هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

راشومون في نسخة جديدة تراوح بين الكوميدي والتراجيدي

المخرج استخدم تقنيات السينما
وعناصر العرض أسهمت في تشكيل الصورة

في نسخة جديدة لمسرحية راشومون، قدمها طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية، لا جديد، إلا قليلًا، في ما يخص النص المأخوذ عن قصتي "في غابة"، و"راشومون" للكاتب الياباني ريونسكي أكوتاجورا، إعداد مسرحي للأميركيين فيي ومايكاكانين، ترجمة عبدالحليم البشلاوي.


ربما الجديد في هذا العرض يتمثل في خط كوميدي أضفاه المخرج محمد فريد، على شخصيتي الصعلوك صانع الشعر المستعار، وهي أصلًا شخصية مضافة إلي النص الأصلي، أداها محمود عبدالرازق، والحطاب التي أداها أمير محمود، وكانا من أكثر الشخصيات حضورًا على الخشبة، وإن تسببا أحيانًا في صرف أنظار الجمهور عن أسئلة العرض الرئيسة، نعم الكوميديا هنا خففت من ثقل وكثافة الطبقات المتراكمة التي يقدمها العرض، والمتعلقة بنسبية الحقيقة وتعدد وجوهها، لكن يجب على الممثلين الانتباه إلي عدم الرضوخ دائمًا لإغراءات الكوميديا، فاللجوء إلي الكوميديا من دون حسابات، بخاصة في مثل تلك الأعمال التي تتسم بالرصانة، سلاح ذو حدين، هما طاقتان جيدتان في الكوميديا. لكن البلاغة، كما يقول العرب، هي مطابقة الكلام لمقتضي الحال.


لا يمكن القول إن سكة الأداء التي اتخذها هذان الممثلان انحرفت بالعرض إلي غير هدفه، لكنها كادت تؤدي لذلك في بعض الأحيان، خاصة مع استجابة الجمهور لهما، وهي ملحوظة تتعلق بالممثلين الشباب عمومًا، فالكوميديا دائما، وكما يقولون "تأكل مع الجمهور"، ويحظي من يؤديها بالإعجاب والتصفيق، لكنها إذا لم توظف في موضعها أضرت بالعرض.

لدينا، في الأصل، أربع شخصيات كل منها يروي الحدث نفسه من وجهة نظره هو بالطريقة التي يحب أن تصل بها إلينا لنصدقها، وعلى رغم أن كل رواية تختلف كلية عن الأخري، فإن كل رواية معقولة ويمكن تصديقها، بالنظر إلي طبيعة الشخصيات ودوافعها.

نص العرض يتناول قصة محارب ساموراي يصطحب زوجته في نزهة داخل الغابة، يتعرض لهما لص وقاتل شهير، وتروق له الزوجة، ويحدث أن يتم قتل الزوج، ويعثر أحد الأشخاص على جثته في الغابة، وتبدأ التحقيقات بشأن هذه الواقعة، وتتعد الروايات حول مرتكب الجريمة.


اللص تاجومارو يعترف أمام المحقق أنه من قتل محارب الساموراي ليفوز بزوجته، والزوجة تعترف بأنها هي التي قتلت زوجها لأنه لم يدافع عنها، والحطاب يعترف بأنه القاتل ليحصل على سيف المحارب، وروح المحارب نفسها التي تم استدعاؤها تعترف بأن المحارب قتل نفسه بعد عجزه في الدفاع عن زوجته، فضلًا عن تأكده من خيانتها له، ثم نجد في النهاية شخصية خامسة تدخل على الخط، وهي اللص الصعلوك الذي يقول إنه قتل المحارب، وهو في النزع الأخير، ليحصل على شعره، وقد مهد المخرج لهذه الشخصية في البداية بتقديمها كشخصية لص صعلوك ينبش القبور للحصول على شعر الموتي.

إذًا كل الروايات مصدقة، ليس من قبل أصحابها فقط وإنما لأن دوافع الشخصيات جميعًا مبررة وتؤدي إلي ارتكاب الجريمة، لتظل كل الحقائق، في النهاية، معلقة، لا إجابة نهائية أو حاسمة عنها.


لسنا أمام مسرحية بوليسية، بقدر مانحن أمام مسرحية فلسفية تتناول فكرة الحقيقة. هل هي نسبية أم مطلقة، وتحاول البحث عن إجابات، لاتفرض إجابة بعينها، وتزيد من شكوكنا بتفصيل تاريخ الشخصيات، ذلك التفصيل الذي يجعل كل الإجابات ممكنة، ويعيدنا دائمًا إلي نفس الدائرة من الشك، والسؤال، ما يعمق لذة المشاهدة.

