هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

بعد وفاة اسطورة المسرح

د. مدحت الكاشف يكتب: بيتر بروك والمفهوم الاجتماعي للمسرح

العرض عنده تعبيراجتماعي يمكن من خلاله تصوير حياة وخبرة المتفرجين
كان دائم البحث عن مسرح بديل يناهض التقاليد التقنية السائدة في الغرب

توفي السبت الماضي المخرج البريطاني بيتر بروك أحد كبار مخرجي ومنظري المسرح عن عمر يناهز 97 عاما بعد حياة حافلة بالإنجازات التي استحق أن يلقب عنهابـ" أعظم مخرج على قيد الحياة".


سعي "بيتر بروك "1925 - 2022" إلي تطوير مفهوم اجتماعي للمسرح من خلال عدد من المبادئ التي شكلت الأساس الفكري لتصوره عن فن المسرح، ومن هذه المبادئ أن يقوم الفن المسرحي بكشف الواقع الاجتماعي من أجل تجاوزه وعدم التسليم به كدعوة للتغيير، وضرورة وعي فناني المسرح بالسمات الجوهرية للفن المسرحي، وبالتالي فإن المشاركة الفعلية للمتلقي هي أيضا أمر ضروري. حيث لابد أن يتوافق المسرح مع السلوك الإنساني - الاجتماعي مؤثراً فيه ومتأثراً به.

 كما يري بروك أنه لابد أن يقوم فن المسرح بنقد الواقع وتحديه من أجل استكشاف ما هو جديد، استشرافاً لطرح بدائل أخري، ولذا فإن من الأهمية في تصوره أن يجسد المسرح كل ما هو غير ممكن، وغير متصور في الواقع، أو بمعني أخر جعل غير المرئي مرئياً على خشبة المسرح، وبهذا يصبح المسرح تجمعاً  - اجتماعياً - من تجسيد الإرادة "الواعي"، ومن ثم، يقوم هذا التجمع بتفجير طاقاته الكامنة، والتي يمكن أن تؤدي إلي التغيير أو تحقيق عوالم ممكنة"، ولذا فقد جاء العرض المسرحي عند "بيتر بروك" تعبيراً اجتماعياً يمكن من خلاله تصوير حياة وخبرة المتفرجين، وليس مجرد تصوير لحياة متخيلة داخل المؤدي المبدع، في هذا يقول بروك:  إن اللغة تجذب وراءها تبعات ثلاث: وهي القائل- المقول -المستقبل، أما المادة الخارجية - وهي المادة الفنية - فهي المشعل أو الوهج الذي يصل الفنان بالمتلقي، فالمتلقي يوجد قابعاً في داخل العقل الواعي لكل مبدع.

ثقافات مختلفة

لقد استهدف "بيتر بروك" توحيد المجتمع العالمي من خلال المسرح، وذلك عن طريق محاولاته الدائبة لاكتشاف الخبرات الإنسانية المشتركة داخل الثقافات المختلفة، ومن ثم، مزج هذه الخبرات، ووحدها، بغرض التوصل إلي لغة عالمية للأداء، حتي أنه قام بتكوين فرقة من مجموعة من الممثلين الذي ينتمون لثقافات مختلفة، في محاولة منه للمساعدة في صهر هذه الاختلافات الثقافية بينهم، عندما يتحول ذلك الانصهار إلي مصدر للاحتكاك الإبداعي، من أجل تحقيق الهدف التنويري لكافة البشر، وهو ما يوضحه "بروك" عندما يقول: يستند عملنا إلي حقيقة مفادها أن بعض جوانب التجربة الإنسانية تتسم بالعمق الشديد، يمكن أن تكشف عن نفسها من خلال أصوات وحركات البشر بكيفية تتلامس فيها هذه التجربة مع تجربة مثيلة لدي المشاهد، مهما كان تكوينه الثقافي أو العرقي، ولم يكتف "بروك" بطرح المبادئ التي تشكل تصوره عن المفهوم الاجتماعي للمسرح فقط، ولكنه أيضاً بحث في الشروط "التقنية" التي تجعل ادارك المتلقي لهذه المبادئ متاحاً.. حيث اهتم بالبحث في سبل إنتاج المعاني والدلالات لجميع عناصر العرض المسرحي، لقد أراد "بروك" أن يؤكد على أهمية اكتشاف الجذور سواء في المسرح، أو في التجربة الإنسانية، إيماناً منه بضرورة وجود ما يسميه "المسرح الكوني" Universal Theatre الذي يجد فيه محاولة لإعادة اكتشاف الحرية المفقودة للإنسان المعاصر، بعيداً عن الأطر المعمارية التقليدية، وحواجز اللغة، والنماذج المسرحية الجاهزة، بل وبعيداً أيضاً عن الثقافات الرسمية باعتبارها عناصر تقف عقبة بين الإنسان ومشاعره الحقيقية.

