لم تخفف الاشهر الخمسة الماضية - كما كان متوقعا من حدة الازمة الروسية الاوكرانية او من اثارها الوخيمة علي الاقتصاد الدولي والنظام المالي العالمي. وفرض الواقع علي الارض معالم.
نظام مالي جديد لم يكتمل بعد . ساهم في وجوده العقوبات الاقتصادية والمالية غير المسبوقة التي فرضتها الولايات المتحدة واوربا علي روسيا . والاجراءات المضادة التي لجأ اليها الجانب الروسي.
والتي أدت إلي الحد من الاثار السلبية للعقوبات الغربية. ليستعيد الروبل الروسي ما فقده في الاسابيع الاولي للحرب . ليصل خلال الاسبوع الاخير الي مستويات سعرية امام الدولار واليورو لم يصلها منذ سنوات .. في الوقت الذي تراجعت فيه العملة الاوربية لتتساوي لاول مرة منذ سنوات طويلة مع الدولار . ولاح في الافق بوادر تحالف اقتصادي مالي طرفاه الاساسيان روسيا والصين في مواجهة الغرب. وان لم يظهر للعلن حتي الان مثل هذا التحالف تحسبا لمواجهات مباشرة وحادة مع الغرب.
ثمة ظاهرة اسفرت عنها الحرب والعقوبات المصاحبة وهي خروج بعض الاستثمارات في سندات الخزانة الامريكية . ووفقا لاحدث بيانات وزارة الخزانة الأمريكية فقد خفض أكبر اقتصادين في آسيا وهما الصين واليابان استثماراتهما في أذون وسندات الخزانة الأمريكية إلي أدني المستويات في عدة سنوات.
وأشارت البيانات إلي أن استثمارت الصين في هذه السندات بلغت في شهر مايو الماضي مستوي 980.8 مليار دولار بعد أن بلغت في أبريل الماضي نحو 1003.4 مليار دولار. أي بتراجع قدره 22.6 مليار دولار. وفقا لما نقلته شبكة روسيا اليوم.
ومقارنة بمايو 2021 فقد انخفضت استثمارات بكين في سندات الخزانة الأمريكية بواقع 97.6 مليار دولار. من 1078.4 مليار دولار إلي 980.8 مليار دولار. وهو أدني مستوي في نحو 12 عاما الماضية.
كما تراجعت استثمارات طوكيو في السندات الأمريكية في شهر واحد بواقع 6 مليارات دولار لتتراجع من 1218.5 مليار دولار في أبريل الماضي إلي 1212.8 مليار دولار في مايو. وهو أدني مستوي منذ بداية العام.
ومقارنة بالعام الماضي فقد بلغ التراجع في سندات وأذون الخزانة الأمريكية بواقع 53.4 مليار دولار.
وفيما يتعلق بالدول العربية. أظهرت بيانات وزارة الخزانة الامريكية أن السعودية أيضا قلصت هذه الاستثمارات من 127.3 مليار دولار في مايو 2021 إلي 114.7 مليار دولار في مايو 2022 أما الإمارات فقد خفضتها من 57.3 مليار دولار إلي 38.3 مليار دولار في نفس الفترة.
بحسب تقرير لشركة" انتر ريجونال للتحليلات الاستراتيجية" فقد ساد العالم في الآونة الأخيرة حالة من الترقُّب وعدم اليقين حول شكل النظام المالي العالمي الجديد في ظل التغيُّرات الهيكلية والمتسارعة منذ نشوب الحرب . ففور إطلاق روسيا العمليات العسكرية تعرَّضت لحربي ضارية ضد عملتها. شنتها كل من دول مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي. عبر توقيع جملة من العقوبات الواسعة النطاق.
وقد ساهمت تلك العقوبات في تسريع وتيرة التوجُّه نحو إلغاء الدولرة في النظام المالي العالمي.
حيث لعبت الحرب دوراً رئيسياً في احتدام التنافس بين العملات . لتتراجع هيمنة الدولار الأمريكي ـ ولو جزئيّاً ـ لصالح عملات أخري. عقب العقوبات الغربية ضد روسيا.
ووفقا للتقرير فقد صمدت عملة روسيا " الروبل" رغم العقوبات المُشدَّدة التي شملت إدراج البنك المركزي الروسي في القائمة السوداء للنظام المالي العالمي الذي يهيمن عليه الدولار الأمريكي. و استبعاد أهم البنوك الروسية من نظام "سويفت". وقد أدَّي ذلك إلي تراجع قيمة الروبل الروسي إلي مستوي قياسي في الأيام الأولي التالية للحرب. بنحو 7% لتصل قيمته إلي 86.98 روبل للدولار الواحد. لكن ذلك لم يستمر طويلاً مع إعلان روسيا عن اشتراطها علي الدول ـ غير الصديقة ـ الدفع مقابل الغاز الروسي والمنتجات الروسية الأخري بالروبل الروسي أو الذهب» وبدا الوضع مختلفا بعد ستة أسابيع من الحرب. ليستعيد الروبل معظم ما خسره. ولو ظاهريّاً» ما دفع بعض المسؤولين الروس إلي تأكيد فشل العقوبات ضد موسكو.
