بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وسكون دوي إطلاق النيران، كان الدمار يغلف أوروبا؛ المدن يعلوها ركام الأنقاض، الأوروبيون لم ينفضوا بعد غبار الحرب عنهم، ولا طاقة لهم بذلك، لكن على أحدهم دفع فاتورة إعادة الإعمار.
في 5 يونيو 1947، دعا وزير الخارجية الأمريكي، «چورچ مارشال»، إلى ما عُرفِت بعد باسمه: «خطة مارشال» -برنامج شامل لإعادة بناء أوروبا الغربية. كان الهاجس الأمريكي حينها الخوف من المد الشيوعي على حساب الاقتصاد الأوروبي المتآكل، فسارعت أمريكا إلى بناء القارة المحطمة لتكون قادرة على مواجهة الشيوعية.
اعتمد الكونجرس الأمريكي الخطة باسم «قانون التعاون الاقتصادي» في مارس 1948، ووافق على التمويل الذي تجاوز 15 مليار دولار، ما يساوي اليوم نحو 180 مليار دولار، مع حساب التضخم والقيمة الشرائية للدولار من حينها، وفقًا لـ «مؤشر سعر المستهلك» الذي يحسبه «مكتب إحصائيات العمل» في الولايات المتحدة.
اليوم يتكرر الحديث نفسه في الحالة الأوكرانية؛ لا شك أن ما تسميه روسيا «العملية العسكرية» في الأراضي الأوكرانية، المستمرة منذ 24 فبراير الماضي، قد أتت على الأخضر واليابس، خاصة في الشرق والجنوب الشرقي، حتى طال الخراب بعض المدن الأخرى التي لم يدخلها الروس بعد محاولة اقتحامها، على رأسها العاصمة «كييڤ»، وحتى «لڤيڤ» في الغرب.
لم تتوقف الحرب بعد، ولا يعلم أحد متى وكيف ستتوقف، ربما الرئيس الروسي «ڤلاديمير بوتين» نفسه لا يعلم. لكن كثيرين ينظرون إلى أوكرانيا على أنها تتحمل التكلفة البشرية والمادية لحرب الروس بدلاً من الولايات المتحدة وأوروبا، وأن على الغرب مسؤولية إعادة إعمار المناطق المنكوبة، تمامًا كما أمدوها بالسلاح.
يتخوف آخرون من أن إعادة إعمار البلاد قد تمثل ثغرة حصان طروادة، حيث يمكن للروس استغلالها من الباطن في كشف خبايا المدن التي عجزوا عن دخولها؛ فهل يتحمل الغرب مسؤولية إعادة إعمار أوكرانيا، وما تكلفتها؟
ما سوء الوضع؟
يتوقع البنك الدولي أن ينكمش الاقتصادي الأوكراني بنسبة 45% في نهاية العام الحالي. بلغت خسائر الاقتصاد الأوكراني بسبب تدمير المباني والبنية التحتية 105.5 مليارات دولار، حتى 25 مايو الماضي، وفقًا لمشروع «ستدفع روسيا الثمن» الذي تديره عدة مؤسسات أوكرانية على رأسها «معهد كييڤ للاقتصاد» و«وزارة الاقتصاد» و«الرئاسة الأوكرانية». وقال وزير المالية الأوكراني في حوار مع صحيفة «فاينانشال تايمز» إن العجز المالي بلغ 2.7 مليار دولار في مارس وحده.
حجم الخسائر في أوكرانيا، «معهد كييف للاقتصاد»
وتقول «منظمة العمل الدولية» إن أكثر من 5 ملايين لاجئ فروا إلى دول مجاورة، وإن الأوكران فقدوا 4.8 ملايين وظيفة، أي نحو 30% من إجمالي الوظائف قبل الحرب. وبلغت نسبة البطالة 25%، فيما كانت 9.9% قبل الحرب، وفقًا لـ «معهد ڤيينا للدراسات الاقتصادية الدولية». ويقدر «البنك المركزي الأوكراني» أن 30% من الشركات توقفت عن العمل، وأن 45% أخرى قللت إنتاجها.
ولكل هذا، فحتى بعد إعادة الإعمار المحتملة، فسيكون الاقتصاد الأوكراني أقل بكثير. المشكلة أن الوضع يزداد سوءًا، فمثلا استهلاك الكهرباء في أوكرانيا -وهو مؤشر معقول للنشاط الاقتصادي- ما يزال أقل بنحو ثلث ما كان عليه قبل الحرب.
دفع ذلك الوضع أوكرانيا إلى طلب المساعدة الخارجية لإعادة بناء المناطق المنكوبة، بعد الانتهاء المأمول وغير المتوقع للحرب! على الأقل في تلك المناطق التي انسحب منها الروس.
نداء استغاثة
في 27 أبريل الماضي أطلق الرئيس الأوكراني، «ڤولدومير زيلينسكي» نداءً إلى زعماء العالم أوضح فيه حجم الدمار: 1500 مؤسسة تعليمية، 350 مؤسسة طبية، طرق بطول 2500 كيلومتر، 300 جسر، بإجمالي 32 مليون كيلومتر مربع من المساحة السكانية تضررت، في عشرات المدن والقرى والبلدات، لا سيما مدن «ماريوبول» و«ڤولنوڤاخا» و«أوختياركا» و«تشيرنيهيڤ».