منظر واحد "صممه أحمد جمال" يمثل غابة في العمق، وعلى الجانب الأيمن معبد بوذي على بوابة راشومون، جاء بزاوية ميل وفي حالة من التداعي دلالة على الأوضاع المتردية في البلاد وقتها، وعلى الجانب الأيسر غرفة المحقق، وفي المنتصف مساحة للتمثيل وإدارة المعارك بين اللص والساموراي، ديكور تعبيري، يمثل الأجواء اليابانية في تلك الفترة الباكرة التي تصورها القصة، سمح بإدارة الأحداث بالتوالي والتوازي معًا من دون أي إعتام، ولعبت الإضاءة "صممتها آلاء رسلان" دورًا مهمًا في النقلات المكانية، وغلب عليها اللون الأحمر، إشارة إلي أجواء المؤامرة والشهوة والقتل، وشكل الديكور والإضاءة مع الملابس "تصميم رحمة عمر"، والماكياج "تصميم لمياء محمود"، عنصرًا جماليًا مهمًا في العرض.. حيث تم توظيف هذه العناصر بشكل واع ومقتصد في إنتاج صورة مسرحية مشرقة، بخاصة أن ميزانية مثل هذه العروض ضئيلة، لكن ضآلة الميزانية لم تكن حائلًا دون تشكيل هذه الصورة المرئية التي أضافت الكثير إلي العرض.


لجأ المخرج، الذي قام بعمل الدراماتورج مع إسراء محجوب، إلي مستويين من التمثيل، الأول هو أقرب إلي السرد. والآخر هو استكمال هذا السرد بالتجسيد، في الأول تبدأ مايمكن اعتبارها افتتاحية الحكاية، ثم ينتقل الأمر إلي تجسيدها، وذلك بواسطة بناء درامي محكم، يتم المزج من خلاله بين المستويين من دون الشعور بأن هناك قطعًا ما، أو مسافة زمنية ما بين المستويين، بحيث يذوب كل منهما في الآخر وتنمحي الحدود بينهما.

هذه الطريقة التي لجأ إليها المخرج، مستخدمًا فيها مايشبه المونتاج السينمائي، تتطلب مهارة خاصة في التنفيذ، حتي لا يلتبس الأمر على المشاهد، وهو ما كان واعيًا إليه، حتي إنه استخدم أيضًا "الفوتو مونتاج" في المشهد الأخير، وكأنه يخبرنا بقدرته على توظيف تقنيات السينما في المسرح.


صناع عناصر العرض جميعهم إما طلاب في المعهد أو متخرجون فيه، وتعد مثل هذه العروض اختبارًا لمهاراتهم، وما اكتسبوه من خبرة نتيجة الدراسة الأكاديمية، وهو ما عكسه بالأخص مستوي التمثيل، ففضلًا عن محمود عبدالرازق في دور اللص الصعلوك، وأمير محمود في دور الحطاب، بغض النظر عن الإسراف في الكوميديا، لعبت دينا السواح دور الزوجة التي تبدي عكس ما بداخلها تجاه زوجها أو تجاه اللص القاتل، بفهم ووعي لطبيعة الأنثي في تلك الحالة. وبمراوحة محسوبة، بين ما تظهره وما تبطنه، وتميز كذلك محمد فريد، مخرج العرض، في دور اللص القاتل بتكوينه الجسماني المناسب تمامًا لهذا الدور وفهمه لطبيعة الشخصية، وعبدالباري سعد في دور محارب الساموراي، المؤرق بين خيانة زوجته له وواجبه في الدفاع عنها، وأجاد في مشاهد القتال مع اللص، وهناك أيضًا مصطفي حلمي وكريم طارق في دوري كاهن المعبد والمحقق، اللذان أديا بشكل جيد في حدود المساحة الضيقة نسبيًا التي اتيحت لهما.

لا حقيقة واحدة أو مطلقة يقدمها العرض، وإن قدم متعة فكرية وبصرية، وحفز على السؤال، مدركًا طبيعة دوره، الذي يقف عند هذه الحدود، ليس مهمًا معرفة القاتل، المهم تأمل طبائع الإنسان، والتفكير والسؤال.





تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي

تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي جوجل نيوز جوجل نيوز

يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل

اترك تعليق