لعبت الصين والهند علي وجه الخصوص. ودول الشرق الأقصي. دوراً محوريّاً في حروب العملات العالمية» إذ اختارت تلك الدول الانسحاب من نظام العقوبات الأمريكي الموسع. فيما جاءت الهند علي رأس الدول التي رحَّبت بفكرة توفير باب خلفي للمدفوعات لروسيا. في إطار سعيها إلي الحفاظ علي استقلال سياستها الخارجية. وذلك من خلال بحث تسوية المعاملات بالروبية والروبل. بما في ذلك تجارة المقايضة التي تشمل النفط والسلع الأخري.
وتسعي الصين إلي توفير نظام بديل لـ"سويفت" من خلال إنشاء بنية تحتية للمدفوعات كوسيلة بديلة للدفع في النظام المالي الدولي الذي يهيمن عليه الغرب عوضاً عن "سويفت" لذا أطلقت الصين نظام "CIPS" كعملة مشفرة سيادية. لتكون بديلاً عن نظام الدفع العالمي "سويفت". وبالرغم من ان الاطار الذي يعمل فيه ذلك النظام أصغر بكثير مما يعمل فيه نظام "سويفت". الذي يتخذ من أوروبا مقرّاً له. فإن الميل الصيني نحو إلغاء الدولرة بجانب القوة التجارية لبكين. قد يؤديان إلي زيادة هيمنة الأنظمة المالية التي تقودها في المستقبل القريب.
ومؤخرا. وقعت كل من روسيا والصين والهند وعدد قليل من الدول الأخري اتفاقيات تجارية ثنائية علي أساس اليوان والروبل والروبية. بعيداً عن الدولار الأمريكي.
ويري صندوق النقد الدولي ان هيمنة الدولار يمكن أن تتضاءل خلال الفترة المقبلة» بسبب تجزئة النظام المالي العالمي. ووفق ورقة بحثية صادرة عن الصندوق. فإن الدولار الأمريكي بات يُشكِّل 59% من احتياطات العملات الأجنبية العالمية. بعدما كان يمثل 70% قبل عقدَيْن من الزمان. وهو ما وصفه الاقتصاديون بـ"التآكل الخفي للدولار".
وعلي الرغم من ان تقرير "انتر ريجونال " يؤكد انه من غير المُرجَّح استبدال الدولار كعملة احتياطية علي المدي القريب. الا انه يري انه سيكون هناك تحولا ثابتا بعيداً عن الدولار في المستقبل قد يؤدي إلي تجزئة الاقتصاد العالمي. كأن يتم تقسيم المدفوعات بالتساوي بين العملات. بما في ذلك الدولار واليورو واليوان. وقد يؤدي ذلك إلي تقسيم الاقتصاد العالمي في شكل تكتلات متنافسة.
ووفقا للخبير المصرفي هاني ابو الفتوح فقد تسبب الصراع بين روسيا وأوكرانيا في اضطرابات في الأسواق المالية . وزاد بشكل كبير من حالة عدم اليقين بشأن تعافي الاقتصاد العالمي. وكذلك المخاطر التي تؤثر علي أسعار العملات في أسواق الصرف. وأسعار السلع الأساسية والمنتجات . وهو ما ادي لارتفاع أسعار السلع و تكثيف خطر التضخم المرتفع طويل الأمد الذي يزيد من مخاطر الركود والاضطرابات الاجتماعية.
يري ابو الفتوح أن الاقتصادات الأوروبية هي الأكثر عرضة للخطر من حيث التضخم المتصاعد و التأثير علي نمو الناتج المحلي الإجمالي الذي سيشهد انخفاضات ملموسة بعد قطع امدادات الغاز الطبيعي الروسي. وهو ما يمكن أن يؤثر بشكل سيء علي نمو الناتج المحلي الإجمالي في الدول الأوربية.
بحسب "ابو الفتوح " فانه بعد مرور ما يقرب من خمسة أشهر علي الحرب الروسية الاوكرانية. وفرض حزمة العقوبات علي روسيا والتي استهدفت بشكل خاص البنوك الروسية الكبري . والبنك المركزي الروسي . والديون السيادية الروسية . فقد وضعت هذه الإجراءات ضغطًا هبوطيًا كبيرًا علي الروبل الروسي . الذي انخفض بشدة في بداية الحرب . لكنه عاد للارتفاع أمام الدولار. ويرجع ذلك إلي أن روسيا نجحت في معالجة سعر صرف الروبل لديها من خلال تدخل حكومي قوي واسع النطاق. شمل وضع قيود علي تدفق الأموال للخارج . و إجبار المصدرين علي استبدال معظم أرباحهم بالعملة الأجنبية من النفط والغاز بالروبل. ما أدي إلي التحسن في سعر الصرف.
