المقداد بن عمرو في مثل لمح البصر واقفا على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يركب فرسه، ويمسك بسيفه مستعداً لبذل حياته للدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحرص المقداد بن عمرو رضي الله على الدفاع عن الاسلام وحمايته ليس فقط من كيد أعدائه، بل ومن خطأ أصدقائه، فقد خرج يوماً في سريَّة تمكن العدو فيها من حصارهم، فأصدر أمير السرية أمره بألا يرعى أحد دابته، ولكن أحد المسلمين لم يحِط بالأمر خُبْرا فخالفه، فتلقى من الأمير عقوبة أكثر مما يستحق، فمر المقداد بالرجل يبكي ويصيح فسأله فأنبأه ما حدث، فأخذ المقداد بيمينه ومضيا صوب الأمير، وراح المقداد يناقشه حتى كشف له خطأه وقال له: «والآن أقِدْهُ من نفسك، ومَكِّنْهُ من القصاص»، وأذعن الأمير، ولكن الجندي عفا وصفح وانتشى المقداد بعظمة الموقف وبعظمة الدين الذي أفاء عليهم هذه العزة، فراح يقول: «لأموتَنَّ والإسلام عزيز».
قال عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه رجل بألف رجل حيث ارسله مع 3 اخرين هم الزبير بن العوام وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلد رضي الله عنهم إلى جيش عمرو بن العاص لما طلب المدد لفتح مصر وقال: إني قد أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف رجل منهم مقام الألف".
وفي رواية عن زيد بن أسلم قال: لما أبطأ على عمر فتح مصر كتب إلى عمرو بن العاص: أما بعد: فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر. وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تعالى لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما أعرف؛ إلا أن يكون غيرهم ما غير غيرهم. فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس وحضهم على قتال عدوهم ورغبهم في الصبر والنية، وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس، وأمر الناس أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل فيها الرحمة ووقت الإجابة، وليعج الناس إلى الله وليسألوه النصر على عدوهم.
فلما وصل الكتاب إلى عمرو جمع الناس وقرأه عليهم، ثم دعا أولئك النفر فقدمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين ثم يرغبون إلى الله ويسألونه النصر ففتح الله عليهم.
توفي المقداد بن عمرو رضي الله عنه سنة 33 هجرية بالجرف، فحُمل إلى المدينة، وصلى عليه الصحابي الجليل عثمان بن عفان، رضي الله ودُفن في البقيع. وكان عمره عند وفاته 70 سنة، وقد أعقب المقداد ابنتين كريمة وضباعة، وأوصى بأن يقوم الزبير بن العوام على تركته. ووهب للحسن والحسين رضي الله عنها لكل منها 18,000 درهم، ولأمهات المؤمنين لكل واحدة منهن 7,000 درهم. رضوان الله عليهم أجمعين.
اترك تعليق