مع الأزمة الاقتصادية العالمية نتيجة لارتفاع معدلات التضخم. توقع الكثيرون اختفاء موائد الرحمن خلال شهر رمضان هذا العام أو علي الأقل تراجعها. باعتبارنا جزءاً من العالم الذي يعاني مشاكل اقتصادية كبيرة. خاصة بعد عامين من تأثير جائحة "كورونا" علي انتشار العادة الدينية السنوية التي يتميز بها شهر رمضان المعظم. والتي تؤكد التضامن والتكافل بين أفراد المجتمع بصفة عامة وليس بين المسلمين فقط.
فهناك مسيحيين ينظمون مثل تلك الموائد. حيث تمتلئ شوارع القاهرة بموائد الرمضانية وتعرض علي الطاولات جميع أنواع الأطعمة. وتقدم الإفطار للمحتاجين والمارة. وتعد أفضل "تريند" بلغة السوشيال ميديا التي تستهوي الكثيرين.
مائدة المطرية التي تناقلت أخبارها وكالات الأنباء العالمية وحضرها سفير كوريا الجنوبية بالقاهرة ليست الوحيدة في مصر. بل أنها تتكرر كل يوم بمعظم شوارع المحروسة. ولكنها ربما تكون الأشهر.. هذه الموائد تؤكد "جدعنة المصريين" وإحساس القادرين منهم علي حجم المعاناة لقطاع عريض من محدودي الدخل. وايضا متوسطي الدخل جراء ارتفاع التضخم. فكانت هذه الموائد بمثابة النجاة والانقاذ من خلال توفير وجبات ساخنة لنؤكد مقولة: "مفيش حد بيبات جعان في أم الدنيا".. هذا بخلاف الأجواء الرمضانية والحميمية والاجتماعية بين أبناء المنطقة الواحدة التي تؤكد التماسك والتلاحم والتعاون بين كل نسيج المجتمع.
من جانبهم أكد خبراء علم النفس والاجتماع أن شهر رمضان شهر الخير والبركة. والإنسان أخو الإنسان. فيجب عليه مد يد العون والمساعدة لمن يستحق. بالإضافة إلي أن سلوك موائد الرحمن سلوك تكافلي محمود.
قالوا إن جدعنة المصريين ليست موجودة فقط في الشهر الكريم. ولكنها موجودة باستمرار في مواقف مختلفة. وهذا يدل علي أن الشخصية المصرية بطبيعة معدنها شخصية أصيلة تتمتع بتاريخ حضاري كبير في المشاعر الإنسانية تجاه الآخر.
البداية من عهد الرسول
بدأ الأمر في عهد الرسول بجماعة من الطائف وصلوا عندما كان الرسول في المدينة المنورة. وأعلنوا إسلامهم. فأرسل إليهم الرسول فطورهم وسحورهم. واتبع الخلفاء حكم الرسول صلي الله عليه وسلم. وأنشأ عمر بن الخطاب "دار الضيافة" لتقديم الإفطار للصائمين.
كانت مائدة الرحمن الأولي في مصر في عهد أحمد بن طولون عام 88 في العام الرابع لحكمه. وكان قد أعد وليمة دعا إليها التجار أول أيام رمضان. ثم أمرهم بفتح بيوتهم لإطعام الفقراء. كما أمر بتطبيق هذا القرار في كل مكان. وبمرور الوقت اختفي هذا التقليد. ثم عاد مرة أخري في عهد المعز لدين الله الفاطمي. حيث أعد مائدة لأهل مسجد عمرو بن العاص. وكان الطعام يطهي في قصره ثم يوزع علي الفقراء. وفي العصر الفاطمي كان عمال القصر يوفرون مخازن كبيرة من السكر والدقيق وكذلك الحلويات وكانوا يوزعونها علي أهل مصر.
يقال إن تقليد مائدة الرحمن يعود إلي العصر العباسي في عهد هارون الرشيد. حيث كان يضع الطاولات في قصره ويحول حولها متخفياً ليطلب من الناس الإفطار عنهم وجودة الطعام بحيث يخبرونه بآرائهم بصدق دون مجاملات. فحين اشتهرت الأذن المملوكية في مصر بكرم الحكام في الإنفاق علي الفقراء والمحتاجين. حيث كانت تدفع أجوراً إضافية للعمال والطلاب والأيتام. ظلت مائدة الرحمن تقليداً مرتبطاً بشهر رمضان طوال العصور الإسلامية وكان الأثرياء يتسابقون لإعداد موائد كل عام.