عمل تنويري

وقد شغل "بيتر بروك" بقضية توحيد المجتمع العالمي، ومن ثم، ضرورة السعي إلي اكتشاف الخبرات الإنسانية المشتركة بين الثقافات المختلفة، رغم تباينها الحضاري والثقافي والاجتماعي، مما يمكن معه تحويل العمل المسرحي إلي عمل تنويري من خلال التداخل الثقافي Interculturalisn، الأمر الذي يعيد لفن المسرح حيويته، ومن خلال محاولة "بروك" لتحديد مفهومه عن المسرح بدأ بالتمييز بين أربعة أنواع من المسرح، وهي:المسرح الميت The Deadly Theatre، وهو ذلك المسرح (البرجوازي) الرديء، أو المسرح التجاري الذي يتوخي الأسس التجارية التي ترتبط بشباك التذاكر، هو:ذلك المسرح الذي يسلب الممثلين جوهر عملهم وأثمن ما فيه، ويقصد - بالطبع - ذلك الجوهر الإنساني للفنان عندما يتحول إلي مجرد سلعة، وعليه فإن "بروك" عندما يطلق وصف "الميت Deadly"على هذا المسرح إنما يعني انحراف الطاقة النشطة عن المسار الصحيح، أو بمعني أخر فإن المسرح "لميت" هو طاقة نشطة ضلت طريق الاحتفال بالحياة، وتوجهت نحو الموت، وعليه فإن المسرح بهذه الكيفية - كما يري "بروك"  ليس له مكانته المحددة في المجتمع، وذلك على اعتبار...  أن مجتمعاً مستقراً ومنسجماً قد لا يكون بحاجة- في مسرحة  إلا إلي البحث عن الوسائل التي تعكس. وتؤكد استقراره وانسجامه"، وفي ذات الوقت فإن "بروك" يؤمن أنه في عالم متغير علي المسرح أن يختار ما بين عدد من الصيغ المختلفة ما ينبض بالحياة والصدق في التعبير عنها.

أما النوع الثاني هو المسرح المقدس The Holy Theatre، وهو في نظر "بروك" ذلك المسرح الذي يحاول" جعل غير المرئي مرئياً"، وفي الوقت نفسه يبحث عن الأسس التي تجعل من إدراكه ممكناً، ولذا فإن هذا النوع من المسرح يتجاوز حدود الكلمات واللغة المنطوقة، ويميل إلي العوالم السحرية الغامضة، ذات الأصول البدائية، ويعتمد في ذلك على الجسد الذي بمقدوره إطلاق الطاقات الروحية، وتحرير كل من الممثل والمتفرج من أسر التقنع والزيف، وفي هذا يقول "بروك":  إن معظم جوانب الحياة تفر من حواسنا، ومن أصدق التفسيرات للفنون المختلفة أنها تتحدث عن طريق أنماط نبدأ نحن في التعرف عليها فقط حين تعبر عن نفسها كإيقاعات وأشكال"، ولذا يرجع "بروك" سلوك الناس. والجماعات، والتاريخ لهذه الأنماط التي تتردد وتتكرر في جميع الثقافات الإنسانية، ولهذا فهو لا يرفض هذا المسرح بل يثني عليه لأنه يتجاوز - في نظره - كل ما هو رتيب ومضجر في المسرح المعاصر، كما انه مسرح يثير التساؤل، ويحفز إلي التغيير.

