كان للنساء دور بارز في التاريخ الإسلامي سواء بكونهن أمهات أو مجاهدات أو عابدات، يذكر التاريخ بحروف من نور أهمية الدور الذي قمن به لدعم أسرهن .. كانوا عنوانا للتحمل والإرادة وتحدي أصعب الصعاب..
"الجمهورية أون لاين" يوميا خلال الشهر الفضيل تلقي الضوء على نماذج رائدة لنساء خالدات هن المثل والقدوة الحسنة كيف تكون المرأة السند والدعم لاسرتها ولمجتمعها واليوم نتحدث عن السيدة مريم ابنة عمران.
جاء ذكر السيدة "مريم ابنة عمران" في القرآن الكريم حوالي أربع وثلاثين مرة وهي السيدة الوحيدة التي جاء اسمها بالتصريح وليس بالتلميح، كما هي عادة القرآن الكريم في ذكر سيرة النساء المؤمنات ويفسر لنا العلماء ذلك بأن قصة السيدة مريم ليست كغيرها من القصص التي يمكن تكرارها أو حدوثها مرة أخري بل هي تعتبر من الخوارق التي لا تحدث علي مر الزمان إلا مرة واحدة وهي أيضا من المعجزات التي لا تتكرر.
وتذكر كتب التفاسير أن اسم مريم لم يكن شائعا في ذلك الوقت وقد اختارته السيدة حنة لابنتها لأنه يعني في لغتهم "العابدة أو الخادمة" ويأتي اسمها متماشيا مع ما نوته تلك الأم المؤمنة من نذر ما في بطنها لله.
ويشير الله- سبحانه وتعالي- في كتابه الكريم إلي أن آل عمران أسرة مختارة ومفضلة مع من فضلهم الله- سبحانه وتعالي- علي العالمين وقد اختار المولي عز وجل هذه السلسلة من بني آدم لرسالاته وحمل لواء دينه. لإخلاص هذه الفئة بعينها في تبليغ شريعة ربها ولأنهم كانوا خالصين من الصفات الذميمة مزينين بالصفات الحميدة، التي تليق بما اختيروا له من هداية البشر إلي طريق الحق والنور والوحدانية.
ومريم هي من آل عمران، فهي من عائلة كريمة في النسب والدين عظيمة في الخلق لا يمكن لقادح أن يتعرض لها بسوء، وقد أكدت لنا الآيات الكريمة هذا المعني المقصود من الطهر والعفاف فيقول تعالي "ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم".
ووالدة السيدة مريم هي السيدة "حنة بنت فاقود" تلك السيدة المؤمنة التي حملت في أحشائها الطاهرة من ستصبح فيما بعد سيدة نساء العالمين. وحملت بها بعد طول انتظار ولما جاءت أنثي صممت هذه السيدة المؤمنة أن تفي بنذرها وتنجز بوعدها.
وبمجرد أن استراحت الأم من عناء الولادة وآثارها وأرضعت ابنتها مرات معدودة، لفتها فيپ قطعة من القماش وأخذتها إلي بيت المقدس ووضعتها بين يد الأحبار ليروا فيها رأيهم، وكان الأحبار في ذلك الوقت هم من أحفاد وأبناء هارون أخو موسي عليهما السلام.
وكان لهم الإشراف على بيت المقدس وما إن رأي الأحبار هذه الوليدة الصغيرة حتي هالهم ما رأوا من جمالها وقبولها ومالت قلوبهم نحوها وتنافسوا علي كفالتها خاصة وهي ابنة عمران خيرة أحبارهم تقي وصلاحا.
وكان من بين الأحبار المتنافسين زوج خالتها زكريا عليه السلام وكان نبي ذلك الزمان. وقال لهم سيدنا زكريا عليه السلام أنا أحق بها لأن خالتها عندي وذلك لأن الخالة ـ كما ورد في الحديث بمنزلة الأم ـ فأبوا وطلبوا الاقتراع عليها وقالوا نطرح أقلامنا في النهر الجاري وقيل أنه كان نهر الأردن فمن صعد قلمه فوق الماء فهو أحق بكفالة مريم.
ففعلوا ذلك فارتفع قلم زكريا عليه السلام فوق الماء وغطست أقلامهم، فأخذها زكريا وكفلها وضمها إلي خالتها واسترضع لها ورعاها هو وزوجته التي تعرف باسم "أشياع".