موائد القرن العشرين
في القرن العشرين. عاد التقليد مرة أخري برعاية الحكومة من بنك ناصر الاجتماعي الذي كان يجهز طاولة بالقرب من الجامع الأزهر لإطعام 4 آلاف شخص. وتم وضع أول طاولة قبطية من هذا النوع في حي شبرا عام 1969 في ساحة الأفضل. ومنذ ذلك الحين شوهدت هذه الطاولات ومازالت موجودة في شوارع مصر. علي مدي السنوات الخمس الماضية أصبح وجود هذه الطاولات أكثر انتشاراً ومكاناً للفقراء للعثور علي أنواع مختلفة من الأطعمة وتقع بعض أشهر موائد الرحمن في مصر والأزهر والحسين والسيدة زينب وميدان رمسيس. ويمكن أيضا العثور علي هذه الطاولات بالقرب من المطاعم التي تقدم الإفطار. وتقوم العديد من المساجد في مصر بإعداد هذه الجداول من خلال جمع الأموال من المصلين في قري صعيد مصر. حيث يخرج الشباب علي الطرق السريعة ويجلسون أثناء اقتراب وقت الإفطار ويدعون سائقي السيارات للانضمام إليهم. ومازال هذا التقليد مشهوراً أيضاً في العديد من البلدان العربية الأخري بما في ذلك المملكة العربية السعودية والإمارات وقطر. وتحرص المنظمات الخيرية علي إعداد الطاولات وتوفير التمور والوجبات الجاهزة ليتمكن الناس من صلاة المغرب والافطار.
موائد في كل مكان.. والمطرية وصلت للعالمية
5 آلاف مواطن في "الخصوص".. و"التجمع" تكمل 17 عاماً.. والأطول في الشيخ زايد
قبل أيام قليلة من بداية شهر رمضان. تقوم بعض الشركات والمؤسسات الكبري بإعداد مبادرات مائدة الرحمن في جميع أنحاء البلاد في رمضان. والجديد هذا العام قيام مناطق شعبية بتنظيم موائد كبيرة من خلال الجهود الذاتية ودون قبول أي تبرعات. وهذا لفت أنظار العالم وليس المسئولين علي المستوي المحلي فقط.
في المطرية
تعد مائدة المطرية من أشهر الموائد الرمضانية لهذا العام. حيث لفتت مصر أنظار العالم بإقامة أكبر مائدة رمضانيه بحي المطرية الشعبي في القاهرة بطول تخطي ألف متر وهي المرة التاسعة التي تقام فيها المائدة التي بدأت منذ عام 2013 وتنعقد في منتصف شهر رمضان من كل عام بحضور أكثر من 7 آلاف شخص من أهالي عزبة حمادة بالمنطقة.
هذا العام عقدت المائدة بمشاركة سفير كوريا الجنوبية بالقاهرة هونج جين ووك. وتزايدت المطالبات بتكرار الحدث مرة أخري من خلال مجموعة من الفنانين الذين أكدوا رغبتهم في المشاركة. وبالفعل وعدهم أبناء الحي بتلبية رغبتهم في تكرار الحدث مرة أخري في 12 رمضان. إلا أن منظم الحدث أعلن عن اعتذاره وإلغاء الحفل والسبب في ذلك التأخر في الحصول علي التراخيص وعدم التنسيق مع الجهات المختصة. لذلك تم الإلغاء كما أكد حصوله علي موافقة بإقامة ساحة عيد الفطر وسيتم توزيع ألعاب علي الأطفال بدلاً من حفل إفطار يوم 12 رمضان.
أهالي حي المساعيد بالعريش
علي غرار مائدة إفطار المطريه الشهيرة. يستعد أهالي حي المساعيد بغرب العريش لتنظيم مائدة إفطار يوم 27 رمضان. وستكون الأكبر علي مستوي مدن وقري المحافظات. وتحدث أحد سكان حي المساعيد بالعريش أن المبادرة تأتي علي غرار ما تم في المطرية. حيث تمت دعوة جميع الأهالي للنزول بطعامهم إلي ساحة الشهداء بالمنطقة في يوم تختلط فيه العائلات والقبائل سواء أطفال وكبار ورجال ونساء. وأهم شيء لنجاح أي فكرة الترابط وحب الوطن لتوحيد الصفوف. فمائدة الرحمن الجماعية عادة سيناوية قديمة منذ سنوات طويلة في سيناء.