المسرح ذو الطابع الخشن

والنوع الثالث في تصنيف بروك هو مايسميه بالمسرح الخشن:The Rough Theatre : وهو المسرح الذي يعرفه "بروك" بأنه المسرح "الجماهيري أو "الاحتفالي" على مر العصور، هو ذلك المسرح ذو الطابع الخشن، الذي يقام في أماكن وفضاءات مسرحية غير تقليدية، الذي يسمح بمشاركة أكثر فاعلية للمتفرج، ومن ثم، فهو مسرح الشعب، أو الغالبية التي تتحرك ضد السلطة، وضد التقاليد، وضد كافة مظاهر الرفاهية البراقة، والزائفة..حيث يستهدف هذا النوع من المسرح تعريه الواقع الاجتماعي تصل في بعض الأحيان إلي حد "الخشونة" والتطرف، كما هو الحال في المسرح الحي على سبيل المثال..حيث يري "بروك" في هذا المسرح تصويراً للأفعال الإنسانية بصورتها الفجة، وذلك لكونه مباشراً، وصارماً في ذات الوقت".

غير مرئي

أما النوع الرابع فهو المسرح المباشر أو الفوري The Immediate Theatre، وهو المسرح الذي يتبناه "بروك" ويعني بكونه فورياً أو مباشراً أنه واضح، وصريح، ومباشر، يخضع للحظة فورية لا يمكن استعادتها، وبهذا يكون مفهوم هذا المسرح متبلوراً في رصده لفعاليات الحياة اليومية في الوقت الذي يختلف فيه عنها، إن هذا المسرح يصبح وكأنه العدسة المكبرة التي ترصد هذه الحياة اليومية..حيث: إن المسرح يضيق الحياة، وهو يضيقها بوسائل عديدة، ومن الصعب دائماً أن يكون للفرد هدف واحد في الحياة، أما في المسرح - مهما يكن الأمر - فإن الهدف جلي واضح، فبالمسرح - بوصفه العدسة المكبرة - يمكن رؤية ما هو ظاهر في الحياة اليومية ولكنه غير مرئي، ومن ثم فإن المسرح هو "الساحة" التي يمكن أن تحدث فيها المواجهة الحية، بين مجموعة من البشر "مؤدين ومتفرجين"، ولذا فقد جاء "المسرح الفوري" الذي يطرحه "بروك" من خلال العلاقة بين أطراف ثلاثة هي: "الفعل Action-الموضوع Subject- الجمهور" Spectators.. حيث يؤمن "بروك" بأن الشيء الوحيد الذي تشترك فيه كل أشكال المسرح هو حاجتها إلي الجمهور، ففي المسرح يكمل الجمهور خطوات فعل الخلق للموضوع المطروح على خشبة المسرح.