وهنا يشرح لنا النص القرآني الكريم وهو يخاطب سيدنا محمد- عليه أفضل الصلاة والسلام- فيقول رب العالمين في سورة آل عمران: "ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون".
مرت السنون وكبرت مريم وبلغت مبلغ الشباب، فأخذها زوج خالتها سيدنا زكريا عليه السلام إلي بيت المقدس حيث يكتمل الوعد وينجز وعد السيدة حنة أم مريم التي لا تذكر لنا كتب التفاسير عنها شيئا بعدما كبرت ابنتها، بل ويرجح البعض أنها ماتت قبل أن تري ابنتها وهي يافعة.
وتهيأ لمريم الفتاه غرفة صغيرة ملحقة ببيت المقدس بنيت لها خصيصا، لها سلم ربما يكون سلما خشبيا بناه لها نبي الله زكريا الذي عرف عنه أنه كان نجارا.
وبدأت مريم في غرفتها هذه تخلو لنفسها وتنقطع للعبادة والتأمل وكانت تقوم في خدمة بيت المقدس. فتنظفه وتطهره وتهيئه للعابدين والعاكفين وما إن تنتهي من عملها حتي تتجه إلي غرفتها وتعتزل الناس وتتوجه إلي الله في خشوع وتضرع وكانت أغلب عبادتها الصلاة وكانت تقيمها بخضوع وتأن لله- عز وجل- وكانت تتبع صلواتها بالدعاء والابتهال إلي الله الخالق الرازق الوهاب.
ذاعت شهرة مريم في بني إسرائيل. وضرب المثل بتقواها وصلاحها. وتمني كثير من الصالحين أن تربي بناتهن وتنشأ مثلما نشأت مريم.
واعتاد سيدنا زكريا عليه السلام أن يحمل إلي مريم في خلوتها تكريما لها الطعام كل يوم. وبعد مدة لاحظ أنه كلما عاد إليها وجد عجبا.. كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء! وفاكهة الشتاء في الصيف! فتعجب من ذلك.. انه لم يحضر لها تلك الفاكهة ولا أحد يدخل عليها المحراب فمن يأتي لها بهذه الفاكهة فسألها: "يا مريم أني لك هذا؟.
قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب". وفي هذه اللحظات وبعد أن رأي سيدنا زكريا من يقين مريم بربها هذه الدرجة وتلك الثقة أحيا الأمل في نفسه أن يكون له ولد صالح حتي وان كان قد بلغه الكبر!.
ولم تكن مصادفة أن يأتينا النص القرآني بدعاء سيدنا زكريا في سورة تسمي بسورة مريم.. وما ذلك إلا توضيحا وشرحا لهذا الموقف!
حملت مريم بوليدها وبدأت علامات الحمل تظهر عليها وتناثرت أقوال خبيثة تطعن فيها فتوارت عن الناس في مكان بعيد وجاءتها آلام الوضع فلجأت إلي جذع نخلة حتي تضع مولودها. وقالت وهي تعاني الأم المخاض: "يا ليتني مت قبل هذا. وكنت نسيا منسيا".
لكن الله خفف عنها ما تشعر به من كرب وحزن بولادتها مولودا من غير أب. وبما تعانيه من ضعف ووهن بعد الوضع. فناداها جبريل عليه السلام: "ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا. وهزي إليك بجذع نخلة تساقط عليك رطبا جنيا. فكلي واشربي. وقري عينا. فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم انسيا".
وتستسلم مريم لأمر الله كما هي عادة الصالحين والمؤمنين بالله وتبدأ بالاستعداد لرعاية هذا النور الذي أتاها وهذا المولود الذي من الله به علي بني إسرائيل ليحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث. ويرفع عنهم بعض العقوبات التي فرضها الله عليهم وتتوقف قصة السيدة مريم عند قول الله- عز وجل- "فأشارت إليه".
وهنا ينطق المسيح عليه السلام مبرئا لأمه، مبينا لرسالته وتتوقف الآيات عن الكلام عن السيدة مريم تماما ويبدأ الكلام عن المسيح عليه السلام وقصته مع بني إسرائيل وما لقيه منهم.
فقد أدت السيدة مريم دورها العظيم في التاريخ وأي دور!.
ضربت لنا مثالا رائعا ودرسا جميلا في الانقياد لقدر الله والاستسلام لمشيئته سبحانه وتعالي والثبات على الإيمان في العسر.
اترك تعليق