مائدة إفطار الخصوص
مائدة إفطار جماعي بالخصوص بمحافظة القليوبية. شارك فيها 5 آلاف مواطن من المنطقة مسلمين ومسيحيين تحت شعار "الوحدة الوطنية.. رمضان يجمعنا". وذلك بحضور رموز الأوقاف والمساجد والكنائس المنتشرة بربوع المدينة. فالمائدة تمت بالتعاون بين الأهالي وأبناء المنطقة من أجل إنجاح الفعاليات. ولم يكن هناك فرق بين مسلم ومسيحي.
مائدة إفطار التسعين تكمل 17 عاماً
أكثر من 1000 شخص اجتمعوا علي مائدة إفطار في شارع الـ 90 بالتجمع الخامس لتناول الطعام سوياً في جو من الألفة والحب بعد سماع صوت المدفع وهي عادة سنوية ثابتة بدأها أهالي التجمع منذ ما يقرب من 17 عاماً معتمدين فقط علي التمويل الذاتي رافضين التبرعات. وكل ذلك من أجل رسم البسمة علي وجوه الصائمين وأيضا كسب الأجر في هذا الشهر الكريم.
أطول مائدة إفطار بالشيخ زايد
نظم جهاز مدينة الشيخ زايد أطول مائدة إفطار جماعي تحت مسمي "جارك هو دارك" لإفطار 750 أسرة بمعدل 3 آلاف فرد بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني بالمدينة. فهذه المبادرة تساعد علي زيادة الوعي المجتمعي لسكان المدينة وتعزز من هوايتها باعتبارها مدينة شابة يتعاون فيها الجميع. ما يخلق فرص عمل خاصة بالشباب ليشعر الجميع بالتقارب.
د.تامر شوقي أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس: تعكس التمسك بالفضائل بالشهر الكريم.. والرغبة في مساعدة الآخرين
أكد د.تامر شوقي أستاذ علم النفس والتقويم التربوي بجامعة عين شمس أن موائد الرحمن تعكس تمسك المصريين بإقامة موائد الرحمن في رمضان بكثافة بالجهود الذاتية. رغم التوقعات السابقة بانحسارها هذا العام في ضوء الأزمات الاقتصادية التي يعاني منها المصريون. مثل التضخم وارتفاع الأسعار ليؤكد روح الجدعنة والأصالة والشهامة التي يتمتع بها أبناء الشعب المصري منذ آلاف السنين.
أضاف أنه يلاحظ علي موائد الرحمن هذا العام أن عددها وانتشارها أكبر مقارنة بالأعوام السابقة وضخامة حجم الموائد هذا العام لتشمل بعض الموائد عشرات الآلاف من المواطنين وأيضا تدبير نفقاتها من الجهود الذاتية لأبناء المناطق المختلفة. ولم تعتمد علي التبرعات أو استجداء الأموال من الآخرين وكذلك إقامتها بكثافة في المناطق الشعبية مثل المطرية وفي مختلف المحافظات. هذا بخلاف عشرات الموائد التي تقيمها الجامعات مثل جامعة الأزهر والشركات والمؤسسات والجمعيات الخيرية. وتعكس سلوكيات التكافل والتعاون وتسابق المصريين علي إقامة موائد الرحمن وحرصهم علي التمسك بالفضائل وقوي الخلق الإيجابية التي يحث عليها الاسلام. والتي من شأنها أن تعزز العلاقات الشخصية والاجتماعية الجيدة والتماسك المجتمعي. إلي جانب أنها تسهم في تحقيق السعادة والهناء سواء للفرد أو المجتمع والازدهار الإنساني وجودة الحياة. بل وفي وقاية الإنسان من الاضطرابات النفسية.
أوضح أنه يمكن تفسير ظاهرة موائد الرحمن وإقبال المصريين علي المشاركة في إقامتها من الناحية النفسية. من خلال أن الشخصية المصرية تتميز بتوافر مجموعة من السمات النفسية الإيجابية التي تعكس تمسكهم بالفضائل والقيم والأخلاق. وأيضا تتضمن تلك السمات النفسية الإيجابية ما يلي سمات العطف والكرم والحنو والشفقة والإيثار وتعكس رغبة الفرد في مساعدة الآخرين وفعل الخير والأشياء الصالحة وتقديمها لهم والعناية بهم وأيضا سمة الحب والمودة وهي سعي الفرد إلي أن يحب ويحب وميله لإقامة علاقات وثيقة مع الآخرين. خاصة العلاقات التي تتميز بالمشاركة والرعاية المتبادلة بين أطرافها المختلفة. بالإضافة إلي سمة التدين أي امتلاك الفرد معتقدات دينية متماسكة حول الغرض والمعني الاعلي للحياة وتمسكه بما يرضي الله عز وجل.