ما التكلفة؟
نظرًا لاستمرار الحرب فالتقديرات ما تزال أولية، ومع استبعاد التمويل اللازم للحرب ومد أوكرانيا بالسلاح وتحديث جيشها، تبلغ التقديرات الأوكرانية لتكلفة إعادة الإعمار 600 مليار دولار لإعادة إنشاء المباني والبنية التحتية. كما يقدر «مركز أبحاث السياسة الاقتصادية» الأوروبي التكلفة ما بين 220 مليار دولار و540 مليار دولار؛ علمًا بأن الرقم الأعلى يساوي أكثر من 3 أضعاف الناتج الإجمالي المحلي لأوكرانيا قبل الحرب، والرقم الأدنى يساوي 4 أضعاف ميزانية المساعدات الخارجية في الاتحاد الأوروبي.
تحديد هذه الأموال يتوقف أيضًا على منهجية إعادة الإعمار والأهداف الموضوعة. المبالغ المذكورة تكفي، وفقًا لحاسبيها، إعادة أوكرانيا إلى ما كانت عليه. هذا ليس سيئًا، نظرًا للفساد والترهل البيروقراطي في أوكرانيا، حيث تحل في المرتبة الـ 122 من 180 على مؤشر «منظمة الشفافية الدولية»! لكن إذا كان الهدف هو إعادة الإعمار وتحسين البلاد والتخلص من الفساد والبيروقراطية، فأمور كثيرة يجب أن تتغير.
كيف يمكن إعادة بناء أوكرانيا؟
إعادة التعمير فرصة نادرة لتحديث أوكرانيا. يقول الاقتصادي في جامعة كاليفورنيا، «يوري جورودنشينكو»، في حوار مع الإذاعة الوطنية العامة الأمريكية، إن المدن بعد إعادة بنائها يجب أن تحقق الحياد الكربوني عن طريق تحديث بنية الإسكان والمواصلات العامة التي يعود كثير منها إلى الحقبة السوفيتية، وفقًا للمعايير الحديثة، حتى لا تضطر أوكرانيا إلى الاعتماد على البترول والغاز الطبيعي الروسي.
وتقول المفوضية الأوروبية إن التحديث يجب أن يشمل دولة تتمتع بالحرية والرخاء بناءً على القيم الأوروبية، مع دمج البلد في الاقتصاد الأوروبي والعالمي ودعمه على المسار الأوروبي.
التكلفة إذا باهظة، ومع استمرار الحرب، فهي مرشحة للزيادة، لا سيما مع تركيز الروس ضرباتهم في منطقة «دونباس» شرقي البلاد، خاصة بعد انسحابهم من محيط «كييڤ»، واتباعهم سياسة الأرض المحروقة، التي تجلت في مدينة «ماريوبول»، حتى هزيمة آخر جيوب المقاومة الأوكرانية التي تحصنت بمصنع «آزوفستال» للصلب، ليدخل الروس مدينة لم يتبق منها شيء.
من سيتحمل التكلفة؟
تقول المفوضية الأوروبية إن تمويل إعادة إعمار أوكرانيا سيتم تحت إدارة السلطات الأوكرانية بالاشتراك مع المفوضية ممثلة للاتحاد الأوروبي، بالتعاون الوثيق مع شركاء أساسيين آخرين مثل مجموعة السبع ومجموعة العشرين ودول أخرى ومؤسسات مالية دولية.
وتعهد الاتحاد الأوروبي بتقديم 9.6 مليارات دولار إلى أوكرانيا في مايو الماضي في صورة قروض، كما ألزم نفسه بإعداد صندو دولي باسم «إعادة بناء أوكرانيا» لجمع التبرعات الدولية لمشروعات الإنشاء التي «سترسمها وتنفذها أوكرانيا» مع تقديم الاتحاد الأوروبي الدعم التقني لها.
وأعلنت الولايات المتحدة ودول أخرى دعمها لخطة شاملة لدعم إعادة بناء أوكرانيا. ومرر مجلس الشيوخ بالكونجرس الأمريكي حزمة مساعدات بقيمة 40 مليار دولار في مايو الماضي.
وأوضحت وزيرة الخزانة الأمريكي، «چانت يلين» في خطاب في مقر الاتحاد الأوروبي في «بروكسل» عاصمة «بلچيكا» أن المساعدات التي أُعلنت غير كافية لتلبية احتياجات أوكرانياK وإنها ستحتاج إلى دعم ضخم واستثمارات هائلة للقطاع الخاص على غرار «خطة مارشال».
كما قدمت دول غربية مسبقًا نحو 7 مليارات دولار في صورة قروض ومساعدات مالية للحفاظ على التمويل العام.
ويقول «جورودنشينكو» إنه يمكن الاستفادة من الأصول الروسية المحجوز عليها جراء العقوبات التي تبلغ 300 مليون دولار في دفع فاتورة الإصلاح، مثلما احتجزت الولايات المتحدة أصول ألمانيا النازية بداخلها وتقديمها لضحايا جرائم الحرب، لكن «يلين» تقول إن هذا لن يكون قانونيًا في الولايات المتحدة!
لكن «جورودنشينكو»، ومعه «باري إيشينجرين» الاقتصادي في جامعة كاليفورنيا أيضًا، يتخوفان من أن معظم مساعدات الاتحاد الأوروبي ستكون في صورة قروض، وأن أوكرانيا لن تستطيع سدادها في أي وقت قريب، مؤكدًا على أن «خطة مارشال» كان 90% منها منحًا.
اترك تعليق