اليورو يتراجع
بالنسبة للدولار الأمريكي مقابل اليورو. يقول ابو الفتوح . ان اليورو الواحد الان يساوي دولارًا أمريكيًا واحدًا لأول مرة منذ 20 عامًا. مرجحا أن مخاوف الركود وحرب روسيا في أوكرانيا التي تؤثر علي إمدادات الطاقة في الاتحاد الأوروبي في مقدمة العوامل وراء تراجع اليورو.
وتوقع أن يبادر البنك المركزي الأوربي برفع معدلات الفائدة من أجل مكافحة معدلات التضخم التي بلغت أرقاما قياسية هي الأعلي منذ 40 عاما.
اما عن سعر الفائدة الامريكية فيري ابو الفتوح أن معدل التضخم لشهر يونيو بلغ أعلي مستوي له منذ 41 عامًا . وهو ما سيدفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلي رفع أسعار الفائدة مجددا . مما يهدد بزيادة مخاطر الركود . الذي ستنتقل تداعياته الي اقتصادات العالم . و ستكون الدول النامية الأكثر تأثراً ـ لاسيما بعد انخفاض قيمة العملة المحلية مقابل الدولار الذي يواصل الارتفاع.
ويري الدكتور احمد شوقي الخبير المصرفي ان تصاعد وتيرة الأحداث والتوترات الجيوسياسية الناتجة عن الأزمة الحالية للحرب الروسية الأوكرانية و ما تبعها من إجراءات سواء علي الجانب العسكري أو الاقتصادي التي اتخذتها الدول الأوربية وامريكا لمساندة أوكرانيا ضد الدب الروسي كان لها اثرها المباشر علي الاقتصاد العالمي خاصة ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع مستويات الأسعار للطاقة والغذاء.
وفي رصده للاوضاع الحالية بعد مرور 5 شهور علي الحرب لفت شوقي الي انخفاض أداء اليورو الأوروبي ليتراجع بنسبة كبيرة ليصبح اليورو 1,01دولار مقابل 1,134 في نهاية يناير الماضي وارتفع أداء الروبل الروسي امام الدولار الأمريكي ليسجل الدولار 56,34 روبل مقارنة 77,37 روبل
كما أصبح اليورو يعادل 58,6 روبل مقابل 87,16 روبل في أواخر يناير الماضي أيضا.
هذا الانخفاض في أداء اليورو كما يقول "شوقي "لم يكن فقط أمام الروبل الروسي والدولار الأمريكي بل أمام العملات الاخري ومنها الجنية المصري حيث تراجع اليورو امام الجنية مع زيادة الضغوط الناتجة عن الازمة الحالية ليصل الي 19,16 مقارنة بنحو 20,06 في 21مارس الماضي بانخفاض نحو 84 قرشا.
بحسب "شوقي "فان قيام الفيدرالي الأمريكي برفع اسعار الفائدة لتصل إلي1,75% والتوجه للرفع 1% مرة اخري خلال الفترة المقبلة ساعد في تقوية أداء الدولار والتي دفعت الاستثمارات والأموال الساخنة للهروب الي الاقتصاد الأمريكي.
توقع شوقي أن تشهد الفترة القادمة مزيدا من الانخفاض لأداء اليورو أمام العملات الاخري وتحسن وضع الدولار عالميا و تحسن مواز لاداء الروبل مشيرا الي ان الاقتصاد المصري مطالب بخفض فاتورة الاستيراد و تقليل حجم الدين العام لخفض العبء علي الموازنة العامة للدولة الي جانب زيادة حجم الاستثمارات المباشرة لدفع عجلة النمو الاقتصادي وتحسين وضع العملة المحلية المصرية.
من جانبه يسلم صندوق النقد الدولي في تقرير الاستقرار المالي العالمي في نسخته الاخيرة بان العالم مقبل علي تغيرات ضخمة واستراتيجية بدأت مع الحرب في أوكرانيا ومستمرة بشكل دراماتيكي حسب المسار الواضح للتغيرات الاقتصادية والمالية علي مستوي العالم.
أشارت كريستالينا جورجيفا المدير التنفيذى للصندوق قبل ايام الى قتامة الآفاق الاقتصادية خلال الأشهر القليلة الماضية، لافتة إلى أن صندوق النقد الدولى قد خفض توقعات النمو الاقتصادى مرتين هذا العام، وفى غضون أسبوعين سيخفض التوقعات مرة أخري، واكدت فى لقاء بتلفزيون بلومبرج إن مخاطر الهبوط الاقتصادى قد تحققت من الحرب والوباء وتشديد الأوضاع المالية مشيرة الى ان حوالى 30 % من الاقتصادات الناشئة والنامية تعانى من أزمة ديون، ويدفعون نحو 10 ٪ أو أكثر لخدمة الدين، وقالت إن الحصة المتعثرة من الأسواق ذات الدخل المنخفض ارتفعت إلى نحو 6%.
اترك تعليق