أشار إلي سمة الصدق. وهي تقديم الفرد نفسه للآخرين بطريقة صادقة دون ادعاء أو زيف ومشاركته بشكل مخلص. خاصة أن بعض من المشاركين في تلك الموائد ممن يحملون شهادات عليا. وأيضا سمة الحماسة والنشاط وهي تعكس مشاركة الفرد في إقامة تلك الموائد بطاقة ونشاط وعدم أدائه المهام المكلف بها بفتور أو بشكل ناقص وإحساسه بأن ما يقوم به من مشاركة يمثل متعة بالنسبة له. بالإضافة إلي سمة بذل الجهد أو المثابرة وتعكس إصرار الفرد علي استكمال إقامة المائدة طوال الشهر بنفس الكفاءة والعزيمة مهما واجه من عوائق وإحساسه بالمتعة من إتمامه أداء هذه المهمة العظيمة من مساعدة الآخرين. بالإضافة إلي سمة حب العمل في فريق أو المسئولية الاجتماعية أو الانتماء وهي رغبة الفرد في العمل بشكل جيد كعضو في فريق وشعوره بالانتماء إلي هذا الفريق.
لفت إلي سمة المساواة أو العدل. وهي تعكس ميل الفرد إلي التعامل مع كل الأشخاص الآخرين بشكل متساو في إطار مبادئ العدالة. فلا مجال للتحيز ضد أو مع أحد في المائدة الواحدة. وأيضا سمة التسامح أو العفو وهي عفو الفرد عن الآخرين الذين ارتكبوا أخطاء في حقه. فلا مجال للانتقام منهم رغم قدرته علي ذلك أو حرمانهم من المشاركة في المائدة. فهم ضيوف الرحمن. بالإضافة إلي سمة وهي نسيان الفرد لوظيفته أو لمؤهلاته العلمية وعدم نظرته إلي نفسه باعتباره مركزاً للأضواء أو مميزاً عن الآخرين. وكذلك عدم اعتبار نفسه مهماً بدرجة أكبر مما هو عليه. فالجميع متساو في العمل والمشاركة في المائدة. إلي جانب سمة التعقل أو التريث أو الحذر أي تجنب الفرد أي أقوال أو أفعال قد تسبب في جرح أو أذي الآخرين في المائدة وكذلك سمة الذكاء الاجتماعي وهو وعي الفرد بدوافع ومشاعر الآخرين ومعرفته لما يجب أن يفعله لكي يشبع احتياجاتهم ويحقق أهدافهم. كما في مواقف مائدة الرحمن وأيضا سمة الجرأة والشجاعة تعكس عدم خوف الفرد من نفاذ ما معه من مال في سبيل إقامة تلك الموائد وإيمانه بأن الله سيعوض خيراً. وأن ما يقوم به من خير يستحق التضحية بأي شيء.
د.أحمد فخري.. أستاذ علم النفس جامعة عين شمس: إبراز أهمية العمل الجماعي وروح الفريق
قال د.أحمد فخري أستاذ علم النفس جامعة عين شمس إن أهالي المطرية أثبتوا من خلال الإفطار الجماعي مدي تضامنهم مع الظروف الاقتصادية التي يمر بها العالم ومصر. حيث أثبتوا في ملحمة شعبية تكاتف فيها الكبير والصغير في عمل جماعي رائع أكد روح الجماعة واتحادها في وقت الشدة والسلم. وأكدوا معاني كثيرة منها الانتماء والولاء للمنطقة ولأبناء الحي وللوطن. مع إثبات أن الُين الموروث عبر آلاف السنين مازال بهمة وعزيمة لدي أبناء الشعب المصري يؤكد التلاحم والترابط وعمق التخطيط والتنفيذ للوصول للهدف من خلال العمل الجماعي الذي أثبت نجاحه علي مدار السنوات التسع من العمل الجماعي المشترك.
أشار إلي أن أهالي المطرية أكدوا من خلال مائدة الإفطار الجماعي أن الجماعة خير من الفرد والأهداف الشخصية تذوب في روح الجماعة وأيضا العمل المشترك إلي جانب إذابة الفروق بين الأجيال من خلال مشاركة الشباب مع الكبار والنساء مع الفتيات في إعداد المائدة بروح الجماعة التي أكدت أن الدافع لحب الوطن والعمل علي تحقيقه من خلال التنفيذ علي أرض الواقع شيء سهل التحقيق.