أهم شئ على خشبة المسرح

ويشغل "الممثل" مركزاً متصدراً عن عناصر العرض المسرحي الأخري عند "بروك"، وذلك باعتباره الوسيلة الحقيقة الوحيدة الحية التي تميز هذا الفن عن غيره من الفنون.. حيث ينظر لفن المسرح في ضوء العلاقة الزمانية والمكانية، الحية والمباشرة بين الممثل، والمتفرج فقط، وفي هذا يقول "بروك": إن تركيزي على الممثل ليس مسألة أسلوب، لكنه نتيجة تجربة، فالممثل أهم شئ على خشبة المسرح، واعتقد أن كل شئ، الموسيقي، والملابس، والديكور والإضاءة، يتم الحكم عليها في مكان آخر، لكن كل هذه الأشياء ثانوية بالمقارنة إلي العنصر البشري "، وإذا كان اختيار "المكان المسرحي" يحدد أحداثاً مختلفة للمتفرج، فإن هذا الاختلاف يظل سطحياً، ويتعمق فقط عندما يستطيع الممثل إقامة نوع من العلاقة الداخلية المتغيرة بالمتفرج، ومن ثم، يري "بروك": أنه إذا استطاع الممثل اقتناص اهتمام المتفرج، فهو يستطيع أن يخفض وسائله الدفاعية، وبالتالي يلاطفه حتي يجعله في موقف غير متوقع، أو على وعي بتصادم الأفكار المتعارضة، أو التناقضات المطلقة، حينذاك يصبح المتفرج أكثر نشاطاً ومشاركة.

الجمهور في قلب التجربة

إن اهتمام "بروك" بمركزية دور المتفرج يبلور مفهومه الاجتماعي للمسرح، خاصة وانه يعمل على فكرة أن  المسرح جزء من الثقافة لأي مجتمع، ولذا فإنه يضع هذا الجمهور في قلب التجربة المسرحية، ليس ذلك فقط بل أنه يلقي عليه عبئها عندما يضعه في ذلك الاختيار الصعب، حينما يطرح عليه هذا السؤال: هل يود "هذا المتفرج" أن يتغير شئ في نفسه، في حياته، في مجتمعه؟ إذا لم يكن يريد فهو ليس بحاجة للمسرح من حيث هو امتحان قاس، منظار مقرب، أضواء كاشفة، مكان للمواجهة، من الناحية الأخري فهو قد يود أن يكون المسرح هذا كله معاً، وفي هذه الحالة لن يصبح بحاجة إلي المسرح فقط، لكنه بحاجة إلي كل شئ يستطيع استخراجه منه، أنه بحاجة مُلحة إلي الأثر الذي يخدش، وبحاجة ملحة إلي أن يبقي هذا الأثر ولا يزول، ومن هنا، كان اهتمام "بروك" بالفعل الحي المباشر، الذي تعبر عنه الإيماءة الحقيقية في الحاضر المباشر، أنه الفعل الذي هو على قيد الحياة، البعيد عن الاصطناع، ومن ثم، يحاول تحديد العوامل الفعلية التي تجعل فعل تصوير الحياة شيئاً يمكن إدراكه حسياً من قبل المتفرج، وذلك عن طريق مجموعة من التقنيات الأدائية التي يعتمد عليها الممثل عند "بروك" الذي يسعي للوصول إلي صيغة تحتوي الممثل مع المتفرج في بوتقة واحدة، وكلاهما يعين الآخر.. حيث يري "بروك" أن هؤلاء المتفرجين: جاءوا إلي ساحة خاصة.. حيث كل لحظة معاشة على نحو أكثر وضوحاً وقوة، إن الجمهور يعين الممثل، وجزاؤه أن يرتد إليه العون من فوق الخشبة، ولذا فقد حاول "بروك" جاهداً من خلال هذه النظرة الاجتماعية للمسرح أن يبحث عن صيغ أدائية جديدة، يكون بمقدورها التعبير عن التجربة الإنسانية الحياتية، بمعناها العميق. والكشف عن مسرح بديل، يناهض التقاليد التقنية السائدة في المسرح الغربي، أو محاولة المزج بينها، من أجل الخروج بصيغة جديدة ومغايرة، ليطرح لنا رؤية واضحة ومباشرة للمجتمع يمكن الاستفادة منها لتحقيق أهدافه في الوصول إلي لغة عالمية للأداء المسرحي.





تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي

تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي جوجل نيوز جوجل نيوز

يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل

اترك تعليق