لم يكن منح الأكاديمية الملكية السويدية جائزة نوبل للاقتصاد في شهر أكتوبر الماضي إلى الحاكم السابق للاحتياطي الفيدرالي الأميركي، بن برنانكي، وشركائه دوغلاس دايموند وفيليب ديبفيغ؛ إلا تقديراً لدور البنوك أثناء الأزمات المالية، هذا الدور الذي تجلى في الآونة الأخيرة.
وقد أشارت الأبحاث الاقتصادية الأخيرة إلى أن تدخل الدولة بقرارات داعمة يكون لمكافحة الكساد أوالتضخم الاقتصادي، وفي الحالة المصرية تجدر الإشارة إلى قرار البنك المركزي المصري، مؤخرا، برفع سعر العائد علي الايداعات والقروض بنسبة 3%، وكذلك الإعلان عن طرح شهادات بعائد يعد الاعلى، بمثابة مفاجأة غير متوقعة للسوق، حيث يصل سعر العائد علي الشهادة التي أصدرها بنكا الأهلي ومصر لمدة عام 25% في حالة صرف العائد في نهاية العام، فيما يبلغ العائد 22.5% في حالة صرف العائد شهريا، وذلك بهدف محاصرة معدل التضخم الذي بلغ نحو 21% في نهاية نوفمبر الماضي، وجذب السيولة في المجتمع بالجنيه المصري، وكذلك المدخرات الدولارية.
كما شهدت البنوك، بحسب البنك المركزي المصري، تحركا جديدا لسعر الجنيه أمام الدولار في إطار استهداف سياسة مرونة لسعر الصرف التي تم التوافق عليها بين مصر وصندوق النقد الدولي ليكسر الدولار سقف الـ 26 جنيها مسجلا 26 جنيها و37 قرشا للشراء و 26 جنيها و 47 قرشا للبيع.
وقد عايشت المؤسسات المالية على مدار العامين الماضيين ضغوطاً كبيرة، لأنها كانت في الخط الأول من التأثر بتداعيات الأزمات الاقتصادية، وكذلك حاليا من تداعيات الأزمة الاوكرانية، فضلاً عن ضغوط التعامل المباشر مع الجمهور العام، وإدارة حالة عدم الثقة التي تصاعدت في عدة دول مع تعقد الأزمات الاقتصادية من جانب، وعلى الجانب الآخر، كانت أداة أساسية في إدارة الأزمات الاقتصادية. وقد أثارت المحن المتلاحقة الأسئلة بشأن موقع البنوك من الأزمات الاقتصادية، وما إذا كانت تلعب دوراً في احتواء الأزمات، وما هي محددات السياسات البنكية خلال تلك الأوقات.
نشر "مركز المستقبل" تقريرا يعكس الوضع الحالي للاقتصاد العالمي، فبحسب وظائفها، عادة ما تكون البنوك محط اهتمام الجمهور العام، وهو ما يجعلها دائماً عرضة للشائعات بشأن انهيار وشيك، ويعد هذا البعد من أهم نقاط الضعف لدى البنوك، والثغرة التي شكلت بداية الفتيل لوقوع أزمات اقتصادية كبرى كما حدث في الأزمات التاريخية السابقة، مثل انهيار وول ستريت عام 1929، ومرحلة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، التي تعد أسوأ أزمة اقتصادية في التاريخ المعاصر، وأيضاً الأزمات المالية العالمية في الفترة 2007-2009، حيث شكل التهافت الكبير على سحب الأموال من المصارف عاملاً رئيسياً في إطالة أمد الأزمات وتفاقمها.
وهو ما أشار له برنانكي بوضوح في أبحاثه، من خلال النماذج الرياضية والتحليلات التاريخية التي تكشف طبيعة النظام المصرفي ذاته، والذي يعتبر نظاماً ديناميكياً غير خطي، يمكن أن يخرج عن نطاق السيطرة بسبب أبسط المحفزات. وأكثر مثال وضوحاً على ذلك حالة الذعر التي قد تظهر وتنتشر بين المدخرين والعملاء والتي ينتج عنها سحب الأموال بصورة هيسترية ما يعرف ب bank rush، وهي الحالة التي قد تهدد القطاع المصرفي فجأة، غير أن هروب الأموال يمنع بالضرورة البنوك من تقديم القروض وتباطؤ الاستثمار.
وأشار التقرير إلى أن دايموند وديبفيغ قدما عام 1983، نموذجاً رياضياً شرح فيه كيفية عمل البنوك كوسيط يقلل الفجوة بين متطلبات المدخرين والمقترضين، ويجعل دورة المعاملات المادية والمالية سهلة وفعالة. فمن جانب يريد المدخرون الاستثمار الآمن لأموالهم مع ضمان قدرتهم على الانسحاب في أي وقت من دون التزام طويل الأمد، في المقابل يحتاج المقترضون، مثل الشركات والمؤسسات الكبرى، إلى قروض مالية بالتزامات طويلة الأجل. ولأنه بشكل عام لا يحتاج جميع المدخرين إلى الانسحاب في الوقت نفسه، يمكن للبنوك استيعاب التقلبات للحفاظ على "السيولة"، وبالتالي تمكين عملية تداول الأموال.
إلا أن هذا النظام ينطوي على نقطة ضعف فاصلة، إذا تعرض عدد كاف من المدخرين لما يسمى بـ"صدمة السيولة" الخارجية، وهي حالة مجتمعية تجعلهم يرغبون في سحب أموالهم، ففي السابق، لم يكن من الواضح ما إذا كانت إخفاقات البنوك سبباً أو نتيجة للأزمة المالية، أو أيهما يحدث أولاً، بينما أظهرت أبحاث برنانكي أن الانهيارات السابقة كانت مدفوعة في الغالب بالبنوك. والسبب يرجع لفشل البنوك في الحفاظ على خصوصية العميل، الذي يؤدي لفقدان معلومات مهمة عن مدخرين ومقترضين، فمن دون ضمانات بشأن جدارة البنك الائتمانية، من الصعب بناء السيولة المالية مجدداً. وهذا يؤدي لبداية كساد وأزمة اقتصادية كما أوضح برنانكي في بحثه.
فسرت هذه النظرية انهيار 2007-2009 والذي بدأ بتراجع قطاع الإسكان، والتحسينات التي أعقبتها في السياسات التنظيمية في جميع أنحاء العالم تركت النظام أقل عرضة للخطر، وقد حث رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي السابق، بن برنانكي، صانعي السياسات على مراقبة أي تدهور يحدث في الأوضاع المالية في أنحاء العالم، خاصة في الوقت الذي تزيد فيه الضغوط الناجمة عن الحرب وتقلبات العملة، على الاقتصادات جميعها. وعلى الرغم من أن واحدة من أسس الاقتصاد التي وضعها آدم سميث، هي أن اقتصاد السوق أفضل عبر الاعتماد على نفسه من دون أي تدخل خارجي، فإن الفائزين بجائزة نوبل اعتقدوا خلاف ذلك، فقد حثوا على تدخل الدولة لمنع أي مخاطر محتملة.
اترك تعليق