أوضح أن التجربة الرائدة أثبتت أنه مازال لدي الشعب المصري الأصالة والموروث الثقافي منذ آلاف السنين حول العمل الجماعي منذ جمع القطن وحرث الأرض ولمّ الغلة والمحصول والاحتفالات القديمة التي كانت تقام في عهد الفراعنة. بالإضافة إلي إن هذه التجربة أكدت للشباب الحالي أن الشعب المصري له احتفالاته الجماعية وأنه قادر علي الاستمتاع والترفيه وصناعة البسمة علي الوجوه دون مسارح أو مهرجانات كبيرة. كما أكد أنه قادر علي أن يكون سفير لبلده وجاذب للأنظار من مختلف بقاع الأرض. والدليل علي ذلك أن التجربة أثارت شغف سفير كوريا الجنوبية للتعرف عن قرب علي حضارة هذا الشعب المميز.
يري د.فخري من الناحية النفسية أن تلك التجربة الرائعة واستمرارها علي مدار التسع سنوات سوف تخلق روح التحدي وتعمم بأشكال وألوان مختلفة ومناطق أخري في مصر. كما أناشد بأهمية التأكيد والعمل داخل مدارسنا وجامعتنا علي أهمية العمل الجماعي وروح الفريق. ونأمل في تعميم تجربة العمل الجماعي في قطاعات الدولة المختلفة من مصانع وهيئات وشركات ومبادرات وطنية لترسيخ نموذج العمل الجماعي.
د.سومة الحضري.. أستاذ ورئيس قسم علم النفس بجامعة الأزهر: مساعدة الآخرين من أعظم أبواب الخير.. والتعاون يحقق الشعور بالسعادة والرضا
قالت د.سومة الحضري أستاذ ورئيس قسم علم النفس جامعة الأزهر إن مساعدة الآخرين تعد من أهم وأعظم أبواب الخير التي دعت إليها الشريعة الإسلامية. لما فيه من تواد وتراحم بين الأفراد وعطاء يمثل صورة من صور التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد.
فإن في النفس فطرة طيبة تسرع إلي فعل الخير وتسر بفعله. خاصة في شهر رمضان المعظم شهر الرحمة والمغفرة. لذا فإن إيصال الخير والنفع للغير تكسب الفرد الثواب وتعتبر مخزن للحسنات والجزاء من الله سبحانه وتعالي وحده. بالإضافة إلي أن الكثير من الأفراد يسعون خلال شهر رمضان إلي تقديم العون والعطاء والمساعدة. بل يصل الأمر إلي حد التنافس في الإقبال علي فعل الخير وتقديم الأموال والطعام والكسوة للمحتاجين. الذي يعتبر فرصة للكثير منا في الحصول علي الثواب والجزاء والشعور بالسعادة والرضا والراحة النفسية.
لفتت إلي أن مساعدة الآخرين يعد سلوك وشعور إنساني مميز من أهداف علم النفس الأخلاقي يحقق الشعور بالرضا والسعادة لكل من الطرفين دون انتظار المقابل أو رد الفعل. ومن منظور علم النفس فإن مساعدة الآخرين والحرص عليها يمكن تفسيرها من خلال عدة محاور. فهي الدوافع والحاجات النفسية التي تدفع الفرد إلي مساعدة الآخرين ومشاركتهم وجدانياً دون قيد أو شرط. وتأتي هذه الدوافع من خلال إيمان الفرد واقتناعه بأهمية العمل التعاوني والإيثار والمشاركة والمساعدة للغير دون انتظار مقابل أو مكافأة. حيث يهدف الفرد من خلالها إلي تحقيق قدر كبير من تحقيق الذات واكتمالها لهذا الفرد القائم بتقديم العون والمساعدة. ويأتي تحقيق الذات في المرتبة الخامسة التي تمثل قمة هرم ماسلو للحاجات النفسية. بينما قاعدته إشباع الحاجات الفسيولوجية. فكلما أشبع الفرد احتياجاته كلما زاد في العطاء. كلما شعر بتقدير وتحقيق ذاته.
