منذ أيام قليلة استيقظت علي مكالمة تليفونية من زميلتي في الكلية الدكتورة "حورية حسان" - أستاذة النقد الأدبي الإنجليزي بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة حلوان تسألني عن رأيي في مسلسل "الضاحك الباكي" الذي يحكي عن التاريخ المسرحي للفنان نجيب الريحاني! فأجبتها أنني لا أتابعه لانشغالي الشديد!! فقالت: لازم تشاهده لأن رأيك يهمنا جميعاً، ونحن ننتظر رأيك التاريخي في هذا المسلسل. لأنه لا يجوز أن يكون في كليتنا "جبرتي المسرح العربي" ولا نستفيد من رأيه في هذا المسلسل؟!! فوعدتها خيراً.
وبالفعل رأيت الحلقة الأولي - في مواقع الإنترنت فشعرت بالملل!! ثم شاهت الحلقة الثانية فشعرت بالضيق!! وشاهدت الثالثة فشعرت بالغضب، وشاهدت الرابعة فشعرت بالندم على ضياع وقتي في المشاهدة!! وهنا تذكرت وعدي لزميلتي، فقررت مشاهدة باقي الحلقات، وبالأمس أنهيت مشاهدة جميع الحلقات، وهذا رأيي!!.
لن أتحدث عن تصرفات أم الريحاني ومشاعرها الغريبة تجاه أولادها وابنة شقيقة زوجها!! وهي تصرفات ومشاعر لا وجود لها عند أي أم مصرية "صعيدية"!! ولن أتحدث عن توفيق شقيق نجيب الريحاني، وظهوره بمظهر "الديوث"!! ولن أتحدث عن جورج الشقيق الآخر الذي ظهر بمظهر "المتخلف عقلياً".. لن أتحدث عن هذه الأمور، لعلها كانت مقصودة لإظهار نجيب الريحاني بمظهر الإنسان الملاك الذي وُلد وتربي وعاش وسط أسرة شاذة شيطانية مُعاقة - حتي ولو كانت غير ذلك - فهذه رؤية فنية يُمكن قبولها علي مضض واشمئزاز!!.
وبالمنطق نفسه لن أتحدث عن إظهار "أغلب زوجات" الموظفين المحترمين بالخائنات وبنات الليل!! فهل نصدق أن زوجة مدير بنك في بني سويف الصعيد تفتح الباب مرتدية قميص نوم، وتغرر بالزائر الذي يأتي لأول مرة وهو الريحاني؟!! والأمر نفسه يحدث مع زوجة الباشكاتب في نجع حمادي، وتقتحم شقة العازب الريحاني مرتدية ملابس فاضحة تريد الرذيلة!! لن أتحدث عن هذا التصور الشاذ. ولعله مقصود لإظهار الريحاني شريفاً عفيفاً، حتي ولو أساء العمل لطبيعة المرأة المصرية الشريفة!!.
أما ما أريد أن أتحدث عنه، هو عدم أحقية القائمين علي هذا المسلسل في تشويه الحقائق والأشخاص المعروفين في تاريخ المسرح!! فليس من حق أي إنسان إظهار "صالحة قاصين"- الممثلة المرموقة الرصينة في تمثيلها بمظهر فتاة الليل التي تعاشر الرجال!! كذلك الأمر في تشويه "علي يوسف" أشهر مدير مسارح في تاريخ مصر في الرُبع الأول من القرن العشرين. وتصويره بالبلطجي الذي يعيش علي حماية الممثلات مقابل أموالهن وأجسادهن!! والأمر نفسه في إظهار "بديعة مصابني" بالمومس التي تبيع جسدها مقابل المال ومعاشرة الباشوات. حتي ولو كانت "راقصة"!! وكذلك إظهار زوجة الحاج "مصطفي حفني" صاحب أشهر مسارح عماد الدين بأنها خائنة وتريد التغرير بالريحاني!! هل هذا التشويه الأخلاقي من حق القائمين علي هذا المسلسل؟! وهل هذا التشويه جاء في صالح الريحاني!!.
كل ما سبق يُمكنني تجاوزه!! أما تزوير تاريخ المسرح وتشويهه. فلا أستطيع تجاوزه أو الصمت عليه!! فليس من حق أحد مها كانت رؤيته الفنية المسمومة أن يُظهر "منيرة المهدية" بأنها شتامة ومغرورة. وأن "جورج أبيض" يخشي علي فرقته من الريحاني رغم البون الشاسع بينهما وإيهام المتفرج وجود منافسة بينهما!! وكذلك الأمر مع فرقة رمسيس "ليوسف وهبي" التي تخشي علي نفسها من عروض الريحاني، رغم أن الفرق بينهما. هو الفرق بين سماء رمسيس وأرض الريحاني!! والأغرب أن المنافس الحقيقي للريحاني، وهو "علي الكسار" لا وجود له في المسلسل. ولم يُذكر اسمه طوال الثلاثين حلقة إلا مرتين بصورة هامشية لا أثر لهما! وهذا التشويه أو التزوير التاريخي لا مبرر له، حتي ولو كان المبرر إظهار فرقة الريحاني بأنها أنجح فرقة مسرحية!!.
أما الجريمة الفنية بحق، فتمثلت في إظهار الريحاني بأنه "المسرح المصري كله"!! فنجيب الريحاني هو من صنع: عزيز عيد، وأستيفان روستي، وبديعة مصابني، وروز اليوسف، ومحمد عبد القدوس. وسيد درويش، وعمر وصفي.. إلخ، رغم أن التاريخ يقول عكس ذلك!! وآخر مبالغة يُمكن تخيلها أن "نجيب الريحاني" وحده خلافاً لأي فنان مصري آخر هو من قاد ثورة 1919 فنياً ومسرحياً!! هكذا أظهره المسلسل، وهذا مخالف للتاريخ لأن الريحاني أحد عشرات الفنانين المشاركين في الثورة!!.
وأخيراً أقول: لا أستطيع لوم القائمين علي صناعة هذا المسلسل، لأنهم أعملوا خيالهم أكثر من إعمال عقولهم في قراءة تاريخ الريحاني والبحث عنه!! فكل ما هو مكتوب ومعروف حتي الآن عن نجيب الريحاني من: مذكرات ومقالات وأفلام ومسلسلات.. يُمثل 20% فقط من التاريخ الحقيقي والمجهول عن نجيب الريحاني والذي لا يعرف تفاصيله أحد حتي الآن!وعندما شاهدت حلقات مسلسل "الضاحك الباكي" شعرت بتأنيب الضمير تجاه الفنان نجيب الريحاني، ووجهت إلي روحه هذه الكلمة تحت عنوان "إلي الفنان نجيب الريحاني.. سامحني أنا السبب".. لماذا؟! لأن الـ80% من تفاصيل تاريخك أمانة في عنقي. وسينشرها "جبرتي المسرح العربي" يوماً ما ليعرف الجميع التاريخ المسرحي الحقيقي والمجهول لنجيب الريحاني!!.
دكتور سيد علي
اترك تعليق