أشارت إلي النظرية السلوكية. أن كل سلوك متعلم يتم تعلمه من البيئة التي نشأ فيها الفرد. وفقاً لهذه النظرية فإن قيام عدد من شباب المناطق الشعبية بتنظيم موائد الرحمن في شهر رمضان المبارك والمشاركة والمساعدة وخلافاً لما كان متوقع من عدم وجود من يقدم الخير أو العون للآخرين. ما هو إلا سلوك تم تعلمه من البيئة التي نشأوا فيها وشاهدوا القدوة التي زرعت فيهم من طفولتهم أهمية العمل الجماعي والإحساس بالخير واحتياجاتهم والتعاون والود والحي والإيثار والتراحم والتعاطف والعطاء وتحمل المسئولية تجاه أسرهم والمجتمع وانتقلوا فيها من مرحلة أنا ونفسي. إلي مرحلة نحن وجميعنا. إلي جانب الأعراف الاجتماعية في هذه المناطق التي تتسم بالتواد والتماسك والعمل الجماعي والتعايش كأسرة واحدة. إيماناً منهم أن الخير يرد بالخير. بينما تري نظرية التعلم الاجتماعي أن مساعدة الآخرين سلوك تم تعلمه من خلال التعزيز أو التعلم بالملاحظة. فكلما يري الفرد نتائج إيجابية ومرغوبة لسلوك الآخرين تزداد احتمالية تقليدهم ومحاكاتهم وتبنيهم لهذا السلوك الذي تلعب العوامل والمحفزات البيئية دوراً كبيراً فيه.
أوضحت أن تقديم المساعدة للآخرين والإيثار والتعاون. يحقق الشعور بالسعادة والرضا والراحة النفسية لهؤلاء الأفراد. كما أنهم يتمتعون بصحة نفسية أفضل. كما أن مساعدة الآخرين تخفف التوتر والضغط النفسي من خلال إفراز هرمون الاندورفين الذي يساعد علي تخفيف التوتر النفسي والشعور بالسعادة والنشوة والراحة النفسية وأيضا الطاقة الإيجابية لشعوره بقيمته كإنسان مفيد لمجتمعه. ما يولد لديه رغبة أن يكون قائداً لفعل الخير والإقبال عليه بقلب مطمئن راضي الذي يولد نوعاً من التمسك ابتداء من تماسك الأسرة وانتهاء بتماسك المجتمع ولا يشترط أن تكون المساعدة المالية فقط. بل إن الدعم النفسي والمعنوي لا يقل أهمية عن الدعم المادي.
نوهت إلي أن تقديم المساعدة للآخرين. تحقق عدد من الفوائد منها تعزيز روح المحبة والود بين أفراد المجتمع وأيضا تقوية روابط الأخوة والصداقة عن طريق نشر روح التعاون والمشاركة الوجدانية وتشجيع الآخرين علي الإقدام علي فعل الخير والاستزادة منه. كما أنها تعزز روح الانتماء بين الأجيال المتعاقبة لتخفيف عبء الحياة ومتاعبها وآلامها لدي أفراد المجتمع وأيضا نشر روح التفاؤل والسعادة لتشجيعهم لاستكمال مسيرة حياتهم بروح إيجابية.
د.أمل شمس.. أستاذ علم اجتماع بجامعة عين شمس: مشهد يعبر عن الأصالة.. والشخصية المصرية تتسم بـ "الجدعنة" التكافل وحب الخير
قالت د.أمل شمس أستاذ علم اجتماع التنمية جامعة عين شمس إن رمضان شهر الخير والبركة. فهو يعطي روح الإيثار عند المسلمين. وبالأخص المصريين.. فهم يضربون المثل في الإيثار وحب الآخر والتكافل الاجتماعي بصورة كبيرة. وهذا يظهر في شهر رمضان علي مدي التاريخ المصري في صورة موائد الرحمن وأيضا التكافل والعزائم من قبل بعض الأشخاص. فبالنسبة أدني دخلاً أو الفقراء نجد موائد الرحمن الكبيرة موجودة في الشوارع. خاصة بالمناطق الشعبية التي تعرف بوجود أعداد كبيرة من أصحاب الدخول المتوسطة أو الأقل.
أضافت أنه في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية التي تنتج عنها غلاء في الأسعار. فالشخصية المصرية ستظل هي الشخصية التي تتسم بالجدعنة وحب التكافل. وشهر رمضان هو الشهر الذي يبحث فيه الجميع عن كسب الأجر والثواب عن طريق إقامة موائد رحمانية كبيرة واضحة مثل مائدة المطرية. فهي تعد أكبر الموائد التي أقيمت في هذا الشهر الكريم وهي المائدة التي تم تصويرها. ولكن هناك موائد أخري في كل منطقة شعبية وقرية يظهر فيها شكل من أشكال الخير.
أشارت إلي رصدها الكثير من الموائد في عدد من الأماكن باعتبار دراسات علم الاجتماع وتنقلاتها وأيضاً باعتبار لديها طلاب في العديد من المحيطات الأخري في الريف. فهناك أشخاص يقومون بعملية الذبح من أجل توزيعها علي الفقراء. إلي جانب توزيع شنط رمضان التي لا حصر لها. حيث تحتوي بداخلها علي أشياء جافة مع لحوم أو دجاج. رغم غلاء الأسعار. وهذا يدل علي أن الشخصية المصرية بطبيعة معدنها شخصية أصيلة تتمتع بتاريخ حضاري كبير في المشاعر الإنسانية تجاه الآخر. وأيضا خدمة ومحبة وعطاء الآخر. وكل ذلك يدل علي التكافل الاجتماعي والسعي والسلام الاجتماعي والبذل للآخرين.
أوضحت أن الشهر الكريم يسعي إلي وجود اللُحمة الاجتماعية ما بين الأفراد. وما أحوجنا في هذه المشاعر المتساندة التي تشعر بالآخرين في ظل عصر الأنانية وليست في مصر فقط. فالاتجاه العالمي لديه فكرة الأنانية والفردانية. ولكن في الشهر الكريم تظهر المعادن الأصيلة التي تنبع من مخزون الحضارة والدين عن طريق فهم الدين بطريقة صحيحة. فيحدث هنا امتزاج ثم تظهر نماذج جيدة للغاية من التعامل الإنساني. وأيضا علي الجانب الآخر نجد أسر مسيحية تعزم أسر مسلمة علي الإفطار مثلما يفعل المسلمون فهم يقدمون أشياء لإخوانهم الأقباط وهذا يدل علي الشعور المتبادل بين جميع المستويات والديانات والعقائد وأيضا علي الحب المتبادل بين بعضهم البعض وهي تعتبر رسالة يعطيها الشهر الكريم. فأعظم شيء ممكن إعطائه في هذا الشهر التساند والتكافل الاجتماعي والعطاء والإيثار وحب الآخرين والسلام الاجتماعي الذي يسود المجتمع في هذه اللحظات. فهي تعطي رسائل حضارية كبيرة ورائعة للغاية.
د.هيام خليل.. أستاذ العمل مع الجماعات بجامعة حلوان: موائد الرحمن سلوك تكافلي.. وإحساس بالمسئولية المجتمعية تجاه الآخرين
فسرت د.هيام شاكر خليل أستاذ العمل مع الجماعات بكلية الخدمة الاجتماعية جامعة حلوان سلوك موائد الرحمن وانتشارها في هذا العام بأنه سلوك تكافلي. فمن منظور الخدمة الاجتماعية الإنسان أخو الإنسان. فالإنسان يمد يد العون لمن يطلب المساعدة. وفي حالة عدم طلب الفرد للمساعدة وهو يستحقها يبادر الإنسان ويسارع بمد يد العون والمساعدة لهذا الفرد.
أضافت أن الأزمة الاقتصادية التي مرت بها جميع دول العالم وأثرت علي مصر وأيضا ارتفاع سعر الدولار كان سبباً كبيراً في ارتفاع بعض الأسعار. ومن ثم تراجعت القوة الشرائية لبعض الطبقات المتوسطة والفقيرة. ولكن شهر رمضان شهر كريم يكثر فيه التكافل الاجتماعي بين البشر بعضهم البعض وأيضا يتباري بعض الأفراد بالقيام بما يسمي بموائد الرحمن هذا السلوك يمكن تفسيره بأكثر من مؤشر.
أشارت إلي الجانب الديني هذا الشهر وهو شهر تعاطف وتراحم وتكاتف بين البشر بعضهم البعض. وبالتالي كان هذا هو الدافع لقيام الأشخاص بالتسارع في إقامة موائد الرحمن.. ثانياً عملية الإحساس بالمسئولية المجتمعية تجاه الآخرين. فهم في حاجة إلي المساعدة وهناك أشخاص يتعففون عن طلب المساعدة وهذا مذكور في القرآن الكريم.. ثالثاً بالنسبة لهذا السلوك حب فعل الخير. فالإنسان بطبعه خاير ومتطوع لفعل الخير دون أن يجبر علي فعل هذا وكان هذا واضحاً بصورة جلية في المناطق الشعبية الفقيرة وهذا اختيار صحيح لأنه ينعكس علي المجتمع بالتعاطف والتآخي ولا يجعل الأفراد ينظرون للآخرين نظرة طبقية أو تنشأ لديهم نوعاً من العدوانية والكراهية بأنهم غير عابئين بمشاعر الآخرين التي يمرون بها سواء ضائقة مالية وعدم القدرة علي شراء وجبات باهظة. فجاءت موائد الرحمن لتسد هذا العجز. فهذا السلوك يعطينا مؤشر أن الشعب المصري لديه مودة ورحمة ومن يفعل ذلك هم أشخاص لديهم قدرة علي تحمل المسئولية الاجتماعية.
تري د.هيام أن القائمين علي هذه الموائد أشخاص يحبون مشاركة الدولة في سد بعض نقاط الضعف. فهناك جمعيات خيرية ومنظمات للمجتمع المدني تقدم مساعدات كثيرة نتيجة للنمو السكاني المتزايد ويوجد عدد كبير من الفقراء. وبالتالي من الممكن أن تكون الدولة عاجزة علي شمول كل هؤلاء برعايتها. رغم أن الدولة تقوم بعمل مبادرات كثيرة لمساعدة هذه الطبقات الفقيرة أو متوسطة الدخل. فهذا نوع من أنواع التطوع يعرف بالتطوع الطوعي أي القيام بالعمل عن طواعية ووازع ديني وهذا شيء مهم للغاية حتي لا يصبح هناك فتنة في المجتمع أو نظرة دونية للآخرين. وهذا يدل علي أن الإنسان منتمي لهذا المجتمع.
نوهت إلي أن الأمن الغذائي يعد أمناً قومياً ويعد من المخاطر. ففي حالة عدم القدرة علي توفير الغذاء للطبقات الفقيرة. فهي لها عائد سلبي علي المجتمع. لكن الإنسان يسعي إلي المشاركة المجتمعية والانتماء لهذه الطبقات. لكي تصبح متماسكة وعدم وجود فتن أو تحيز لطبقة دون أخري ليصبح المجتمع نسيجاً قومياً ومتماسكاً مع بعضه البعض. بالإضافة إلي "جدعنة" الشعب المصري ليست موجودة فقط في موائد الرحمن بالشهر الكريم. ولكن يمكن أن تتلامس هذا الشعور والإحساس بالمسئولية عند وقوع حادث علي الطريق. نلاحظ هنا تدخل الأفراد في إنقاذ المصابين وهكذا وأيضا في حالة وقوع مشاجرة بين شخصين بنجد الشعب المصري يتدخل لفض هذه المشاجرة عن طريق تراضي الطرفين حتي لا يصعب السيطرة عليها وأخذ السلوك الهمجي. فالشعب المصري شعب معطاء حتي في ظل مروره بظروف صعبة تفوق قدرته علي الاحتمال نجد البسمة علي وجهه ومساعدة الآخرين لبعضهم البعض قدر المستطاع. هذا السلوك يدخل ضمن المواطن الصالح أي المواطنة وحب الوطن وحب العطاء والإحساس بالمسئولية وأيضا الاحساس بالمشاركة المجتمعية. فجميعها سلوكيات تعكسها موائد الرحمن.
د.هند فؤاد.. أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية: سلوك أصيل.. المصريون بطبعهم كرماء
أكدت د.هند فؤاد أستاذ علم الاجتماع المساعد بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية أن شهر رمضان يمتاز بصفتين. هما أنه شهر الخير والبركة. لذا يحرص المصريون علي إقامة موائد لإفطار الصائمين ليس بهدف التربح أو الشو الإعلامي. وإنما من باب التودد إلي الله وكسب آجر ثواب الصائمين كما أمرنا الله بذلك. بالاضافة إلي أن المصريين بطعبهم كرماء ومحبي للدين والتقرب إلي الله. فيعد إفطار الصائم وسيلة للتقرب إلي الله والتودد إليه ولم تنقطع هذه الموائد. خاصة في الأماكن الشعبية إلا في فترة "كورونا" أثناء الغلق الكلي في بداية انتشار الفيروس. فهي عادة موروثة ومتأصلة في نفوس المصريين منذ القدم لذلك لم تنقطع إلا في وقت ذروة الفيروس.
أوضحت أنه رغم الظروف الاقتصادية والأزمات التي يمر بها المجتمع والعالم أجمع. إلا أن كرم المصريين وحبهم لعمل الخير والتقرب إلي الله دفعهم للاستمرار في إقامة هذه الموائد بالجهود الذاتية للمصريين مسيحيين أو مسلمين لتظهر روح المحبة والمودة والتكافل والرحمة فيما بينهم وأيضا تظهر قيم التكاتف والتعاون اثناء الأزمات. فكم من أزمات شهدها المجتمع من حروب وثورات وفيروسات إلا وخلقت من المنحة نعمة وظهرت قيم الانتماء للوطن والشهامة والجدعنة بين المصريين.
اترك تعليق